Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
Abdelhamid Hadouch LIBREXPRESSION
28 août 2011

كتاب الشفا للقاضي عياض

 

 

 

 

كتاب

 

الشفا بتعريفحقوق المصطفى

 

القاضي عياض


بسم الله الرحمن الرحيم

 

ترجمة المؤلف

 

مقام عياض مثل مقام البخاري والأئمة الأربعة؛ فهم حملة الشريعة وعلومها التي يبثُّونها في صدور الرجال بالتلقين والتأليف، ذَبُّوا عن الشريعة بسيوف علومهم؛ فبقيت علومهم خالدة تالدة إلى الأبد، وكم من ولي لله كان معهم وبعدهم بكثير، كان لهم تلاميذ وأوراد، وانقطعت تلك الأوراد وباد المريدون بمرور الأزمان، وأئمة العلم ما زالوا بعلومهم كأنهم أحياء.." هذا الكلام النفيس من بيان أبي عبد الله محمد الأمين في كتابه "المجد الطارف والتالد"، يصف مكانة القاضي عياض العلمية، وقدره الرفيع بين علماء الإسلام، وليس في كلام الشيخ مبالغة أو تزويد؛ فقد حقق القاضي عياض شهرة واسعة حتى قيل: لولا عياض لما عُرف المغرب، وكأنهم يعنون –في جملة ما يعنون- أنه أول من لفت نظر علماء المشرق إلى علماء المغرب حتى أواسط القرن السادس الهجري.

 

المولد والنشأة

 

يعود نسب القاضي "عياض بن موسى اليحصبي" إلى إحدى قبائل اليمن العربية القحطانية، وكان أسلافه قد نزلوا مدينة "بسطة" الأندلسية من نواحي "غرناطة" واستقروا بها، ثم انتقلوا إلى مدينة "فاس" المغربية، ثم غادرها جده "عمرون" إلى مدينة "سبتة" حوالي سنة (373 هـ = 893م)، واشتهرت أسرته بـ"سبتة"؛ لما عُرف عنها من تقوى وصلاح، وشهدت هذه المدينة مولد عياض في (15 من شعبان 476هـ = 28 من ديسمبر 1083م)، ونشأ بها وتعلم، وتتلمذ على شيوخها.

 

الرحلة في طلب العلم

 

رحل عياض إلى الأندلس سنة (507هـ = 1113م) طلبًا لسماع الحديث وتحقيق الروايات، وطاف بحواضر الأندلس التي كانت تفخر بشيوخها وأعلامها في الفقه والحديث؛ فنزل قرطبة أول ما نزل، وأخذ عن شيوخها المعروفين كـ"ابن عتاب"، و"ابن الحاج"، و"ابن رشد"، و"أبي الحسين بن سراج" وغيرهم، ثم رحل إلى "مرسية" سنة (508هـ = 1114م)، والتقى بأبي علي الحسين بن محمد الصدفي، وكان حافظًا متقنًا حجة في عصره، فلازمه، وسمع عليه الصحيحين البخاري ومسلم، وأجازه بجميع مروياته.

 

اكتفى عياض بما حصله في رحلته إلى الأندلس، ولم يلبث أن رحل إلى المشرق مثلما يفعل غيره من طلاب العلم، وفي هذا إشارة إلى ازدهار الحركة العلمية في الأندلس وظهور عدد كبير من علمائها في ميادين الثقافة العربية والإسلامية، يناظرون في سعة علمهم ونبوغهم علماء المشرق المعروفين.

 

عاد عياض إلى "سبتة" غزير العلم، جامعًا معارف واسعة؛ فاتجهت إليه الأنظار، والتفَّ حوله طلاب العلم وطلاب الفتوى، وكانت عودته في (7 من جمادى الآخرة 508هـ = 9 من أكتوبر 1114م)، وجلس للتدريس وهو في الثانية والثلاثين من عمره، ثم تقلد منصب القضاء في "سبتة" سنة (515 هـ = 1121م) وظل في منصبه ستة عشر عامًا، كان موضع تقدير الناس وإجلالهم له، ثم تولى قضاء "غرناطة" سنة (531هـ = 1136م) وأقام بها مدة، ثم عاد إلى "سبتة" مرة أخرى ليتولى قضاءها سنة (539هـ = 1144م).

 

القاضي عياض محدثًا

 

كانت حياة القاضي عياض موزعة بين القضاء والإقراء والتأليف، غير أن الذي أذاع شهرته، وخلَّد ذكره هو مصنفاته التي بوَّأَتْه مكانة رفيعة بين كبار الأئمة في تاريخ الإسلام، وحسبك مؤلفاته التي تشهد على سعة العلم وإتقان الحفظ، وجودة الفكر، والتبحر في فنون مختلفة من العلم.

 

وكان القاضي عياض في علم الحديث الفذَّ في الحفظ والرواية والدراية، العارف بطرقه، الحافظ لرجاله، البصير بحالهم؛ ولكي ينال هذه المكانة المرموقة كان سعيه الحثيث في سماع الحديث من رجاله المعروفين والرحلة في طلبه، حتى تحقق له من علو الإسناد والضبط والإتقان ما لم يتحقق إلا للجهابذة من المحدِّثين، وكان منهج عياض في الرواية يقوم على التحقيق والتدقيق وتوثيق المتن، وهو يعد النقل والرواية الأصل في إثبات صحة الحديث، وتشدد في قضية النقد لمتن الحديث ولفظه، وتأويل لفظه أو روايته بالمعنى، وما يجره ذلك من أبواب الخلاف.

 

وطالب المحدث أن ينقل الحديث مثلما سمعه ورواه، وأنه إذا انتقد ما سمعه فإنه يجب عليه إيراد ما سمعه مع التنبيه على ما فيه؛ أي أنه يروي الحديث كما سمعه مع بيان ما يَعِنُّ له من تصويب فيه، دون قطع برأي يؤدي إلى الجرأة على الحديث، ويفتح بابًا للتهجم قد يحمل صاحبه على التعبير والتصرف في الحديث بالرأي.

 

وألَّف القاضي في شرح الحديث ثلاثة كتب هي: "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" وهو من أدَلِّ الكتب على سعة ثقافة عياض في علم الحديث وقدرته على الضبط والفهم، والتنبيه على مواطن الخطأ والوهم والزلل والتصحيف، وقد ضبط عياض في هذا الكتاب ما التبس أو أشكل من ألفاظ الحديث الذي ورد في الصحيحين وموطأ مالك، وشرح ما غمض في الكتب الثلاثة من ألفاظ، وحرَّر ما وقع فيه الاختلاف، أو تصرف فيه الرواة بالخطأ والتوهم في السند والمتن، ثم رتَّب هذه الكلمات التي عرض لها على ترتيب حروف المعجم.

 

أما الكتابان الآخران فهما "إكمال المعلم" شرح فيه صحيح مسلم، و"بغية الرائد لما في حديث أم زرع من الفوائد".

 

وله في علم الحديث كتاب عظيم هو " الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع"

 

... فقيهًا

 

درس القاضي عياض على شيوخه بـ"سبتة" المدونة لابن سحنون، وهو مؤلَّف يدور عليه الفقه المالكي، ويُعَدُّ مرجعَهُ الأول بلا منازع، وقد كُتبت عليه الشروح والمختصرات والحواشي، غير أن المدونة لم تكن حسنة التبويب؛ حيث تتداخل فيها المسائل المختلفة في الباب الواحد، وتعاني من عدم إحكام وضع الآثار مع المسائل الفقهية.

 

وقد لاحظ القاضي عياض هذا عند دراسته "المدونة" على أكثر من شيخ؛ فنهض إلى عمل عظيم، فحرَّر رواياتها، وسمى رواتها، وشرح غامضها، وضبط ألفاظها، وذلك في كتابه "التنبيهات المستنبَطة على الكتب المدونة والمختلطة" ولا شكَّ أن قيام القاضي عياض بمثل هذا العمل يُعد خطوة مهمة في سبيل ضبط المذهب المالكي وازدهاره.

 

القاضي عياض مؤرخًا

 

ودخل القاضي ميدان التاريخ من باب الفقه والحديث، فألَّف كتابه المعروف " تدريب المدارك"، وهو يُعَدُّ أكبر موسوعة تتناول ترجمة رجال المذهب المالكي ورواة "الموطأ" وعلمائه، وقد استهلَّ الكتاب ببيان فضل علم أهل المدينة، ودافع عن نظرية المالكية في الأخذ بعمل أهل المدينة، باعتباره عندهم من أصول التشريع، وحاول ترجيح مذهبه على سائر المذاهب، ثم شرع في الترجمة للإمام مالك وأصحابه وتلاميذه، وهو يعتمد في كتابه على نظام الطبقات دون اعتبار للترتيب الألفبائي؛ حيث أورد بعد ترجمة الإمام مالك ترجمة أصحابه، ثم أتباعهم طبقة طبقة حتى وصل إلى شيوخه الذين عاصرهم وتلقى على أيديهم.

 

والتزم في طبقاته التوزيع الجغرافي لمن يترجم لهم، وخصص لكل بلد عنوانًا يدرج تحته علماءه من المالكية؛ فخصص للمدينة ومصر والشام والعراق عناوين خاصة بها، وإن كان ملتزما بنظام الطبقات.

 

وأفرد لعلمائه وشيوخه الذين التقى بهم في رحلته كتابه المعروف باسم "الغُنية"، ترجم لهم فيه، وتناول حياتهم ومؤلفاتهم وما لهم من مكانة ومنزله وتأثير، كما أفرد مكانا لشيخه القاضي أبي على الحسين الصدفي في كتابه "المعجم" تعرض فيه لشيخه وأخباره وشيوخه، وكان "الصدفي" عالمًا عظيما اتسعت مروياته، وصار حلقة وصل بين سلاسل الإسناد لعلماء المشرق والمغرب؛ لكثرة ما قابل من العلماء، وروى عنهم، واستُجيز منهم.

 

... أديبًا

 

وكان القاضي أديبًا كبيرًا إلى جانب كونه محدثًا فقيهًا، له بيان قوي وأسلوب بليغ، يشف عن ثقافة لغوية متمكنة وبصر بالعربية وفنونها، ولم يكن ذلك غريبًا عليه؛ فقد كان حريصًا على دراسة كتب اللغة والأدب حرصه على تلقي الحديث والفقه، فقرأ أمهات كتب الأدب، ورواها بالإسناد عن شيوخه مثلما فعل مع كتب الحديث والآثار، فدرس "الكامل" للمبرد و"أدب الكاتب" لابن قتيبة، و"إصلاح المنطق" لابن السكيت، و"ديوان الحماسة"، و"الأمالي" لأبي علي القالي.

 

وكان لهذه الدراسة أثرها فيما كتب وأنشأ، وطبعت أسلوبه بجمال اللفظ، وإحكام العبارة، وقوة السبك، ودقة التعبير.

 

وللقاضي شعر دوَّنته الكتب التي ترجمت له، ويدور حول النسيب والتشوق إلى زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم)، والمعروف أن حياته العلمية وانشغاله بالقضاء صرفه عن أداء فريضة الحج، ومن شعره الذي يعبر عن شوقه ولوعته الوجدانية ولهفته إلى زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم):

 

بشراك بشراك فقد لاحت قبابهم

 

فانزل فقد نلت ما تهوى وتختار

 

هذا المحصب، هذا الخيف خيف منى

 

هذي منازلهم هذي هي الدار

 

هذا الذي وخذت شوقًا له الإبل

 

هذا الحبيب الذي ما منه لي بدل

 

هذا الذي ما رأتْ عين ولا سمعت

 

أذْنٌ بأكرمَ من كَفِّهِ إن سألوا

 

ولا يمكن لأحد أن يغفل كتابه العظيم "الشفا بأحوال المصطفى" الذي تناول فيه سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقصد من كتابه إحاطة الذات النبوية بكل ما يليق بها من العصمة والتفرد والتميز عن سائر البشر، في الوقت الذي كانت فيه آراء جانحة تخوض في مسألة النبوة، وتسوِّي بين العقل والوحي. ولما كان النص الشرعي مصدرًا أساسيًا للمعرفة وأصلا لا يحتمل النزاع فيه متى ثبت بالسند الصحيح، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) مصدر هذه المعرفة، فقد انبرى القاضي عياض ببيان مقام النبوة وصيانته من كل ما لا يليق به.

 

وفاته

 

عاش القاضي عياض الشطر الأكبر من حياته في ظل دولة "المرابطين"، التي كانت تدعم المذهب المالكي، وتكرم علماءه، وتوليهم مناصب القيادة والتوجيه، فلما حلَّ بها الضعف ودبَّ فيها الوهن ظهرت دولة "الموحدين"، وقامت على أنقاض المرابطين، وكانت دولة تقوم على أساس دعوة دينية، وتهدف إلى تحرير الفكر من جمود الفقهاء والعودة إلى القرآن والسنة بدلاً من الانشغال بالفروع الفقهية، وكان من الطبيعي أن يصطدم القاضي عياض -بتكوينه الثقافي ومذهبه الفقهي- مع الدولة القادمة، بل قاد أهل "سبتة" للثورة عليها، لكنها لم تفلح، واضطر القاضي أن يبايع زعيم "الموحدين" عبد المؤمن بن علي الكومي.

 

ولم تطُلْ به الحياة في عهد "الموحدين"، فتوفي في (9 من جمادى الآخرة 544 هـ = 14 من أكتوبر 1149م)

 

من مصادر الدراسة:

 

·                  ابن بشكوال: كتاب الصلة ـ الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ القاهرة ـ 1966م.

 

·                  القاضي عياض: ترتيب المدارك ـ تحقيق أحمد بكير محمود ـ مكتبة الحياة ـ بيروت ـ بدون تاريخ.

 

محمد الكتاني: القاضي عياض، الشخصية والدور الثقافي ـ مجلة الدارة ـ العدد الرابع ـ السنة السادسة عشر ـ 1411.

 

 


مقدمة الكتاب

 

اللهم صل على سيدنا  محمد و آله و سلم .
قال الفقيه القاضي الإمام الحافظ أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي رضي الله عنه   : الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى ، المختص بالملك الأعز الأحمى ، الذي ليس دونه منتهى ، و لا وراءه مرمى ، الظاهر لا تخيلا و وهما ، الباطن تقدسا لا عدماً ، وسع كل شيء رحمةً و علماً ، و أسبغ على أوليائه نعما عماً ، و بعث فيهم رسولاً من أنفسهم عرباً و عجماً ، و أزكاهم محتداً و منمى ، و أرجحهم عقلاً و حلماً ، و أوفرهم علماً و فهماً ، و أقواهم يقيناً و عزماً ، و أشدهم بهم رأفة و رحمى ، و زكاه روحاً و جسماً ، وحاشاه عيباً و وصماً ، و آتاه حكمة و حكماً ، و فتح به أعيناً عمياً ، و قلوباً غلفاً ، و آذاناً صماً ، فآمن به و عزره ، و نصره من جعل الله له في مغنم السعادة قسماً ، و كذب به و صدف عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتماً ، و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى . صلى الله عليه وسلم صلاةً تنمو و تنمى ، و على آله و سلم تسليماً كثيراً .
أما بعد أشرق الله قلبي و قلبك بأنوار اليقين ، و لطف لي و لك بما لطف لأوليائه المتقين ، الذين شرفه م الله بنزل قدسه ، و أوحشهم من الخليقة بأنسه ، و خصهم من معرفته و مشاهدة [ 2 ] عجائب ملكوته و آثار قدرته بما ملأ قلوبهم حبرة ، و وله عقولهم في عظمته حيرة ، فجعلوا همهم به واحداً ، و لم يروا في الدارين غيره مشاهدا ، فهم بمشاهدة جماله و جلاله يتنعمون ، و بين آثار قدرته و عجائب عظمته يترددون ، و بالإنقطاع إليه و التوكل عليه يتعززون ، لهجين بصادق قوله : قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ( سورة الأنعام / 6 : آية 91 ) .
فإنك كررت علي السؤال في مجموع يتضمن التعريف بقدر المصطفى عليه الصلاة والسلام ، و ما يجب له من توقير و إكرام ، و ما حكم من لم يوف واجب عظيم ذلك القدر ، أو قصر في حق منصبه الجليل قلامة ظفر ، و أن أجمع لك ما لأسلافنا وأئمتنا في ذلك من مقال ، و أبينه بتنزيل صور و أمثال .
فاعلم _ أكرمك الله _ أنك حملتني من ذلك أمراً إمراً ، و أرهقتني فيما ندبتني إليه عسراً ، و أرقيتني بما كلفتني مرتقى صعباً ، ملأ قلبي رعباً ، فإن الكلام في ذلك يستدعي تقرير أصول و تحرير فصول ، و الكشف عن غوامض و دقائق من علم الحقائق ، مما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم ويضاف إليه ، أو يمتنع أو يجوز عليه ، و معرفة النبي و الرسول ، و الرسالة و النبوة ، و المحبة و الخلة ، و خصائص هذه الدرجة العلية ، و ها هنا مهامه فيح تحار فيها القطا ، و تقصر بها الخطا ، و مجاهل تضل فيها الأحلام إن لم تهتد بعلم علم و نظر سديد ، و مداحض تزل[3] بها الأقدام ،إن لم تعتمد على توفيق من الله وتأييد .
لكني لما رجوته لي و لك في هذا السؤال و الجواب من نوال و ثواب ، بتعريف قدره الجسيم ، و خلقه العظيم ، و بيان خصائصه التي لم تجتمع قبل في مخلوق ، و ما يدان الله تعالى به من حقه الذي هو أرفع الحقوق ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، و يزداد الذين آمنوا إيماناً ، و لما أخذ الله تعالى على الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس و لا يكتمونه .
و لما حدثنا به أبو الوليد هشام بن أحمد الفقيه بقراءتي عليه ، قال : حدثنا الحسين ابن محمد ، حدثنا أبو عمر النمري حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن ، حدثنا أبو بكر محمد ابن بكر ، حدثنا سليمان بن الأشعث ، حدثنا موسى بن اسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا علي بن الحكم ، عن عطاء ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة .
فبادرت إلى نكت مسفرة عن وجه الغرض ، مؤدياً من ذلك الحق المفترض ، اختلسها على استعجال ، لما المرء بصدده من شغل البدن و البال ، بما طوقه من مقاليد المحنة التي ابتلى بها ، فكادت تشغل عن كل فرض و نفل ، و ترد بعد حسن التقويم إلى أسفل سفل ، و لو أراد الله بالإنسان خيراً لجعل شغله و همه كله فيما يحمد غداً أو يذم محله ، فليس ثم سوى حضرة النعيم ، أو عذاب الجحيم ، و لكان عليه بخويصته ، و استنفاذ مهجته و عمل صالح يستزيده ، و علم نافع يفيده أو يستفيده .
جبر الله صدع قلوبنا ، و غفر عظيم ذنوبنا ، و جعل جميع [ 3 ] استعدادنا لمعادنا ، و توفر دواعينا فيما ينجينا و يقربنا إليه زلفة ، و يحظينا بمنه و كرمه و رحمته .
و لما نويت تقريبه ، و درجت تبويبه ، و مهدت تأصيله ، و خلصت تفصيله ، و انتحيت حصره و تحصيله ، ترجمته ب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، و حصرت الكلام فيه في أقسام أربعة :
القسم الأول : في تعظيم العلي الأعلى لقدر هذا النبي قولاً و فعلاً ، و توجه الكلام فيه في أربعة أبواب :
الباب الأول : في ثنائه تعالى عليه ، و اظهاره عظيم قدره لديه ، و فيه عشرة فصول .
الباب الثاني : في تكميله تعال ى له المحاسن خلقاً و خلقاً ، قرانه جميع الفضائل الدينية و الدنيوية فيه نسقاً ، و فيه سبعة و عشرون فصلاً .
الباب الثالث : فيما ورد من صحيح الأخبار و مشهورها [ 4 ] بعظيم قدره عند ربه و منزلته ، و ما خصه به في الدارين من كرامته ، و فيه اثنا عشر فصلاً .
الباب الرابع : فيما أظهره الله تعالى على يديه من الآيات و المعجزات ، و شرفه به من الخصائص و الكرامات ، و فيه ثلاثون فصـل .
القسم الثاني : فيما يجب على الأنام من حقوقه عليه السلام ، و يترتب القول فيه في أربعة أبواب :
الباب الأول : في فرض الإيمان به و وجوب طاعته و اتباع سنته ، و فيه خمسة فصول .
الباب الثاني : في لزوم محبته و منا صحته ، و فيه ستة فصول .
الباب الثالث : في تعظيم أمره و لزوم توقيره و بره ، و فيه سبعة فصول .
الباب الرابع : في حكم الصلاة عليه و التسليم و فرض ذلك و فضيلته ، و فيه عشرة فصول .
القسم الثالث : ـ فيما يستحيل في حقه ، و ما يجوز عليه شرعاً ، و ما يمتنع و يصح من الأمور البشرية أن يضاف إليه .
و هذا القسم ـ أكرمك الله ـ هو سر الكتاب ، و لباب ثمرة هذه الأبواب ، و ما قبله له كالقواعد و التمهيدات و الدلائل على ما ن ورده فيه من النكت البينات ، و هو الحاكم على ما بعده ، و المنجز من غرض هذا التأليف و عده ، و عند التقصي لموعدته ، و التفصي عن عهدته ، يشرق صدر العدو اللعين ، و يشرق قلب المؤمن باليقين ، و تملأ أنواره جوانح صدره و يقدر العاقل النبي حق قدره . و يتحرر الكلام فيه في بابين [5 ] :
الباب الأول : فيما يختص بالأمور الدينية ، و يتشبث به القول في العصمة و فيه ستة عشر فصلاً .
الباب الثاني : في أحواله الدنيوية ، و ما يجوز طروءه عليه من الأعراض البشرية،و فيه تسعة فصول.
القسم الرابع : في تصرف وجوه الأحكام على من تنقصه أو سبه صلى الله عليه و سلم و ينقسم الكلام فيه في بابين :
الباب الأول : في بيان ما هو في حقه سب و نقص ، من تعريض ، أو نص ، و فيه عشرة فصول .
الباب الثاني : في حكم شانئه و مؤذيه و متنقصه و عقوبته ، و ذكر استتابته ، و الصلاة عليه و وراثته ، و فهي عشرة فصول .
و ختمناه بباب ثالث جعلناه تكملة لهذه المسألة [ 5 ] ، و وصلة للبابين اللذين قبله في حكم من سب الله تعالى و رسله و ملائكته و كتبه ، و آل النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم و صحبه .
و اختصر الكلام فيه في خمسة فصول ، و بتمامها ينتجز الكتاب ، و تتم الأقسام و الأبواب ، و تلوح في غرة الإيمان لمعة منيرة ، و في تاج التراجم درة خطيرة ، تزيح كل لبس ، و توضح كل تخمين و حدس ، و تشفي صدور قوم مؤمنين ، و تصدع بالحق ، و تعرض عن الجاهلين ، و با لله تعالى ـ لا إله سواه ـ أستعين
.


القسم الأول

 

في تعظيم العلي الأعلى لقدر هذا النبي قولاًو فعلاً

 

قال [ الفقيه ] القاضي الإمام أبو الفضل رضي الله عنه :
لا خفاء على من مارس شيئاً من العلم ، أو خص بأدنى لمحة من فهم ، بتعظيم الله تعالى قدر نبينا عليه [ الصلاة و ] السلام ، و خصوصه إياه بفضائل و محاسن و مناقب لا تنضبط لزمام ، و تنويهه من عظيم قدره بما تكل عنه الألسنة و الأقلام .
فمنها ما صرح به الله تعالى في كتابه ، و نبه به على جليل نصابه ، و أثنى عليه من أخلاقه و أدابه ، و حض العباد على التزامه ، و تقلد إيجابه ، فكان جل جلاله هو الذي تفضل و أولى ، ثم طهر و زكى ، ثم مدح بذلك و أثنى ، ثم أثاب عليه الجزاء الأوفى ، فله الفضل بدءاً [ 6 ] و عودا ً ، و الحمد أولى و أخرى .
ومنها ماأبرزه للعيان من خلقه على أتم وجوه الكمال و الجلال ، و تخصيصه بالمحاسن الجميلة و الأخلاق الحميدة ، و المذاهب الكريمة ، و الفضائل العديدة ، و تأييده بالمعجزات الباهرة ، و البراهين الواضحة ، و الكرامات البينة التي شاهدها من عاصره و رآها من أدركه ، و علمها علم يقين من جاء بعده ، حتى انتهى علم ذلك إلينا ، و فاضت أنواره علينا ، صلى الله عليه وسلم كثيراً .
حدثنا القاضي الشهيد أبو علي الحسين بن محمد الحافظ ، رحمه الله قراءة منى عليه ، قال : أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار ، و أبو الفضل أحمد بن خيرون ، قالا : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، قال : حدثنا أبو علي السنجي ، قال : محمد بن أحمد ابن محبوب ، قال : حدثنا أبو عيسى بن سورة الحافظ ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسري به ملجماً مسرجاً، فاستصعب عليه ، فقال له جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه . قال : فارفض عرقاً .


الباب الأول : في ثناء الله تعالى عليه و إظهاره عظيم قدره لديه

 


اعلم أن في كتاب الله العزيز آيات كثيرة مفصحة بجميل ذكر المصطفى ، و عد محاسنه ، و تعظيم أمره ، و تنويه قدره ، اعتمدنا منها على ما ظهر معناه ، و بان فحواه ، و جمعنا ذلك في عشرة فصول :

 

الفصل الأول

 

فيما جاء من ذلك مجيء المدح و الثناء و تعداد المحاسن ، كقوله تعالى : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [ سورة التوبة /9 : الآية 128 ] .
قال السمرقندي [ 6 ] : و قرأ بعضهم : من أنفسكم ـ بفتح الفاء . و قراءة الجمهور بالضم .
قال القاضي الإمام أبو الفضل ـ [ وفقه الله ] أعلم الله تعالى المؤمنين ، أو العرب ، أو أهل مكة ، أو جميع الناس ، على اختلاف المفسرين : من المواجه بهذا الخطاب أنه بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يعرفونه ، و يتحققون مكانه ، و يعلمونه صدقه و أمانته ، فلا يتهمونه بالكذب و ترك النصيحة لهم ، لكونه منهم ، و أنه لم تكن في العرب قبيلة إلا و لها على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولادة أو قرابة ، [ و هو عند ابن عباس و غيره معنىقوله تعالى : إلا المودة في القربى ] و ك ونه من أشرفهم ، و أرفعهم ، و أفضلهم ، على قراءة الفتح ، و هذه نهاية المدح ، ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة ، و أثنى عليه بمحامد كثيرة ، من حرصه على هدايتهم و رشدهم و إسلامهم ، و شدة ما يعنتهم و يضر بهم في دنياهم و أخراهم ، و عزته و رأفته و رحمته بمؤمنهم .
قال بعضهم : أعطاه اسمين من أسمائه : رؤوف ، رحيم .
و مثله في الآية الأخرى : قوله تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [ سورة آل عمران /3 ، الأية : 164]
و في الأية الأخرى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [ سورة الجمعة /62 : الأية 2 ] .
و قوله تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون [ سورة البقرة /2 : الآية 151 ] .
و روي عن علي بن أبي طالب ، عنه صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : من أنفسكم قال : نسباً و صهراً و حسباً ، ليس فى آبائي من لدن آدم سفاح ، كلنا نكاح .
[ قال ابن الكلبي : كتبت للنبي صلى الله عليه و سلم خمسمائة أم ، فما وجدت فيهن سفاحاً و لا شيئاً مما كان عليه الجاهلية .
و عن ابن عباس رضي الله عنه ـ في قوله تعالى : وتقلبك في الساجدين ـ قال : من نبي إلى نبي ، حتى أخرجك نبياً ] .
و قال جعفر ابن محمد : علم الله عجز خلقه عن طاعته ، فعرفهم ذلك ، لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته ، فأقام بينهم و بينه مخلوقاً من جنسهم في الصورة ، و ألبسه من نعمته [ 7 ] الرأفة و الرحمة ، و أخرجه إلى الخلق سفيراً صادقاً ، و جعل طاعته طاعته ، و موافقته ، فقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله .
و قال الله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ سورة الأنبياء / 21 : الآية 107 ] .
قال أبو بكر بن طاهر : زين الله تعالى محمداً صلى الله عليه و سلم بزينة الرحمة ، فكان كونه رحمة ، و جميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق ، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه ، و الواصل فيهما إلى كل محبوب ، ألا ترى أن الله يقول : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، فكانت حياته رحمة ، و مماته رحمة ، كما قال عليه السلام : حياتي خير لكم و موتي خير لكم و كما قال عليه الصلاة و السلام : إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها ، فجعله لها فرطاً و سلفاً . و قال السمر قندي : رحمة للعالمين : يعني للجن و الإنس .
و قيل : لجميع الخلق ، للمؤمن رحمة بالهداية ، و رحمة للمنافق بالأمان من القتل ، و رحمة للكافر بتأخير العذاب .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو رحمة للمؤمنين و للكافرين ، إذ عوفوا مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة .
و حكى أن النبى صلى الله عليه و سلم قال لجبريل عليه السلام : هل أصابك من هذه الرحمة شىء ؟ قال : نعم ، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله عز وجل علي بقوله : ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين [ سورة التكوير / 81 : الأية 20 ـ 21 ] .
و روي عن جعفر بن محمد الصادق ـ فى قوله تعالى : فسلام لك من أصحاب اليمين . أي بك ، إنما وقعت سلامتهم من أجل كرامة محمد صلى الله عليه و سلم .
و قال الله تعالى : الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم [ سورة النور / 24 : الأية 35 ] .
قال كعب ، و ابن جبير : المراد بالنور الثاني هنا محمد عليه السلام [7 ] . و قوله تعالى مثل نوره أي نور محمد صلى الله عليه و سلم .
و قال سهل بن عبد الله : المعنى : الله هادي أهل السموات و الأرض ، ثم قال : مثل نور محمد إذ كان مستودعاً في الأصلاب كمشكاة صفتها كذا ، و أراد بالمصباح قلبه ، و بالزجاجة صدره ، أي كأنه كوكب دري لما فيه من الإيمان و الحكمة يوقد من شجرة مباركة أي من نور إبراهيم . و ضرب المثل بالشجرة المباركة .
و قوله : يكاد زيتها يضيء أي تكاد نبوة محمد صلى الله عليه و سلم تبين للناس قبل كلامه كهذا الزيت .
و قيل في هذه الآية غير هذا . و الله أعلم .
و قد سماه الله تعالى في القرآن في غير هذا الموضع نوراً و سراجاً منيراً ، فقال تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين [ سورة المائدة / 5 : الآية 15 ] .
و قال تعالى : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ سورة الأحزاب / 33 : الأية 45 ـ 46 ] .
و من ه ذا قوله تعالى : ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك * فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا * فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب [ سورة الشرح / 94 ] .
شرح : وسع . و المراد بالصدر هنا : القلب . قال ابن عباس : شرحه بالإسلام .
و قال سهل : بنور الرسالة .
و قال الحسن : ملأه حكماً و علماً .
و قيل : معناه ألم نطهر قلبك حتى لا يؤذيك الوسواس . و وضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك :
قيل : ما سلف من ذنبك ـ يعني قبل النبوة .
و قيل : أراد ثقل أيام الجاهلية .
و قيل : أراد ما أثقل ظهره من الرسالة حتى بلغها . حكاه الماوردي و السلمي .
و قيل : عصمناك ، و لولا ذلك لأثقلت الذنوب ظهرك ، حكاه السمرقندي .
ورفعنا لك ذكرك قال يحيى بن آدم : بالنبوة . و قيل : إذا ذكرت ذكرت معي قول : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . و قيل : في الأذان [ 8 ] .
قال القاضي أبو الفضل : هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه صلى الله عليه وسلم على عظيم نعمه لديه ، و شريف منزلته عنده ، و كرامته عليه ، بأن شرح قلبه للإيمان و الهداية ، و وسعه لوعى العلم ، و حمل الحكمة ، و رفع عنه ثقل أمور الجاهلية عليه ، و بغضه لسيرها ، و ما كانت عليه بظهور دينه على الدين كله ، و حط عنه عهدة أعباء الرسالة و النبوة لتبليغه للناس ما نزل إليهم ، و تنويهه بعظيم مكانه ، و جليل رتبته ، و رفعه و ذكره ، و قرانه مع اسمه اسمه .
قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب و لا متشهد و لا صاحب صلاة إلا يقول : أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله .
و روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل عليه السلام ، فقال : إن ربي و ربك يقول : تدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله و رسوله أعلم . قال : إذا ذكرت ذكرت معي .
قال ابن عطاء : جعلت تمام الإيمان بذكري معك .
و قال أيضاً : جعلتك ذكراً من ذكرى ، فمن ذكرك ذكرني .
و قال جعفر بن محمد الصادق : لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية .      
و أشار بعضهم في ذلك إلى الشفاعة .
و من ذكره معه تعالى أن قرن طاعته بطاعته و اسمه باسمه ، فقال تعالى : أطيعوا الله والرسول . و آمنوا بالله ورسوله ، فجمع بينهما بواو العطف المشركة .
و لا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه السلام .
حدثنا الشيخ أبو علي الحسين بن محمد الجياني الحافظ فيما أجازنيه [ 8 ] ، و قرأته على الثقة عنه ، قال : حدثنا أبو عمر النمري ، قال : حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن ، حدثنا أبو بكر بن داسة : حدثنا أبو داود السجزي ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن عبد الله بن يسار ، عن حذيفة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يقولن أحدكم ما شاء الله و شاء فلان ، و لكن ما شاء الله ثم شاء فلان .
قال الخطابي : أرشدهم صلى الله عليه و سلم إلى الأدب في تقديم مشيئة الله تعالى على مشيئة من سواه ، و اختارها بثم التي هي للنسق و التراخي ، بخلاف الواو التي هي للإشتراك .
و مثله الحديث الآخر : إن خطيباً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : من يطع الله و رسوله فقد رشد ، و من يعصهما . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : بئس خطيب القوم أنت ! قم . أو قال : اذهب . قال أبو سليمان : كره منه الجمع بين الاسمين بحرف الكناية لما فيه من التسوية .
و ذهب غيره إلى أنه كره له الوقوف على يعصهما .
و قول أبي سليمان أصح ، لما روي في الحديث الصحيح أنه قال : و من يعصهما فقد غوى ، و لم يذكر الوقوف على يعصهما .
و قد اختلف المفسرون و أصحاب المعاني في قوله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي ، هل [ يصلون ] راجعة على الله تعالى و الملائكة أم لا ؟ .
فأجازه بعضهم ، و منعه آخرون ، لعلة التشريك ، و خصوا الضميربالملائكة ، و قدروا االآية : إن الله يصلي ، و ملائكته يصلون .
و قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من فضيلتك عند الله أن جعل طاعتك طاعته ، فقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ سورة النساء / 4 : الآية 80 ] .
و قد قال [ 9 ] تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم * قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [سورة آل عمران / 3 : الآية31 ـ 32 ] .
روي أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : إن محمداً يريد أن نتخذه حناناً كما اتخذت النصارى عيسى ، فأنزل الله تعالى : قل أطيعوا الله والرسول فقرن طاعته بطاعته رغماً لهم . و قد اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى في أم الكتاب : اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم ، فقال أبو العالية ، و الحسن البصر ي : الصراط المستقيم هو رسول الله صلى الله عليه و سلم و خيار أ هل بيته و أصحابه ، حكاه عنهما أبو الحسن المارودي و حكى مكي عنهما نحوه ، و قال : هو رسول الله صلى الله عليه و سلم و صاحباه : أبو بكر و عمر رضي الله عنهما .
و حكى أبو الليث السمرقندي مثله عن أبي العالية ، في قوله تعالى : صراط الذين أنعمت عليهم ، قال : فبلغ ذلك الحسن ، فقال : صدق و الله و نصح .
و حكى الماوردي ذلك في تفسير : صراط الذين أنعمت عليهم عن عبد الرحمن بن زيد .
و حكى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن بعضهم ، في تفسير قوله تعالى : فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ـ أنه محمد صلى الله عليه و سلم .
و قيل : الإسلام .
و قيل : شهادة التوحيد .
و قال سهل في قوله تعالى : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ـ قال : نعمته بمحمد صلى الله عليه و سلم .
و قال تعالى : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ( سورة الزمر / 39 : الأية 33 ، 34 ) .
أكثر المفسرين على أن الذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه و سلم .
و قا ل بعضهم : و هو الذي صدق به .
و قرىء : صدق ـ بالتخفيف .
و قال غيرهم : الذي صدق به المؤمنون [ 9 ] .
و قيل أبو بكر . و قيل علي . غير هذا من الأقوال .
و عن مجاهد ـ في قوله تعالى : ألا بذكر الله تطمئن القلوب ـ قال : بمحمد صلى الله عليه و سلم و أصحابه .

 

الفصل الثاني

 

في وصفه تعالى له بالشهادة و ما يتعلق بها من الثناء و الكرامة

 

قال الله تعالى : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ( سورة الأحزاب /33 : الآية 45 ـ 46 ) .
جمع الله تعالى في هذه الآية ضروباً من رتب الأثرة ، و جملة أوصاف من المدحة فجعله شاهداً على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة ، و هي من خصائصه صلى الله عليه و سلم ، و مبشراً لأهل طاعته ، و نذيراً لأهل معصيته ، و داعياً إلى توحيده و عبادته ، و سراجاً منيراً يهتدى به للحق .
حدثنا الشيخ أبو محمد بن عتاب رحمه الله ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن القابسي ، حدثنا أبو زيد المروزي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف ، حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا فليح ، حدثنا هلال ، عن عطاء ابن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، قلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أجل ، و الله ، إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، و حرزاً للأميين ، أنت عبدي و رسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ و لا غليظ و لا صخاب في الأسواق ، و لا يدفع بالسيئة السيئة ، و لكن يعفو و يغفر ، و لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لاإله إلا الله ، و يفتح به أعينا عمياً، و آذاناً صماً ، و قلوباً غلفاً.
و ذكر مثله عن عبد الله بن سلام [ 10 ] و كعب الأحبار ، و في بعض طرقه ، عن ابن إسحاق : و لا صخب في الأسواق ، و لا متزين بالفحش ، و لا قوال للخنا ، أسدده لكل جميل ، و أهب له كل خلق كريم ، و أجعل السكينة لباسه ، و البر شعاره ، و التقوى ضميره ، و الحكمة معقوله ، و الصدق و الوفاء طبيعته ، و العفو و المعروف خلقه ، و العدل سيرته ، و الحق شريعته ، و الهدى إمامه ، و الإسلا م ملته ، و أحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، و أعلم به بعد الجهالة ، و أرفع به بعد الخمالة ، و أسمي به بعد النكرة ، و أكثر به بعد القلة ، و أغني به بعد العلة ، و أجمع به بعد الفرقة ، و أولف به بين قلوب مختلفة ، و أهواء متشتتة ، و أمم متفرقة ، و أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس . و في حديث آخر : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفته في التوراة : عبدي أحمد المختار ، مولده بمكة ، و مهاج ره بالمدينة ، أو قال : طيبة أمته الحمادون لله على كل حال . و قال تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون * قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [سورة الأعراف /7 : الآية 157ـ158 ] .
و قد قال تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين [ سورة آل عمران / 3 : الآية 159 ] .
قال السمرقندي : ذكرهم الله منته أنه جعل رسوله رحيماً بالمؤمنين ، رؤوفاً لين الجانب ، و لو كان فظاً خشناً في القول لتفرقوا من حوله ، و لكن جعله الله تعالى سمحاً ، سهلاً طلقاً براً لطيفاً .
هكذا قاله الضحاك .
و قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ سورة البقرة / 2 : الآية 143 ] .
قال أبو الحسن القابسي : أبان الله تعالى فضل نبينا صلى الله عليه و سلم ، و فضل أمته بهذه الآية ، و في قوله في الآية [ 10 ] الأخرى : وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس [ سورة الحج / 22 : الآية 78 ] .
و كذلك قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ سورة النساء / 4 : الآية 41 ] .
قوله تعالى : وسطاً : أي عدلاً خياراً .
و معنى هذه الآية : و كما هديناكم فكذلك خصصناكم و فضلناكم بأن جعلناكم أمة خياراً عدولاً ، لتشهدوا للأنبياء عليهم السلام على أممهم ، و يشهد لكم الرسول بالصدق .
و قيل : إن الله جل جلاله إذا سأل الأنبياء : هل بلغتم . فيقولون : نعم . فتقول أممهم : ما جاءنا من بشير و لا نذير ، فتشهد أمة محمد صلى الله عليه و سلم للأ نبياء ، و يزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم .
و قيل : معنى الآية : إنكم حجة على كل من خالفكم ، و الرسول حجة عليكم . حكاه السمرقندي .
و قال الله تعالى : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم [ سورة يونس / 10 : الآية 2 ] .
قال قتادة ، و الحسن ، و زيد بن أسلم : قدم صدق : هو محمد صلى الله عليه و سلم ، يشفع لهم .
و عن الحسن أيضاً : هي مصيبتهم بنبيهم .
و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : هي شفاعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، هو شفيع صدق عند ربهم .
و قال سهل بن عبد الله التستري : هي سابقة رحمة أودعها الله في محمد صلى الله عليه و سلم .
و قال محمد بن علي الترمذي : هو إمام الصادقين و الصديقين ، الشفيع المطاع ، و السائل المجاب محمد صلى الله عليه وسلم ، حكاه عنه السلمي .

 

الفصل الثالث

 

فيما ورد من خطابه إياه مورد الملاطفة و المبرة

 

من ذلك قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ سورة التوبة / 9 : الآية 43 ].
قال أبو محمد مكي : قيل هذا إفتتاح كلام بمنزلة : أصلحك الله ، و أعزك الله .
و قال عون بن عبد الله : أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب .
و حكى السمرقندي عن بعضهم أن معناه : عافاك الله يا سليم القلب : لم أذنت لهم ؟ .
قال : و لو بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ، لم أذنت لهم لخيف عليه أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام ، لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه ، ثم قال له : لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره من الكاذب .
و في هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب .
و من إكرامه إياه و بره به ما ينقطع دون معرفة غايته نياط القلب . قال نفطويه : ذهب ناس إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم معاتب بهذه الآية ، و حاشاه من ذلك ، بل كان مخيراً فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم ، و أنه لا حرج عليه في الأذن لهم .
قال القاضي أبو الفضل : يجب على المسلم المجاهد نفسه ، ا لرائض بزمام الشريعة خلقه أن يتأدب بأدب القرآن في قوله و فعله ، و معاطاته و محاوراته ، فهو عنصر المعارف الحقيقية ، و روضة الأداب الدينة و الدنيوية ، و ليتأمل هذه الملاطفة العجيبة في السؤال من رب الأرباب ، المنعم على الكل ، المستغني عن الجميع ، و يستثر ما فيها من الفوائد ، و كيف ابتدأ بالإكرام قبل العتب ، و أنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان ثم ذنب .
و قال تعالى : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ سورة الإسراء / 17 : الآية 74 ] .
قال بعض المتكلمين : عاتب الله تعالى الأنبياء عليهم السلام بعد [ 11] الزلات ، و عاتب نبياً عليه السلام قبل وقوعه ، ليكون بذلك أشد انتهاءً و محافظة لشرائط المحبة ، و هذه غاية العناية .
ثم انظر كيف بدأ بثباته و سلامته قبل ذكر ما عتبه عليه و خيف أن يركن إليه ، ففي أثناء عتبه براءته ، و في طي تخويفه تأمينه و كرامته .
و مثله قوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [ سورة الأنعام / 6 : الآية 33 ] .
قال علي رضي الله عنه : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك و لكن نكذب ما جئ ت به ، فأنزل الله تعالى : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون .
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما كذبه قومه حزن ، فجاءه جبريل عليه السلام فقال : ما يحزنك ؟ قال : كذبني قومي ! فقال : إنهم يعلمون أنك صادق ، فأنزل الله تعالى الآية .
ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ ، من تسليته تعالى له عليه السلام ، و إلطافه به في القول ، بأن قرر عنده أنه صادق عندهم ، و أنهم غير مكذبين له ، معترفون بصدقه قولاً و إعتقاداً ، و قد كانوا يسمونه ـ قبل النبوة ـ الأمين ، فدفع بهذا التقرير ارتماض نفسه بسمة الكذب ، ثم جعل الذم لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين ، فقال تعالى : ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [ سورة الأنعام / 6 : الآية 33 ] .
فحاشاه من الوصم ، و طوقهم بالمعاندة بتكذيب الآيات حقيقة الظلم ، إذ الجحد إنما يكون ممن علم الشيء ثم أنكره ، كقوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ سورة النمل / 17 : الآية 14 ] .
ثم عزاه و آنسه بما ذكره عمن قبله ، و وعده النصر بقوله تعالى : ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين [ سورة الأنعام / 6 : الآية 34 ] .
فمن قرأ وإن يكذبوك بالتخفيف ، فمعناه : لا يجدونك كاذباً . و قال الفراء ، و الكسائي : لا يقولون إنك كاذب .
و قيل : لا يحتجون على كذبك ، و لا يثبتونه .
و من قرأ بالتشديد فمعناه : لا ينسبوك إلى الكذب . و قيل : لا يعتقدون كذبك .
و مما ذكر من خصائصه و بر الله تعالى به أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم ، فقال تعالى : يا آدم ، يا نوح ، يا موسى ، يا داود ، يا عيسى ، يا زكريا ، يا يحيى . و لم يخاطب هو إلا : يأيها الرسول ، يأيها النبي ، يأ يها المزمل ، يأيها المدثر .     

 

الفصل الرابع

 

في قسمه تعالى في عظيم قدره

 

قال الله تعالى : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [ سورة الحجر / 15 : الأية 72 ] . اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه و سلم ، و أصله ضم العين ، من العمر ، و لكنها فتحت لكثرة الإستعمال . و معناه : و بقائك يا محمد و قيل : و عيشك . و قيل : و حياتك .
و هذه نهاية التعظيم ، و غاية البر و التشريف . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما خلق الله تعالى ، و ما ذرأ ، و ما برأ نفساً ـ أكرم عليه من محمد صلى الله عليه و سلم ، و ما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره .
و قال أبو الجوزاء : ما أقسم الله تعالى بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه و سلم ، لأنه أكرم البرية عنده .
و قال تعالى : يس * والقرآن الحكيم .
اختلف المفسرون في معنى يس على أقوال ، فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لي عند ربي عشرة أسماء ذكر منها : طه و يس ـ اسمان له .
و حكى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن جعفر الصادق ـ أنه أراد : يا سيد ، مخاطبة لنبيه صلى الله عليه و سلم [ 12 ] .
و عن ابن عباس : يس ـ يا إنسان ، أراد محمداً صلى الله عليه و سلم .
و قال : هو قسم ، و هو من أسماء الله تعالى .
و قال الزجاج : قيل معناه : يا محمد . و قيل : يا رجل . و قيل : يا إنسان .
و عن ابن الحنفية : يس : يا محمد .
و عن كعب : يس : قسم أقسم الله تعالى به قبل أن يخلق السماء و الأرض بألفي عام : يا محمد إنك لمن المرسلين . ثم قال : و القرآن الحكيم إنك لمن المرسلين .
فإن قرر أنه بين أسمائه صلى الله عليه و سلم ، و ضح فيه . أنه قسم كان فيه من التعظيم ما تقدم ، و يؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه ، و إن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته ، و الشهادة بهدايته : أقسم الله تعالى باسمه و كتابه إنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده ، و على صراط مستقيم من إيمانه ، أي طريق لا اعوجاج فيه ، ولا عدول عن الحق .
قال النقاش : لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرساله في كتاب إلا له ، و فيه من تعظيمه و تمجيده ـ عن تأويل من قال : أنه يا سيد ـ ما فيه ، و قد قال عليه السلام : أنا سيد ولد آدم ، و لا فخر .
و قال تعالى : لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد [ سورة البلد / 90 : الآية 2 ] .
قيل : لا أقسم به إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه ، حكاه مكي .
و قيل : [ لا ] زائدة ، أي أقسم به و أنت به يا محمد حلال . أو حل لك ما فعلت فيه على التفسيرين .
و المراد بالبلد عند هؤلاء مكة .
و قال الواسطي : أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حياً ، و ببركتك ميتاً ـ يعني المدينة .
و الأول أصح ، لأن السورة مكية ، و ما بعده يصححه : قوله تعالى وأنت حل بهذا البلد [ سورة البلد / 90 : الآية 2 ] .
و نحوه قول ابن عطاء في تفسير قوله تعالى : وهذا البلد الأمين قال : أمنها الله تعالى بمقامه فيها و كونه بها ، فإن كونه أمان حيث كان .
ثم قال : ووالد وما ولد و من قال : أراد آدم فهو عام ، و من قال : هو ابراهيم و ما ولد ـ إن شاء الله ـ إشارة إلى محمد صلى الله عليه و سلم ، فتتضمن السورة القسم به صلى الله عليه و سلم في موضعين .
و قال تعالى : الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه [ سورة البقرة / 2 : الآيه 1 ـ 2 ] .
قال ابن عباس : هذه الحروف أقسام أقسم الله تعالى بها . و عنه و عن غيره فيها غير ذلك.
و قال سهل ابن عبد الله التست ري : الألف هو الله تعالى . و اللام جبريل و الميم محمد صلى الله عليه و سلم .
و حكى هذا القول السمرقندي ، و لم ينسبه إلى سهل ، و جعل معناه : الله أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن لا ريب فيه ، و على الوجه الأول يحتمل القسم أن هذا الكتاب حق لا ريب فيه ، ثم فيه من فضيلة قرآن اسمه باسمه نحو ما تقدم .
و قال ابن عطاء ـ في قوله تعالى ق والقرآن المجيد ـ أقسم بقوة قلب حبيبه محمد صلى الله عليه و سلم حيث حمل الخطاب و المشاهدة و لم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله .
و قيل : هو اسم للقرآن . و قيل : هو اسم لله تعالى . و قيل : جبل محيط بالأرض . و قيل غير هذا .
و قال جعفر بن محمد ـ في تفسير : والنجم إذا هوى : إنه محمد صلى الله عليه و سلم ، وقال : النجم قلب محمد صلى الله عليه و سلم : انشرح من الأنوار .
و قال : انقطع عن غير الله .
و قال ابن عطاء ـ في قوله تعالى والفجر* وليال عشر ـ الفجر : محمد صلى الله عليه و سلم ، لأنه منه تفجر الإيمان .

 

الفصل الخامس

 

 في قسمه تعالى جده ، له ، ليحقق مكانته عنده

 

قال جل اسمه : والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى * ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى * فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث [سورةالضحى / 93: الأية 93 ]
اختلف في سبب نزول هذه السورة ، فقيل : كان ترك النبي صلى الله عليه و سلم قيام الليل لعذر نزل به ، فتكلمت امرأة في ذلك بكلام .
و قيل : بل تكلم به المشركون عند فترة الوحي ، فنزلت السورة .
قال القاضي الإمام أبو الفضل : تضمنت هذه السورة من كرامة الله تعلى له ، و تنويهه به و تعظيمه إياه ستة و جوه :
الاول : القسم له عما أخبره به من حاله بقوله تعالى والضحى * والليل إذا سجى . أي و رب الضحى ،و هذا من أعظم درجات المبرة .
الثاني : بيان مكانته عنده و حظوته لديه بقوله تعالى : ما ودعك ربك وما قلى ، أي ماتركك و ما أبغضك . و قيل : ما أهملك بعد أن اصطفاك .
الثالث : قوله تعالى : وللآخرة خير لك من الأولى ، قال ابن إسحاق : اي مالك في مرجعك ع ند الله أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا .
و قال سهل : أي ما ما ذخرت لك من الشفاعة و المقام المحمود خير لك مما أعطيتك في الدنيا .
الرابع : قوله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى
و هذه أيه جامعة لوجوه الكرامة ، و أنواع السعادة ، و شتات الإنعام في الدارين . و الزيادة .
قال ابن إسحاق : يرضيه بالفلج في الدنيا ، و الثواب في الأخرة .
و قيل : يعطيه الحوض و الشفاعة.
و روي عن بعض آل النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ليس آية في القرآن أرجى منها ، و لا يرضى رسول صلى الله عليه و سلم أن يدخل أحد من أمته النار .
الخامس : ما عدده تعالى عليه من نعمه ، و قرره من آلائه قبله في بقية السورة ، من هدايته إلى ما هداه له ، أو هداية الناس به على اختلاف التفاسير ، ولا مال له ، فأغناه بما آتاه ، أو بما جعله في قلبه من القناعة و الغنى ، و يتيماً فحدب عليه عمه و آواه إليه .
و قيل : آواه إلى الله . و قيل : يتيماً : لا مثال لك ، فآواك إليه .
و قيل : المعنى : ألم يجدك فهدى بك ضالاً ، و أغنى بك عائلاً ، و آوى بك يتيماً ـ ذكره بهذه المنن ، و أنه على المعلوم من التفسير لم يهمله في حال صغره و عيلته و يتمه و قبل معرفته به ، و لا و دعه ولا قلاه ، فكيف بعد اختصاصه و اصطفائه !
السادس : أمره بإظهار نعمته عليه و شكر ما شرفه بنشره و اشادة ذكره بقوله تعالى : وأما بنعمة ربك فحدث ، فإن من شكر النعمة الحديث بها ، و هذا خاص له ، عام لأمته .
و قال تعالى : والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى [ سورة النجم / 53 : الآيات 1 : 18 ] .
اختلف المفسرون في قوله تعالى : والنجم بأقاويل معروفة ، منها النجم على ظاهره ، و منها القرآن .
و عن جعفر بن محمد أنه محمد عليه السلام ، و قال : هو قلب محمد .
و قد قيل في قوله تعالى : والسماء والطارق * وما أدراك ما الطارق * النجم الثاقب ـ إن النجم هنا أيضاً محمد صلى الله عليه و سلم ، حكاه السلمي .
تضمنت هذه الأيات من فضله و شرفه العد ما يقف دونه العد ، و أقسم جل اسمه على هداية المصطفى ، و تنزيهه عن الهوى ، و صدقه فيما تلا ، و أنه وحي يوحى أوصله إليه ـ عن الله ـ جبريل ، و هو الشديد القوى .
ثم أخبر تعالى عن فضيلته بقصة الإسراء ، و انتهائه إلى سدرة المنتهى ، و تصديق بصره فيما رأى ، و أنه رأى من آيات ربه الكبرى . [ 14 ] . و قد نبه على مثل هذا في أول سورة الإسراء .
و لما كان ما كاشفه به عليه السلام من ذلك الجبروت ، و شاهده من عجائب الملكوت لا      تحيط به العبارات ، ولاتستقل بحمل سماع أذناه العقول ـ رمز عنه تعالى بالإيماءة و الكناية الدالة على التعظيم ، فقال تعالى : فأوحى إلى عبده ما أوحى [ سورة النجم / 53 : الآية 10 ] .
و هذا النوع من الكلام يسميه أهل النقد و البلاغة بالوحي و الإشارة ، و هو عندهم أبلغ أبواب الإيجاز .
و قال تعالى : لقد رأى من آيات ربه الكبرى ـ انحسرت الأفهام عن تفصيل ما أوحى ، و تاهت الأحلام في تعيين تلك الآيات الكبرى .
قال القاضي أبو الفضل : اشتملت هذه الآيات على إعلام الله تعالى بتزكية جملته عليه السلام ، و عصمتها من الآفات في هذا المسرى ، فزكى فؤاده و لسانه و جوارحه : فزكى قلبه بقوله : ما كذب الفؤاد ما رأى . و لسانه بقوله : وما ينطق عن الهوى .و بصره بقوله : ما زاغ البصر وما طغى [ سورة النجم / 53 : الآية 17 ] .
و قال تعالى : فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس * إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين * وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو بقول شيطان رجيم [ سورة التكوير / 81 : الأيات : 15 ، 25 ] .
لا أقسم : أي أقسم . إنه لقول رسول كريم ، أي كريم عند مرسله . ذي قوة على تبليغ ما حمله من الوحي ، مكين : أي متمكن المنزلة من ربه ، رفيع المحل عنده ، مطاع ثم : أي في السماء . أمين على الوحي .
قال علي بن عيسى و غيره : الرسول الكريم هنا محمد صلى الله عليه و سلم ، فجميع الأوصاف بعد على هذا له .
و قال غيره : هو جبريل ، فترجع الأوصاف إليه .
و لقد رآه ـ يعني محمداً . قيل : رأى ربه . و قيل : رأى جبريل في صورته .
وما هو على الغيب بضنين ، أي : بمتهم . و من قرأها بالضاد فمعناه : ما هو ببخيل با لدعاء به ، و التذكير بحكمه و بعلمه ، و هذه لمحمد عليه السلام باتفاق .
و قال تعالى : ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لأجرا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم * فستبصر ويبصرون * بأيكم المفتون * إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين * فلا تطع المكذبين * ودوا لو تدهن فيدهنون * ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم * مناع للخير معتد أثيم * عتل بعد ذلك زنيم * أن كان ذا مال وبنين * إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * سنسمه على الخرطوم [ سورة القلم / 68 : الآيات : 1 ، 16 ] .
أقسم الله تعالى بما أقسم به من عظيم قسمه على تنزيه المصطفى بما غمصته ، الكفرة به ، و تكذيبهم له ، و أنسه ، و بسط أمله بقوله ـ محسناً خطابه : ما أنت بنعمة ربك بمجنون . و هذه نهاية المبرة في المخاطبة ، و أعلى درجات الآداب في المحاورة ، ثم أعلمه بماله عنده من نعيم دائم ، و ثواب غير منقطع ، لا يأخذه عد ، و لا يمتن به عليه ، فقال تعالى وإن لك لأجرا غير ممنون .
ثم أثنى عليه بما منحه من هباته ، و هداه إليه ، و أكد ذلك تتميماً للتمجيد ، بحرفي التأكيد ، فقال تعال : وإنك لعلى خلق عظيم . قيل : القرآن و قيل : الإسلام . و قيل : الطبع الكريم . و قيل : ليس لك همة إلا الله . قال الواسطي : أثنى عليه بحسن قبوله لما أسداه إليه من نعمه ، و فضله بذ لك على غيره ، لأنه جبله على ذلك الخلق ، فسبحان اللطيف الكريم ، المحسن الجواد ، الحميد الذي يسر للخير و هدى إليه ، ثم أثنى على فاعله ، و جازاه عليه سبحانه ، ما أغمز نواله ، و أوسع إفضاله ، ثم سلاه عن قولهم بعد هذا بما و عده به من عقباهم ، و توعدهم بقوله : فستبصر ويبصرون * بأيكم المفتون * إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين [ سورة القلم /68 : الأيات : 5،7 ] .
ثم عطف بعد مدحه على ذم عدوه ، و ذكره سوء خلقه ،و عد معايبه ، متولياً ذلك بفضله ، و منتصراً لنبيه ، فذكر بضع عشرة خصلة من خصال الذم فيه بقوله : فلا تطع المكذبين * ودوا لو تدهن فيدهنون * ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم * مناع للخير معتد أثيم * عتل بعد ذلك زنيم * أن كان ذا مال وبنين * إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ثم ختم ذلك بالوعد الصادق بتمام شقائه و ختامه بواره بقوله : سنسمه على الخرطوم . فكانت هنصرة الله [ 15 ] له أتم من نصرته لنفسه ، و رده تعالى على عدوه أبلغ من رده ،وأثبت من ديوان مجده .

 

الفصل السادس

 

فيما ورد من قوله تعالى في جهته عليه السلام مورد الشفقة و الإكرام

 


قال تعالى : طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [ سورة طه /20: الأية1،2] قيل : طه : اسم من أسمائه عليه السلام . و قيل : هو اسم الله، و قيل : معناه يارجل .و قيل : يا إنسان . و قيل : هي حروف مقطعة لمعان . و قال الواسطي : أراد يا طاهر ، يا هادي . و قيل : هو أمر من الوطء . و الهاء كناية عن الأرض ، أي اعتمد على الأرض بقدميك ، ولا تتعب نفسك بالإعتماد على قدم واحد ، و هو قوله تعالى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى .
نزلت الآية فيما كان النبي صلى الله عليه و سلم يتكلفه من السهر و التعب و قيام الليل.
أخبرنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن ، و غير واحد ، عن القاضي أبي الوليد الباجي إجازة ، و من أصله نقلت ، قال : حدثنا أبوذر الحافظ ، حدثنا أبو محمد الحموي ،حدثنا إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي جعفر ،عن الربيع بن انس ، قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا صلى قام على رجل و رفع الأخرى ، فأنزل الله تعالى : طه ـ يع ني طأ الأرض يا محمد ، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى [سورة طه /20: الأيات 2 : 4 ] .
و لا خفاء بما في هذا كله من الإكرام و حسن المعاملة .
و إن جعلنا طه من أسمائه عليه السلام كما قيل ، أو جعلت قسماً لحق الفصل بما قبله .
و مثل هذا من نمط الشفقة و المبرة قوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ، أي قاتل نفسك لذلك غضباً أو غيظاً ، أو جزعاً .
و مثله قوله تعالى أيضاً : لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين ، ثم قال : إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين [ سورة الشعراء / 26 : الآية 4 ] .
و من هذا الباب قوله تعالى : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين * الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون * ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون [ سورة الحجر / 15 : الآيات 94 : 97 ] .
و قوله : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ سورة الأنعام / 6 : آية 10 ، و سورة الأنبياء / 21 : الآية 41 ] .
قال مكي : سلاه بما ذكر ، و هون عليه ما يلقى من المشركين ، و أعلمه أن من تمادى على ذلك يحل به ما بمن قبله .
و مثل هذه التسلية قوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك [ سورة فاطر / 35 : الآية 4 ] .
و من هذا قوله تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون [ سورة الذاريات / 51 : الآية 52 ] .
عزاه الله تعالى بما أخبر به عن الأمم السالفة و مقاليها لأنبيائهم قبله ، و محنتهم بهم ، و سلاه بذلك من محنته بمثله من كفار مكة ، و أنه ليس أول من لقي ذلك ، ثم طيب نفسه ، و أبان عذره بقوله تعالى : فتول عنهم ، أي أعرض عنهم ، فما أنت بملوم ، أي في أداء ما بلغت و إبلاغ ما حملت .
و مثله قوله تعالى : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ، أي اصبر على أذاهم فإنك بحيث نراك و نحفظك .
سلاه الله تعالى بهذا في آي كثيرة من هذا المعنى .

 

الفصل السابع

 

 فيما أخبر الله تعالى به في كئتابه العزيز من عظيم قدره و شريف منزلته و حظوة رتبته

 


قوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [ سورة آل عمران / 3 : الآية 81 ] .
قال أبو الحسن القابسي : استخص الله تعالى [ 16 ] محمداً صلى الله عليه و سلم بفضل لم يؤته غيره ، أبانه به ، و هو ما ذكره في هذه الآية ، قال المفسرون : أخذ الله الميثاق بالوحي ، فلم يبعث نبياً إلا ذكر له محمداً و نعته ، و أخذ عليه ميثاقه إن أدركه ليؤمنن به .
و قيل : أن يبينه لقومه ، و يأخذ ميثاقهم أن يبينوه لمن بعدهم .       و قوله : ثم جاءكم : الخطاب لأهل الكتاب المعاصرين لمحمد صلى الله عليه و سلم .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لم يبعث الله نبينا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه و سلم : لئن بعث و هو حي ليؤمنن به و لينصرنه ، و يأخذ العهد بذلك على قومه .
و نحوه عن السدي و قتادة في آي تضمنت فضله من غير وجه واحد .
قال الله تعالى : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا [ سورة الأحزاب / 33 : الآية 7 ] .
و قال تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما * لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا [ سورة النساء / 4 : الآيات 163 ، 166 ] .
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في كلام زكى به النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال بأبي أنت و أمي يا رسول الله ! لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن بعثك آخر الأنبياء ، و ذكرك في أولهم ، فقال : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا [ سورة الأحزاب /33 : الآية 7 ] .
و قال تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح وا لنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما * لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا [سورة النساء / 4 : الآيات 163 ، 166 ] .
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في كلام زكى به النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال بأبي أنت و أمي يا رسول الله ! لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن بعثك آخر الأنبياء ، و ذكرك في أولهم ، فقال : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا [ سورة الأحزاب /33 : الآية 7 ] .
بأبي أنت و أمي يا رسول الله ! لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون أن يكونوا أطاعوك و هم بين أطباقها يعذبون يقولون : يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا [ سورة الأحزاب / 33 : الآية 66 ] .
قال قتادة : إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كنت أول الأنبياء في الخلق ، و آخرهم في البعث ، فلذلك وقع ذكره مقدماً هنا قبل نوح و غيره .
قال السمر قندي : في هذا تفضيل نبياً صلى الله عليه و سلم ، لتخصيصه بالذكر قبلهم ، و هو آخرهم .
المعنى : أخذ الله تعالى عليهم الميثاق ، إذ أخرجهم من ظهر آدم كالذر .
و قوله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا [ سورة البقرة / 2 : الآية 253 ] .
قال أهل التفسير : أراد بقوله : ورفع بعضهم درجات ـ محمداً صلى الله عليه و سلم ، لأنه بعث إلى الأحمر و الأسود ، و أحلت له الغنائم ، و ظهرت على يديه المعجزات ، و ليس أحد من الأنبياء أعطي فضيلة أو كرامة إلا و قد أعطي محمد صلى الله عليه و سلم مثلها .
قال بعضهم : و من فضله أن الله تعالى خاطب الأنبياء بأسمائهم ، و خاطبه بالنبوة و الرسالة في كتابه ، فقال : يا أيها النبي ، و يا أيها الرسول .
و حكى السمر قندي عن الكلبي ـ في قوله تعالى : وإن من شيعته لإبراهيم ـ أن الهاء عائدة على محم د ، أي أن من شيعة محمد لإبراهيم ، أي على دينه و منهاجه .
و أجازه الفراء ، و حكاه عنه مكي . و قيل : المراد نوح عليه السلام .
      
الفصل الثامن

 

في إعلام الله تعالى خلقه بصلواته عليه و ولايته له و رفعه العذاب بسببه

 

قال الله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، أي ما كنت بمكة ، فلما خرج النبي صلى الله عليه و سلم من مكة ، و بقي من المؤمنين نزل : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون [ سورة الأنفال / 8 ، الآية 33 ] .
و هذا مثل قوله : لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما [ سورة الفتح / 48 ، الآية 25 ] .
و قوله تعالى : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء : فلما هاجر المؤمنون نزلت : وما لهم أن لا يعذبهم الله [ سورة الأنفال / 8 ، الآية 34 ] .
و هذا من أبين ما يظهر مكانته صلى الله عليه و سلم ، و درأ به العذاب عن أهل مكة بسبب كونه ، ثم كون أصحابه بعده [ 17 ] بين أظهرهم ، فلما خلت مكة منهم عذبهم الله بتلسيط المؤمنين عليهم ، و غلبتهم إياهم ، و حكم فيهم سيوفيهم ، و أورثهم أرضهم و ديارهم و أموالهم .
و في الآية أيضاً تأويل آخر :
حدثنا القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله بقراءتي عليه ، قال : حدثنا أبو الفضل بن خيرو ن ، و أبو الحسين الصيرفي ، قالا : حدثنا أبو يعلى ابن زوج الحرة ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا محمد بن محبوب المروزي ، حدثنا أبو عيسى الحافظ ، حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا ابن نمير ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، عن عباد بن يوسف ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنزل الله علي أمانين لأمتي ، وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت فيهم الإستغفار .
و نحو منه قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ سورة الأنبياء / 21 ، الآية 107 ] .
و قال عليه السلام : أنا أمان لأصحابي . قيل : من البدع .
و قيل : من الإختلاف و الفتن .
قال بعضهم : الرسول صلى الله عليه و سلم هو الأمان الأعظم ما عاش ، و ما دامت سنته باقية فهو باق ، فإذا أميتت سنته فانتظر البلاء و الفتن .
و قال الله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية 56 ] .
أبان الله تعالى فضل نبيه صلى الله عليه و سلم بصلواته عليه ، ثم بصلاة ملائكته ، و أ مر عباده بالصلاة و التسليم عليه .
[ و قد حكى أبوبكر بن فورك أن بعض العلماء تأول قوله عليه السلام : و جعلت قرة عيني في الصلاة على هذا ، أي في صلاة الله تعالى علي و ملائكته و أمره الأمة بذلك إلى يوم القيامة ] . و الصلاة من الملائكة [ استغفار ] ، و منا له دعاء ، و من الله عز و جل رحمة .
و قيل : يصلون : يباركون .
و قد فرق النبي صلى الله عليه و سلم ـ حين علم الصلاة عليه بين لفظ الصلاة و البركة .
و سنذكر حكم الصلاة عليه .
و ذكر بعض المتكلمين في تفسير حروف كهيعص أن الكاف من [ كاف ] ، أي كفاية الله تعالى لنبيه ، قال تعالى : أليس الله بكاف عبده [ سورة الزمر / 39 ، الآية 36 ] .
و الهاء هدايته له ، قال : ويهديك صراطا مستقيما [ سورة الفتح / 48 ، الآية 2 ] .
و الياء تأييده ، قال : هو الذي أيدك بنصره [ سورة الأنفال / 8 ، الآية 62 ] .
و العين عصمته له قال : والله يعصمك من الناس [س المائدة / 5 ، الآية 67 ] .
و الصاد : صلواته عليه ، قال : إن الله وملائكته يصلون على النبي [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية 56 ] .
و قال تعالى : وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير ، مولاه أي وليه . و صالح المؤمنين : قيل : الأنبياء . و قيل :
الملائكة . و قيل : أبوبكر ، و عمر .
و قيل : علي . و قيل : المؤمنون على ظاهره .

 

الفصل التاسع

 

 فيما تضمنته سورة الفتح من كراماته صلى الله عليه و سلم

 

قال الله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا * هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما * ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما * ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا * ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما * إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا * إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم [ سورة الفتح / 48 ، الآية 1، 10 ] .
تضمنت هذه الأيات من فضله الثناء عليه و كريم منزلته عند الله تعالى ، و نعمته لديه ـ ما يقصر الوصف عن الإنتهاء إليه ، فابتدأ جل جلاله ـ بإعلامه بما قضاه له من القضاء البين بظهور ه ، و غلبته على عدوه ، و علو كلمته و شريعته ، و أنه مغفور له ، غير مؤاخذ بما كان و ما يكون .
قال بعضهم : أراد غفران ما وقع و ما لم يقع ، أي إنك مغفور لك .
و قال مكي : جعل الله المنة سبباً للمغفرة ، و كل من عنده ، لا إله غيره ، [ 18 ] منةً بعد منة ، و فضلاً بعد فضل .
ثم قال : ويتم نعمته عليك : قيل بخضوع من تكبر عليك .
و قيل : يفتح مكة و الطائف .
و قيل : يرفع ذكرك في الدنيا و ينصرك و يغفر لك ، فأعلمه بتمام نعمته عليه بخضوع متكبري عدوه له ، و فتح أهم البلاد عليه و أحبها له ، و رفع ذكره ، و هدايته الصراط المستقيم المبلغ الجنة و السعادة ، و نصره النصر العزيز ، و منته على أمته المؤمنين بالسكينة و الطمأنينة التي جعلها في قلوبهم ، و بشارتهم بما لهم بعد ، و فوزهم العظيم ، و العفو عنهم ، و الستر لذنوبهم ، و هلاك عدوه في الدنيا و الآخرة ، و لعنهم و بعدهم من رحمته ، و سوء منقلبهم .
ثم قال : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا [ سورة الفتح /48 ، الآية 8 ، 9 ] .
فعد محاسنه و خصائصه ، من شهادته على أمته لنفسه ، بتبليغه الرسالة لهم .
و قيل : شاهداً لهم بالتوحيد ، و مبشراً لأمته بالثواب . و قيل : بالمغفرة .       و منذراً عدوه بالعذاب .
و قيل : محذراً من الضلالات ليؤمنوا بالله ثم به صلى الله عليه و سلم من سبقت له من الله الحسنى . و يعزروه ، و يجلونه . و قيل : ينصرونه . و قيل : يبالغون في تعظيمه .       و يوقروه ، أي يعظموه .
و قرأه بعضهم : تعززوه ـ بزاءين : من العز ، و الأكثر و الأظهر أن هذا في حق محمد صلى الله عليه و سلم .
ثم قال : وتسبحوه ، فهذا راجع إلى الله تعالى .
قال ابن عطاء جمع للنبي صلى الله عليه و سلم في هذه السور نعم مختلفة ، من الفتح المبين ، و هو من أعلام الإجابة . و المغفرة ، و هي من أعلام المحبة ، و تمام النعمة ، و هي من أعلام الإختصاص . و الهداية ، و هي من أعلام الولاية ، فالمغفرة تبرئة من العيوب ، و تمام النعمة إبلاغ الدرجة الكاملة ، و الهداية و هي الدعوة إلىالمشاهدة .
و قال جعفر بن محمد : من تمام نعمته عليه أن جعله حبيبه ، و أقسم بحياته ، و نسخ به شرائع غيره ، و عرج به إلى المحل الأعلى ، و حفظه في المعراج حتى ما زاغ البصر و ما طغى ، و بعثه إلى الأحمر و ا لأسود ، و أحل له و لأمته الغنائم ، و جعله شفيعاً مشفعاً ، و سيد ولد آدم ، و قرن ذكره بذكره ، و رضاه برضاه ، و جعله أحد ركني التوحيد .
ثم قال : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ـ يعني بيعة الرضوان ، أي إنما يبايعون الله ببيعتهم إياك .
يد الله فوق أيديهم ، يريد عند البيعة . قيل : قوة الله ، و قيل : ثوابه . و قيل : منته . وقيل : عقده ، و هذه استعارة ، و تجنيس في الكلام ، و تأكيد لعقد بيعتهم إياه . و عظم شأن المبايع صلى الله عليه و سلم .
و قد يكون من هذا قوله تعالى : فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ، و إن كان الأول في باب المجاز ، و هذا في باب الحقيقة ، لأن القاتل و الرامي بالحقيقة هو الله ، و هو خالق فعله و رميه ، و قدرته عليه و مسببه ، و لأنه ليس في قدرة البشر توصيل تلك الرمية حيث وصلت ، حتى لم يبق منهم من لم تملأ عينيه ، و كذلك قتل الملائكة لهم حقيقة .
و قد قيل في هذه الآية الأخرى إنها على المجاز العربي ، و مقابلة اللفظ و مناسبته ، أي ما قتلتموهم ، و ما رميتهم أنت إذ رميت وجوههم بالحصباء و التراب ، و لكن الله رمى قلوبهم بالجزع ، أي إن [ 19 ] منفعة الرمي كانت من فعل الله ، فهو القاتل و الرامي بالمعنى و أنت بالاسم .
 

 

الفصل العاشر

 

فيما أظهره الله تعالى في كتابه العزيز من كرامته عليه و مكانته عنده و ما خصه الله به من ذلك سوى ما انتظم فيما ذكرناه قبل

 

و من ذلك ما قصه تعالى في قصة الإسراء في سورة : سبحان ، و النجم ، و ما انطوت عليه القصة من عظيم منزلته و قربه و مشاهدته ما شاهد من العجائب .
و من ذلك عصمته من الناس بقوله تعالى : والله يعصمك من الناس . و قوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين
[ سورة الأنفال / 8 ، الآية 30 ] .
و قوله : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم . و ما رفع الله به عنه في هذه القصة من أذاهم بعد تحزبهم لهلكه و خلوصهم نجيا في أمره ، و الأخذ على أبصرهم عند خروجه عليهم ، و ذهولهم عن طلبه في الغار ، و ما ظهر في ذلك من آيات ، و نزول السكينة عليه ، و قصة سراقه بن مالك حسب ماذكره أهل الحديث و السير في قصة الغار ، و حديث الهجر ة .
و منه قوله تعلى : إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر
[ سورة الكوثر /8 0] 0
أعلمه الله تعال بما أعطاه . و الكوثر حو ضه . و قيل : نهر في الجنة . و قيل الخير الكثير . و قيل : الشفاعة . و قيل : المعجزات الكثيرة . و قيل : النبوة . و قيل : المعرفة . ثم أجاب عنه عدوه ، و رد عليه قوله ، فقال تعالى : إن شانئك هو الأبتر ، أي عدوك و مبغضك . و الأبتر : الحقير الذليل ، أو المفرد الوحيد ، أو الذي لاخير فيه . و قال تعال : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم [سورة الحجر /15 ، الآية 7 8 ] . قيل : السبع المثاني السور الطوال الأول . و القرآن العظيم : أم القرآن . و قيل : السبع المثاني : أم القرآن . و القرآن العظيم : سائره . و قيل : السبع المثاني : ما في القرآن ، من أمر ، و نهى ، و بشرى ، و إنذار ، و ضرب مثل ، و إعداد نعم ، و آتيناك نبأ القرآن العظيم .
و قيل : سميت أم القرآن مثاني لأنها تثني في كل ركعة . و قيل : بل الله تعالى اثتثناها لمحمد صلى الله عليه و سلم ، و ذخرها له دون الأنبياء .
و سمي القرآن مثاني : لأن القصص تثني فيه . و قيل : السبع المثاني : أكرمناك بسبع كرامات : الهدي ، و النبوة ، و الرحمة ، و الشفاعة ، و الولاية ، و التعظيم ، و السكينة . و قال : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ سورة النحل ، الآية /16 ، الآية 44 ] .
و قال : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا
[ سورة سبأ / 34 ، الآية 28 ] . و قال تعالى : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [ سورة الأعراف / 7 ، الآية 158 ] .
قال القاضي : فهذه من خصائصه .
و قال تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ، فخصهم بقومهم ، و بعث محمداً صلى الله عليه و سلم إلى الخلق كافة ، كما قال عليه السلام : [ بعثت إلى الأحمر و الأسود ] .
و قال تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم . قال أهل التفسير : أولى بالمؤمنين من أنفسهم : أي ما أنفذه فيهم من أمر فهو ماض عليهم كما يمضي حكم السيد على عبده .
و قيل : اتباع أمره أولى من اتباع رأي النفس . و أزواجه أمهاتهم ، أي هن في الحرمة كالأمهات ، حرم نكاحهن عليهم بعده ، تكرمت له و خصوصية ، و لأنهن له أزواج في الآخرة .
و قد قرىء : و هو أب لهم . و لا يقرأ به الأن [ 20 ] لمخالفته المصحف .
و قال الله تعالى : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [ سورة النساء / 4 ، الآية 113 ] .
قيل : فضله العظيم بالنبوة . و قيل : بما سبق له في الأزل . و أشار الواسطي إلى أنها إشارة إلى احتمال الرؤية التي لم يحتملها موسى ، صلى الله عليهما .


الباب الثاني

 

في تكميل الله تعالى له المحاسن خلقاً و خلقاً و قرانه جميع الفضائل الدينية و الدنيوية فيه نسقاً

 

اعلم أيها المحب لهذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم ، الباحث عن تفاصيل جمل قدره العظيم أن خصال الجلال و الكمال في البشر نوعان : ضروري دنيوي اقتضته الجبلة و ضرورة الحياة الدنيا ، و مكتسب ديني ، و هو ما يحمد فاعله ، و يقرب إلى الله تعالى زلفى .
ثم هي على فنين أيضاً : منها ما يتلخص لأحد الوصفين . و منها ما يتمازج و يتداخل .
فأما الضروري المخص فما ليس للمرء فيه اختيار و لا اكتساب ، مثل ما كان في جبلته من كمال خلقته ، و جمال صورته ، و قوة عقله ، و صحة فهمه ، و فصاحة لسانه ، و قوة حواسه و أعضائه ، و اعتدال حركاته ، و شرف نسبه ، و عزة قومه ، وكرم أرضه ، و يلحق به ما تدعوه ضرورة حياته إليه ، من غذائه و نومه ، و ملبسه و مسكنه ، و منكحه ، و ما له و جاهه .
و قد تلحق هذه الخصال الآخرة بالأخروية إذا قصد بها التقوى و معونة البدن على سلوك طريقها ، و كانت على حدود الضرورة و قوانين الشريعة .
و أما المكتسبة الأخروية فسائر الأخلاق العلية ، و الأداب الشرعية : من الدين و العلم ، و الحلم ، و الصبر ، و الشكر ، و المروءة ، و الزهد ، و التواضع ، و العفو ، والعفة ، و الجود ، و الشجاعة ، و الحياء ، و المروءة ، والصمت ، و التؤدة ، و الوقار ، و الرحمة ، و حسن الأدب و المعاشرة ، و أخواتها ، و هي التي جمعها حسن الخلق .
و قد يكون من هذه الأخلاق ما هو في الغريزة و أصل الجبلة لبعض الناس .
و بعضهم لا تكون فيه ، فيكتسبها ، و لكنه لابد أن يكون فيه من أصولها في أصل الجبلة شعبة كما سنبينه إن شاء الله .
و تكون هذه الأخلاق دنيوة إذا لم يرد بها وجه الله و الدار الآخرة ، و لكنها كلها محاسن و فضائل باتفاق أصحاب العقول السليمة ، و إن اختلفوا في موجب حسنها و تفضيلها .      


فصل
في اجتماع الخصال المحمودة فيه صلى الله عليه و سلم

 

إذا كانت خصال الكمال و الجمال ما ذكرناه ، و وجدنا الواحد منا يشرف بواحدة منها أو باثنتين إن اتفقت له ـ في كل عصر ، إما من نسب أو جمال ، أو قوة ، أو علم ، أو حلم ، أو شجاعة ، أو سماحة ، حتى يعظم قدره ، و يضرب باسمه الأمثال ، و يتقرر له بالوصف بذلك قي القلوب إثرة و عظمة ، و هو منذ عصور خوال رمم بوال ، فما ظنك بعظيم قدر من اجتمعت فيه كل هذه الخصال إلى ما لا يأخذه عد ، و لا يعبر عنه مقال ، و لا ينال بكسب و لا حيلة إلا بتخصيص الكبير المتعال ، من فضيلة النبوة و الرسالة ، و الخلة و المحبة ، و الإصطفاء و الإسراء و الرؤية ، و القرب و الدنو ، و الوحي ، و الشفاعة و الوسيلة ، و الفضيلة و الدرجة الرفيعة ، و المقام المحمود ، و البراق و المعراج ، و البعث إلى الأحمر و الأسود ، و الصلاة بالأنبياء ، و الشهادة بين الأنبياء و الأمم ، و سيادة ولد آدم [ 21 ] ، و لواء الحمد ، و البشارة ، و النذارة و المكانة عند ذي العرش و الطاعة ثم ، و الأمانة و الهداية و رحمة للعالمين ، و إعطاء الرضا و السول ، و الكوثر ، و سماع القول ، و اتمام النعمة و العفو عما تقدم و تأخر ، و شرح الصدر ، و وضع الوزر ، و رفع الذكر و عزة النصر ، و نزول السكينة ، و التأييد بالملائكة ، و إيتاء الكتاب و الحكمة و السبع المثاني و القرآن العظيم ، و تزكية الأمة و الدعاء إلى الله ، و صلاة الله تعالى و الملائكة ، و الحكم بين الناس بما أراه الله ، و وضع الإصر و الأغلال عنهم ، و القسم باسمه ، و إجابة دعوته ، و تكليم الجمادات و العجم ، و إحياء الموتى ، و إسماع الصم ، و نبع الماء من بين أصابعه ، و تكثير القلي ل ، و انشفاق القمر ، و رد الشمس ، و قلب الأعيان ، و النصر بالرعب ، و الإطلاع على الغيب ، و ظل الغمام ، و تسبيح الحصا ، و إبراء الآلام ، و العصمة من الناس ، إلى ما لا يحويه محتفل ، و لا يحيط بعلمه إلا مانحه ذلك و مفضله به ، لا إله غيره ، إلى ما أعد له في الدار الآخرة من منازل الكرامة ، و درجات القدس ، و مراتب السعادة و الحسنى و الزيادة التي تقف دونها العقول و يحار دون أدانيها الوهم .


فصل
في تفصيل هذه الخصال المحمودة : صفاته الجسمية

 

إن قلت أكرمك الله : لا خفاء على القطع بالجملة أنه صلى الله عليه و سلم أعلى الناس قدراً ، و أعظمهم محلاً ، و أكملهم محاسن و فضلاً ، و قد ذهب في تفاصيل خصال الكمال مذهباً جميلاً شوقني إلى أن أقف عليها من أوصافه صلى الله عليه و سلم تفصيلا . . . فاعلم نور الله قلبي و قلبك ، و ضاعف في هذا النبي الكريم حبي و حبك ـ أنك إذا نظرت إلى خصال الكمال التي هي غير مكتسبة في جبلة الخلقة و جدته حائزاً لجميعها ، محيطاً بشتات محاسنها دون خلاف بين نقله الأخبار لذلك ، بل قد بلغ بعضها مبلغ القطع . أما الصورة و جمالها ، و تناسب أعضائه في حسنها ، فقد جاءت الآثار الصحيحة و المشهورة الكثيرة بذلك ، من حديث علي ، و أنس بن مالك ، و أبي هريرة ، و البراء بن عذب ، و عائشة أم المؤمنين ،و ابن أبي هالة ،و أبي جحيفة ، وجابر بن سمرة ، و أم معبد ، و ابن عباس ، و معرض بن معيقيب ، و أبي الطفيل ، و العداء بن خالد ، و خريم بن فاتك ، و حكيم بن حزام ، و غيرهم ، من أنه صلى الله عليه و سلم كان أزهر اللون ، أدعج ، أنجل ، أشكل ، أهدب الأشفار ، أبلج ، أزج ، أقنى ، أفلج ، مدور ال وجه ، واسع الجبي ، كث اللحية تملأ صدره ، سواء البطن و الصدر ، واسع الصدر ، عظيم المنكبين ، ضخم العظام ، عبل العضضين و الذراعين و الأسافل ، رحب الكفين و القدمين ، سائل الأطراف ، أنور المتجرد ، دقيق المسربة ، ربعة القد ، ليس بالطويل البائن ، و لا بالقصير المتردد ، مع ذلك فلم يكن يماشيه أحد ينسب الى الطول إلا طاله صلى الله عليه و سلم رجل الشعر ، إذا افتر ضاحكاً افتر عن مثل سنا البرق ، و عن مثل حب الغمام ، إذا تكلم رئى كالنور يخرج من ثناياه ، أحسن الناس عنقاً ، ليس بمعطهم و لا مكلثم ، متماسك البدن ، ضرب اللحم . قال البراء بن عاذب : مارأيت من ذي لمه في حلة حمراء أحسن من رسول صلى الله عليه و سلم [0 1 ] .
و قال أبو هريرة رضي الله عنه : [ مارأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه و سلم [22] ، كأن الشمس تجري في وجهه ، و إذا ضحك يتلألأ في الجدر ] .
و قال جابر بن سمرة ـ و قال له رجل : كان و جهه صلى الله عليه و سلم مثل السيف ؟ فقال : [ لا ، بل مثل الشمس و القمر . و كان مستديراً] .
و قالت أم معبد ـ في بعض ما وصفته به ـ : [ أجمل الناس من بعيد ، و أحلاه و أحسنه من قريب ] [ صلى الله عليه و سلم تسليمًا كلما ذكره الذاكرون ، و غفل عن ذكره الغافلون ] . و في حديث ابن أبي هالة : [ يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر ] .       و قال علي رضي الله عنه في آخر و صفة له : [ من رآه بديهة هابه ، و من خالطه معرفة أحبه ، يقول ناعته : لم أر قبله و لا بعده مثله صلى الله عليه و سلم ] .       و الأحاديث في بسط صفته مشهورة كثيرة ، فلا نطول بسردها .       و قد اختصرنا في و صفه نكت ما جاء فيها ، و جملة مما فيه الكفاية في القصد إلى المطلوب ، و ختمنا هذه الفصول بحديث جامع لذلك تقف عليه هناك إن شاء الله .
 


فصل

 

في نظافة جسمه ، و طيب رائحته ، و نزاهته عن الأقذار و عورات الجسد

 

و أما نظافة جسمه ، و طيب ريحه و عرقه ، و نزاهته عن الأقذار و عورات الجسد ـ فكان قد خصه الله في ذلك بخصائص لم توجد في غيره ، ثم تممها بنظافة الشرع و خصال الفطرة العشر ، و قال : [ بني الدين على النظافة ] .
حدثنا سفيان بن العاصي و غير واحد ، قالوا : حدثنا أحمد بن عمر . حدثنا أبو العباس الرازي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم ، قال : حدثنا قتيبة ، حدثنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : [ ما شممت عنبراً قط ، و لا مسكاً ، و لا شيئاً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه و سلم ] .
و عن جابر بن سمرة : أنه صلى الله عليه و سلم مسح خده ، قال : فوجدت ليده برداً و ريحاً ، كأنما أخرجها من جونة عطار .
قال غيره : مسها بطيب أو لم يمسها ، يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها ، و يضع يده على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان بريحها .
و نام رسول الله صلى الله عليه و سلم في دار أنس فعرق ، فجاءت أمه بقارورة تجمع فيها عرقه فسألها رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك ، فقالت : نجعله في طيبنا ، و هو من أطيب الطيب .
و ذكر البخاري في تاريخه الكبير ، عن جابر : [ لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيبه ] .
و ذكر اسحاق بن راهويه أن تلك كانت رائحته بلا طيب ، صلى الله عليه و سلم .
[ و روى المزني : عن جابر : أردفني النبي صلى الله عليه و سلم خلفه ، فالتقمت خاتم النبوة بفمي ، فكان ينم على مسكا ] .
و قد حكى بعض المعتنين بأخباره و شمائله صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا أراد أن يتغوط انشقت الأرض فابتلعت غائطه و بوله ، و فاحت لذلك رائحة طيبة . صلى الله عليه و سلم .
[ و أسند محمد بن سعد كاتب الواقدي في هذا خبراً عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه و سلم : إنك تأتي الخلاء فلا نرى منك شيئاً من الأذى ! فقال : يا عائشة ، أو ما علمت أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء ، فلا يرى منه شيء ] .
و هذا الخبر ، و إن لم يكن مشهوراً فقد قال قوم من أهل العلم بظهارة الحدثين منه صلى الله عليه و سلم . و هو قول بعض أصحاب الشافعية ، [ حكاه الإمام أبو نصر ابن الصباغ في شامله ] .
و قد حكى القولين عن العلماء في ذلك أبو بكر بن سابق المالكي في كتابه البديع في فروع المالكية ، و تخريج ما لم يقع لهم منها على مذهبهم من تفاريع الشافعية .
و شاهد هذا أنه صلى الله عليه و سلم لم يكن منه شيء يكره ، و لا غير طيب .       و منه حديث علي رضي الله عنه : [ غسلت النبي صلى الله عليه و سلم ، فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أجد شيئاً ، فقلت : طبت حياً و ميتاً ، قال : و سطعت منه ريح طيبة لم نجد مثلها قط ] .
و مثله قال أبوبكر رضي الله عنه حين قبل النبي صلى الله عليه و سلم بعد موته .
و منه شرب مالك بن سنان دمه يوم أحد ، و مصه إياه [23 ] ، و تسويغه صلى الله عليه و سلم ذلك له ، و قوله : لن تصيبه النار .
و مثله شرب عبد الله بن الزبير دم حجامته ، فقال له عليه السلام : ويل لك من الناس ، و ويل لك منك و لم ينكره عليه .
و قد روي نحو من هذا عنه في امرأة شربت بوله ، فقال لها : لن تشتكي وجع بطنك أبداً . و لم يأمر واحداً منهم بغسل فم ، و لا نهاه عن عودة .
و حديث هذه المرأة التي شربت بوله صحيح ألزم الدار قطني مسلماً و البخاري إخراجه في الصحيح ، و اسم هذه المرأة بركة . و اختلف في نسبها .
و قيل : هي أم أيمن : و كانت تخدم النبي صلى الله عليه و سلم ، قالت : و كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم قدح من غيدان يوضع تحت سريره يبول فيه من الليل ، فبال فيه ليلة ، ثم افتقده ، فلم يجد فيه شيئاً . فسأل بركة عنه ، فقالت : قمت و أنا عطشانة فشربته و أنا لا أعلم .
روى حديثها ابن جريج و غيره .
و كان صلى الله عليه و سلم قد ولد مختوناً مقطوع السرة .
[ و روي عن أمه آمنة أنها قالت : قد ولدته نظيفاً ما به قذر ] .
و عن عائشة رضي الله عنها : [ ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه و سلم قط ] .
و عن علي رضي الله عنه : أوصاني النبي صلى الله عليه و سلم لا يغسله غيري ، فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه .
و في حديث عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : [ أنه نام حتى سمع له غطيط ، فقام فصلى و لم يتوضأ ] ، قال عكرمة : لأنه صلى الله عليه و سلم كان محفوظاً .


فصل

 

وفور عقله ، وقوة حواسه ، و فصاحة لسانه

 

و أما وفور عقله ، و ذكاء لبه ، و قوة حواسه ، و فصاحة لسانه ، و اعتدال حركاته ، و حسن شمائله ـ فلا مرية أنه كان أعقل الناس و أذكاهم .
و من تأمل تدبيره أمر بواطن الخلق و ظواهرهم ، و سياسة العامة و الخاصة ، مع عجيب شمائله ، و بديع سيره ، فضلاً عما أفاضه من العلم ، و قرره من الشرع دون تعلم سبق ، و لا ممارسة تقدمت ، و لا مطالعة للكتب منه ، لم يمتر في رجحان عقله ، و ثقوب فهمه لأول بديهة ، و هذا ما لا يحتاج إلى تقريره لتحقيقه .
و قد قال وهب بن منبه : قرأت في أحد و سبعين كتاباً ، فوجدت في جميعها أن النبي صلى الله عليه و سلم أرجح الناس عقلاً ، و أفضلهم رأياً .
و في رواية أخرى : فوجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلى الله عليه و سلم إلا كحبة رمل من بين رمال الدنيا .
و قال مجاهد : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قام في الصلاة يرى من خلفه كما يرى من بين يديه ] . و به فسر قوله تعالى : وتقلبك في الساجدين .
و في الموطأ عنه عليه السلام : إني لأراكم من وراء ظهري .
و نحوه ـ عن أنس في الصحيحين ، و عن عائشة مثله ، قالت : زيادة زاده الله إياها في حجته .
و في بعض الروايات : إني لأنظر من ورائي كما أنظر من بين يدي .
و في أخرى : إني لأبصر من قفاي كما أبصر من بين يدي .
و حكى بقي بن مخلد ، عن عائشة ، قالت : كان النبي صلى الله عليه و سلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء .
و الأخبار كثيرة صحيحة في رؤيته صلى الله عليه و سلم للملائكة و الشياطين .
و رفع النجاشي له حتى صلى عليه ، و بيت [ 24 ] المقدس حين وصفه لقريش و الكعبة حين بنى مسجده .
و قد حكي عنه صلى الله عليه و سلم أنه كان يرى في الثريا أحد عشر نجماً .
و هذه كلها محمولة على رؤية العين ، و هو قول أحمد بن حنبل و غيره .
و ذهب بعضهم إلى ردها إلى العلم ، و الظواهر تخالفه ، و لا إحالة في ذلك ، و هي من خواص الأنبياء و خصالهم ، كما أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد العدل من كتابه ، حدثنا أبو الحسن المقري الفرغاني ، حدثتنا أم القاسم بنت أبي بكر عن أبيها ، حدثنا الشريف أبو الحسن علي بن محمد الحسني ، حدثنا محمد بن محمد بن سعيد ، حدثنا محمدبن أحمد بن سليمان ، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق ، حدثنا همام ، قال : حدثنا الحسن ، عن قتادة ، عن يحيى بن وثاب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : لما تجلى الله لموسى عليه السلام كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ : و لا يبعد على هذا أن يختص نبينا بما ذكرناه من هذا الباب بعد الإسراء و الحظوة بما رأى من أيات ربه الكبرى .
و قد جاءت الأخبار بأنه صرع أبا ركانة أشد أهل وقته ، و كان دعاه إلى الإسلام و صارع أبا ركانة في الجاهلية ، و كان شديداً ، و عاوده ثلاث مرات ، كل ذلك يصرعه رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و قال أبو هريرة : ما رأيت أحداً أسرع من رسول الله صلى الله عليه و سلم في مشيه ، كأنما الأرض تطوى له ، إنا لنجهد أنفسنا و هو غير مكترث .
و في صفته أنه ضحكه كان تبسماً ، إذا إلتفت إلتفت معاً ، و إذا مشى مشى تقلعاً كأنما ينحط من صبب .

 

فصل

 

فصاحة لسانه ، و بلاغة قوله

 

و أما فصاحة اللسان ، و بلاغة القول ، فقد كان صلى الله عليه و سلم من ذلك بالمحل الأفضل و الموضع الذي لايجهل ، سلاسة طبع ، و براعة منزع ، و إجاز مقطع ، و نـصاعة لـفظ .
و جزالة قول ، و صحة معان ، و قلة تكلف ، أوتي جوامع الكلم ، و خص ببدائع الحكم ، و علم ألسنة العرب ، يخاطب كل أمة منها بلسانها ، و يحاورها بلغتها ، و يباريها في منزع بلاغتها ،حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه و تفسير قوله .       و من تأمل حديثه و سيره علم ذلك و تحققه ، و ليس كلامه مع قريش و الأنصار ، و أهل الحجاز و نجد ككلامه مع [ ذي المشعار الهمداني ، و طهفه الهندي ] ، و قطن بن حارثة العليمي ، و الأ شعث بن قيس ، و وائل بن حجر الكندي ، و غيرهم من أقيال حضرموت و ملوك اليمن .      و انظر كتابة إلى همدان : إن لكم فراعها و وهاطها و عزازها ، تأ كلون علافها و ترعون عفاءها ، لنا من دفئهم و صرامهم ماسلموا بالميثاق و الأمانة ، و لهم من الصدقة الثلب و الناب و الفصيل ، و الفارض و الداجن ، و الكبش الحوري ، و عليهم فيها الصالغ و القرح .
و قوله لنهد : اللهم بارك لهم في محضها و مخضها و مذقها ، و ابعث راعيها في الدثر ، و افجر له الثمد ، و بارك له في المال و الولد ، من أقام الصلاة كان مسلماً ، و من آتىالزكاة كان محسناً ، و من شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصاً ، لكم يابني نهد و دائع الشرك ، و وضائع الملك ، لاتلطط في الزكاة ، و لا تلحد في الحياة ، و لا تتثاقل عن الصلاة .      و كتب لهم : في الوظيفة الفريضة : و لكم الفارض و الفريش ، و ذو العنان الركوب ، و الفلو الضبيس ، [ 5 2 ] ، لايمنع سرحكم ، و لا يعضد طلحكم ، و لا يحبس دركم ما لم تضمروا الرماق ، و تأكلوا الرباق ، من أقر فله الوفاء بالعهد و الذمة ، و من أبي فعليه الربوة .
و من كتابه لوائل بن حجر .
إلى الأقيال العباهلة ، و الأرواع المشابيب . و فيه : في التيعة شاة ، لا مقورة الألياط و لا ضناك ، و أنطوا الثبجة ، و في السيوب الخمس . و من زنى مم بكر فاصعقوه مائة ، و استوفضوه عاماً ، و من زنى مم ثيب فضرجوه باللأضاميم ، و لا توصيم في الدين و لا غمة في فرائض الله ، و كل مسكر حرام . و وائل بن حجر يترفل على الأقيال .       أين هذا من كتابة لأنس في الصدقة المشهور . لما كان كلام هؤلاء على هذا الحد ، و ب لاغتهم على هذا النمط ، و أكثر استعمالهم هذه الألفاظ استعملها معهم ، ليبين للناس ما نزل إليهم ، و ليحدث الناس بما يعلمون .       و كقوله في حديث عطية السعدي : [ فإن اليد العليا هي المنطية و اليد السفلى هي المنطاة ] .       قال : فكلمنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بلغتنا .       و قوله في حديث العامري حين سأله ، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : سل عنك        أي سل عم شئت ، و هي لغة بني عامر .       و أما كلامه المعتاد ، و فصاحته المعلومة ، و جوامع كلمه ، و حكمة المأثورة ـ فقد ألف الناس فيها الدواوين و جمعت في ألفاظها و معانيها الكتب ، و فيها ما لا يوازي فصاحة ، و لا يباري بلاغة ، كقوله : المسلمون تتكافأ دماؤهم ، و يسعى بذمهم أدناهم ، و هم يد على من سواهم .       و قوله : الناس كأسنان المشط .
و المرء مع من أحب .
و لا خير في صحبة من لايرى لك ما ترى له .
و الناس معادن .
و ما هلك امروء عرف قدره . و المستشار مؤتمن ، و هو بالخير ما لم يتكلم . و رحم الله عبداً قال خيراً فغنم أو سكت فسلم .       و قوله : أسلم تسلم ، و أسلم يؤتك الله أجرك مرتين .       و إن أحبكم إلي و أقربكم مني مجالس يوم القيامة ، أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون و يؤلفون .       و قوله : لعله كان يتكلم بما لا يعنيه ، و يبخل بما لا يغنيه .      و قوله : ذو الوجهين لا يكون عند الله و جيهاً .       و نهيه عن قيل و قال ، و كثرة السؤال ، و إضاعة المال ، و منع و هات ، و عقوق الأمهات ، و وأد البنات .       و قوله : اتق الله حيثما كنت ، و أتبع السيئة الحسنة تمحها ، و خالق الناس بخلق حسن .
و قوله : و خير الأمور أوسطها .
و قوله : أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما .
و قوله : الظلم ظلمات يوم القيامة .
و قوله في بعض دعائه : اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي ، و تجمع بها أمري ، و تلم بها شعثي ، و تصلح بها غائبي و ترفع بها شاهدي ، و تزكي بها علمي ، و تلهمني بها رشدي ، و ترد بها ألفتي ، و تعصمني بها من كل سوء .
اللهم إني أسألك الفوز في القضاء ، و نزل الشهداء ، و عيش السعداء ، و النصر على الأعداء .
إلى ما روته الكافة عن الكافة عن المقاماته ، و محاض راته ، و خطبه ، و أدعيته ، و مخاطباته ، و عهوده ، مما لا خلاف أنه نزل من ذلك مرتبة لا يقاس بها غيره ، و حاز فيها سبقاً لا يقدر . و قد جمعت من كلماته التي لم يسبق إليها ، و لا قدر أحد أن يفرغ في قالبه [ 26 ]عليها ، كقوله : حمي الوطيس .
و مات حتف أنفه و لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين .
و السعيد من و عظ بغيره . . في أخواته مما يدرك الناظر العجب في مضمنها ، و يذهب به الفكر في أداني حكمها .      
و قد قال له أصحابه : ما رأينا الذي هو أفصح منك . فقال : و ما يمنعني ؟ و إنما أنزل القرآن بلساني ، لسان عربي مبين .
و قال مرة أخرى : بيد أني من قريش و نشأت في بني سعد .
فجمع له بذلك صلى الله عليه و سلم قوة عارضة البادية و جزالتها ، و نصاعة ألفاظ الحاضرة و رونق كلامها ، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي الذي لا يحيط بعلمه بشري .
و قالت أم معبد في وصفها له :
حلو المنطق ، فضل لا نزر و لا هذر ، كأن منطقه خرزات نظمن . و كان جهير الصوت ، حسن النعمة صلى الله عليه و سلم .


فصل
شرف نسبه ، و كرم بلده و منشئه

 

و أما شرف نسبه و كرم بلده و منشئه فمما لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه ، و لا بيان مشكل و لا خفي منه ، فإنه نخبة من بني هاشم ، و سلالة قريش و صميمها ، و أشرف العرب ، و أعزهم نفراً من قبل أبيه و أمه ، و من أهل مكة من أكرم بلاد الله على الله و على عباده .
حدثنا قاضي القضاة حسين بن محمد الصدفي رحمه الله ، قال : حدثنا القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف ، حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد ، حدثنا أبو محمد السرخسي ، و ابن إسحاق ، و أبو الهيثم : قالوا : حدثنا محمد بن يوسف ، قال حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرنا ، حتى كنت من القرن الذي كنت منه .
و عن العباس ، قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم ، من خير قرنهم ، ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة ، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نفساً ، و خيرهم بيتاً .
و عن واثلة بن الأسقع ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، و اصطفى من بني كنانة قريشاً و اصطفى من قريش بني هاشم ، و اصطفاني من بني هاشم .
قال الترمذي : و هذا حديث صحيح .
و في حديث عن ابن عمر ، رواه الطبري أنه صلى الله عليه و سلم قال : إن الله اختار خلقه ، فاختار منهم بني آدم ، ثم اختار بني آدم فاختار منهم العرب ، ثم اختار العرب فاختار منهم قريشاً ، ثم اختار قريشاً فاختار منهم بني هاشم ، ثم اختار بني هاشم فاختارني منهم ، فلم أزل خياراً من خيار ، ألا من أحب العرب فبحبي أحبهم ، و من أبغض العرب فببغضي أبغضهم .
و عن ابن عباس : إن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، يسبح ذلك النور ، و تسبح الملائكة بتسبيحه ، فلما خلق الله آدم ألقى ذلك النور في صلبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فأهبطني الله إلى الأرض في صلب آدم ، و جعلني في صلب نوح ، و قذف بي في صلب ابراهيم ، ثم لم يزل الله تعالى ينقلني من الأصلاب الكريمة و الأرحام الطاهرة ، حتى أخرجني من بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط . و يشهد لصحة هذا الخبر شعر الع باس في مدح النبي صلى الله عليه و سلم المشهور .


فصل
فيما تدعو إليه ضرورة الحياة إليه

على ثلاثة ضروب

 

الضرب الأول
ما التمدح و الكمال بقلته اتفاقاً

 

[ 27 ] و أما ما تدعو ضرورة الحياة إليه مما فصلناه فعلى ثلاثة ضروب : ضرب الفضل في قلته ، و ضرب الفضل في كثرته ، و ضرب تختلف الأحوال فيه .
فأما ما التمدح و الكمل بقلته اتفاقاً ، و على كل حال ، عادة و شريعة ، كالغذاء و النوم ، و لم تزل العرب و الحكماء تتمادح بقلتهما ، و تذم بكثرتهما ، لأن كثرة الأكل و الشرب دليل على النهم و الحرص و الشره ، و غلبة الشهوة مسبب لمضارالدنيا و الآخرة ، جالب لأدواء الجسد و خثار النفس ، و امتلاء الدماغ ، و قلته دليل على القناعة ، و ملك النفس ، و قمع الشهوة مسبب للصحة ، و صفاء الخاطر ، و حدة الذهن ، كما أن كثرة النوم دليل على الفسولة و الضعف ، و عدم الذكاء و الفطنة ، مسبب للكسل ، و عادة العجز ، و تضييع العمر في غير نفع ، و قساوة القلب و غفلته و موته .
و الشاهد على هذا ما يعلم ضرورة ، و يوجد مشاهدة ، و ينقل متوتراً من كلام الأمم المتقدمة ، و الحكماء السابقين ، و أشعار العرب و أخبارها ، و صحيح الحديث ، و آثار من سلف و خلف ، مما لا يحتاج إلى الإستشهاد عليه اختصا راً و اقتصاراً على اشتهار العلم به .
و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أخذ من هذين الفنين بالأقل .
هذا ما لا يدفع من سيرته ، و هو الذي أمر به ، و حض عليه ، لاسيما بارتباط أحدهما بالآخر .
حدثنا أبو علي الصدفي الحافظ بقراءتي عليه ، حدثنا أبو الفضل الأصبهاني ، حدثنا أبو نعيم الحافظ ، حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أبو بكر بن سهل ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح أن يحيى بن جابر حدثه عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه ، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، و ثلث لشرابه ، و ثلث لنفسه .
و لأن كثرة النوم من كثرة الأكل و الشرب .
قال سفيان الثوري : بقلة الطعام يملك سهر الليل .
و قال بعض السلف : لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً ، فترقدوا كثيراً ، فتخسروا كثيراً .
و قد روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه كان أحب الطعام إليه ما كان على ضعف ، أي كثرة الأيدي . و عن عا ئشة رضي الله عنها : لم يمتلىء جوف النبي صلى الله عليه و سلم شبعاً قط ، و أنه كان في أهله لا يسألهم طعاماً و لا يتشهاه ، إن أطعموه أكل ، و ما أطعموه قبل ، و ما سقوه شرب .
و لا يعترض على هذا بحديث بريرة ، و قوله : ألم أر البرمة فيها لحم إذ لعل سبب سؤاله ظنه صلى الله عليه و سلم اعتقاده أنه لا يحل له ، فأراد بيان سنته ، إذ رآهم لم يقدموه إليه ، مع علمه أنهم لا يستأثرون عليه به ، فصدق عليهم ظنه ، و بين لهم ما جهلوه من أمره بقوله : هو لها صدقة و لنا هدية
و في حكمه لقمان : يابني ، إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة ، و خرست الحكمة ، و قعدت العضاء عن العبادة .
و قال سحنون : لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع .
و في صحيح الحديث قوله صلى الله عليه و سلم : أما أنا فلا آكل متكئاً .
و الإتكاء : هو التمكن للأكل ، و التقعدد في الجلوس له كالمتربع ، و شبهه من تمكن الجلسات التي يعتمد عليها الجالس على ماتحته [ 28 ] ، و الجالس على هذه الهيئة يستدعي الأكل و يستكثر منه .
و النبي صلى الله عليه و سلم إنما كان جلوسه للأكل جلوس المستوفز مقعياً ، و يقول : إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، و أجلس كما يجلس العبد .
و ليس معنى الحدث في الإتكاء الميل على شق عند المحققين .
و كذلك نومه صلى الله عليه و سلم كان قليلاً ، شهدت بذلك الآثارالصحيحة ، و مع ذلك فقد قال : إن عيني تنامان و لا ينام قلبي .
وكان نومه على جانبه الأيمن استظهاراً على قلة النوم ، لأنه على جانب الأيسر أهنأ ، لهدو القلب و ما يتعلق به من الأعضاء الباطنية حينئذ ، لميلها إلى الجانب الأيسر ، فيستدعي ذلك الإستثقال فيه و الطول .
و إذا نام النائم على الأيمن تعلق القلب و قلق ، فأسرع الإفاقة و لم يغمره الإستغراق .


فصل
الضرب الثاني : ما يتفق على المدح بكثرته

 

و الضرب الثاني ما يتفق المدح بكثرته ، و الفخر بوفوره ، كالنكاح و الجاه : أما النكاح فمتفق فيه شرعاً و عادة ، فإنه دليل الكمال ، و صحة الذكورية ، و لم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة ، و التمادح به سيرة ماضية .
و أما في الشرع فسنة مأثورة ، و قد قال ابن عباس : أفضل هذه الأمة أكثرها نساء يشير إليه صلى الله عليه و سلم .
و قد قال عليه السلام : تناكحوا تناسلوا ، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة .
و نهى عن التبتل مع ما فيه من قمع الشهوة ، و غض البصر اللذين نبه عليهما صلى الله عليه و سلم بقوله : من كان ذا طول فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، و أحصن للفرج حتى لم يره العلماء مما يقدح في الز هد .
قال سهل بن عبد الله : قد حببن إلى سيد المرسلين ، فكيف يزهد فيهن ؟ و نحوه لابن عيينه .
و قد كان زهاد الصحابة كثيري الزوجات و السراري ، كثيري النكاح .
و حكي في ذلك على علي ، و الحسن ، و ابن عمر ، و غيرهم غير شيء .
و قد كره غير و احد أن يلقى الله عزباً .
فإن قلت : كيف يكون النكاح و كثرته من الفضائل ، و هذا يحيى بن زكريا عليه السلام قد أثنى ال له تعالى عليه أنه كان حصوراً ، فكيف يثني الله بالعجز عما تعده فضيلة ؟ .
و هذا عيسى عليه السلام تبتل عنه النساء ، و لو كان كما قررته لنكح ؟
فاعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى بأنه حصور ليس كما قال بعضهم :
إنه كان هيوباً ، أو لا ذكر له ، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين و نقاد العلماء ،
و قالوا : هذه تقيصة و عيب ، و لا تليق بالأنبياء .
و إنما معناه أنه معصوم من الذنوب ، أي لا تأتيها ، كأنه حصر عنها . و قيل :
مانعاً نفسه من الشهوات .
و قيل : ليست له شهرة في النساء .
فقد بان ذلك من هذا أن عدم القدر على النكاح نقص ، و إنما الفضل في كونها موجودة ، ثم قمعها ، إما بمجاهدة ، كعيسى عليه السلام ، أو بكفاية من الله تعالى ، كيحيى عليه السلام ـ فضيلة زائدة لكونها شاغلة في كثير من الأوقات حاطة إلى الدنيا . ثم هي في حق من أقدر عليها و ملكها و قام بالواجب فيها ، و لم تشغله عن ربه ـ درجة عالياً ، و هي درجة نبينا صلى الله عليه و سلم الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن ، و قيامه بحقوقهن ، و اكتسابه لهن ، و هدايته إياهن ، بل صرح أنها ليست من حظوظ [29] دنياه هو ، و إن كانت من حظوظ دنيا غيره ، فقال : حبب إلي من دنياكم . فدل على أن حبه لما ذكر من النساء و الطيب اللذين هما من أمور دنيا غيره ، و استعماله لذلك ليس لدنياه ، بل لآخرته ، للفوائد الذي ذكرناها في التزويج ، و للقاءالملائكة في الطيب ، و لأنه أيضاً مما يحض على الجماع ، و يعين عليه ، و يحرك أسبابه .
و كان حبه لهاتين الخصلتين لأجل غيره ، و قمع شهوته ، و كان حبه الحقيقي المختص بذاته في مشاهدته جبروت مولاه و مناجاته ، و لذلك ميز بين الحبين ، و فصل بين الحالين ، فقال : و جعلت قرة عيني في الصلاة ، فقد ساوى يحيى و عيسى في كفاية فتنتهن ، و زاد فضيلة بالقيام بهن .
و كان صلى الله عليه و سلم ممن أقدر على القوة في هذا ، و أعطي الكثير منه ، و لهذا أبيح له من عدد الحرائر ما لم يبح لغيره .
و قد روينا عن أنس أنه صلى الله عليه و سلم كان يدور على نسائه في الساعة من الليل و النهار ، و هن إحدى عشرة .
و عن طاوس : أعطي عليه السلام قوة أربعين رجلاً في الجماع .
و مثله عن صفوان بن سليم .
و قالت سلمى مولاته : طاف النبي صلى الله عليه و سلم ليلة على نسائه التسع ، و تطهر من كل واحدة قبل أن يأتي الأخر ى ، و قال : هذا أطيب و أطهر .
قال أنس : و كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين رجلاً . خرجه النسائي ، و روي نحوه عن أبي رافع .
و قد قال سليمان ـ عليه السلام : [ لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع و تسعين ] و أنه فعل ذلك .
قال ابن عباس : كان في ظهر سليمان ماء مائة رجل أو تسع و تسعين ، و كانت له ثلاثمائة امرأة و ثلاثمائة سرية .
و حكى النقاش و غيره سبعمائة امرأة و ثلاثمائة سرية .
و قد كان لداود عليه السلام على زهده و أكله من عمل يده تسع و تسعون امرأة ، و تمت بزوج أوريا مائة .
و قد نبه على ذلك في الكتاب العزيز بقوله تعالى : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة [ سورة ص / 38 ، الآية : 23 ] .
و في حديث أنس عنه ، عليه السلام : فضلت على الناس بأربع : بالسخاء ، و الشجاعة ، و كثرة الجماع ، و قوة البطش .
و أما الجاه فمحمود عند العقلاء عادة و بقدر جاهه عظمه في القلوب .
و قد قال الله تعالى في صفة عيسى عليه السلام : وجيها في الدنيا والآخرة ، لكن آفاته كثيرة ، فهو مضر لبعض الناس لعقبى الأخرة ، فلذلك ذمه من ذمه ، و مدح ضده .
و ورد في الشرع مدح الخمول ، و ذم العلو في الأرض .
و كان صلى الله عليه و سلم قد رزق من الحشمة ، و المكانة في القلوب ، و العظمة قبل النبوة عند الجاهلية و بعدها ، و هم يكذبونه و يؤذون أصحابه ، و يقصدون أذاه في نفسه خفية حتى إذا واجههم أعظموا أمره ، و قضوا حاجته .
و أخباره في ذلك معروفة سيأتي بعضها .
و قد كان يبهت و يفرق لرؤيته من لم تره ، كما روي عن قيلة أنها لما رأته أرعدت من الفرق ، فقال : يا مسكينة ، عليك السكينة .
و في حديث أبي مسعود أن رجلاً قام بين يديه فأرعد ، فقال : هون عليك فإني لست بملك .. لحديث .
فأما عظم قدره بالنبوة ، و شريف منزلته بالرسالة ، و إنافة رتبته بالإصطفاء و الكرامة في الدنيا فأمر هو مبلغ النهاية ، ثم هو في الآخرة سيد ولد آدم .
و على معنى هذا الفصل نظمنا هذا القسم بأسره .

 

 فصل
الضرب الثالث : ما تختلف الحالات في التمدح به

 

و أما الضرب الثالث ، فهو ما تختلف الحالات في التمدح به و التفاخر بسببه ، و التفضيل [ 30 ] لأجله ، ككثرة المال ـ فصاحبه على الجملة معظم عند العامة ، لإعتقادها توصله به إلى حاجاته ، و تمكن أغراضه بسببه ، و إلا فليس فضيلة في نفسه ، فمتى كان المال بهذه الصورة ، و صاحبه منفقاً له في مهمات من اعتراه و أمله ، و تصريفه في مواضعه مشترياً به المعالي و الثناء الحسن ، و المنزلة في القلوب ـ كان فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا ، و إذا صرفه في وجوه البر ، و أنفقه في سبيل الخير ، و قصد بذلك الله و الدار الآخرة ، كان فضيلة عند الكل بكل حال ، و متى كان صاحبه ممسكاً له غير موجهه وجوهه ، حريصاً على جمعه ، عاد كثرة كالعدم ، و كان منقصة في صاحبه ، و لم يقف به على جدد السلامة ، بل أوقعه في هوة رذيلة البخل ، و مذمة النذالة ، فإذا التمدح بالمال و فضيلته عند مفضله ليست لنفسه ، و إنما هو للتوصل به إلى غيره ، و تصريفه في متصرفاته ، فجامعه إذا لم يضعه مواضعه ، و لا وجهه وجوهه غير مليء بالحقيقة و لا غنى بالمعنى ، و لا ممتدح عند أحد من العقلاء ، بل هو فقير أبداً غير واصل إلى غرض من أغراضه ، إذ ما بيده من المال الموصل لها لم يسلط عليه ، فأشبه خازن مال غيره ، و لا مال له ، فكان ليس في يده منه شيء .
و المنفق مليء و غني بتحصيله فوائد المال ، و إن لم يبق في يده من المال شيء .
فانظر سيرة نبينا صلى الله عليه و سلم و خلقه في المال تجده قد أوتي خزائن الأرض ، و مفاتيح البلاد ، و أحلت له الغنائم ، و لم تحل لنبي قبله ، و فتح عليه في حياته صلى الله عليه و سلم بلاد الحجاز و اليمن ، و جميع جزيرة العرب ، و ما دانى ذلك من الشام و العراق ، و جلبت إليه من أخماسها و جزيتها و صدقاتها ما لا يجني للملوك إلا بعضه ، و هادته جماعة من ملوك الأقاليم فيما استأثر بشيء منه ، و لا مسك منه درهما ، بل صرفه مصارفه ، و أغنى به غيره ، و قوى به المسلمين ، و قال : ما يسرني أن لي أحداً ذهباً يبيت عندي منه دينار ، إلا ديناراً أرصده لدين .
و أتته دنانير مرة فقسمها ، و بقيت منه ستة ، فدفعها لبعض نسائه ، فلم يـأخذه نوم حتى قام و قسمها ، و قال : الآن استرحت .
و مات و درعه مرهونة في نفقة عياله .
و اقتصر من نفقته و ملبسه و مسكنه على ما تدعو ضرورته إليه .
و زهد فيما سواه ، فك ان يلبس ما وجده ، فيلبس في الغالب الشملة ، و الكساة الخشن ، و البرد الغليظ ، و يقسم على من حضره أقيبة الديباج المخوصة بالذهب ، و يرفع لمن لم يحضره ، إذ المباهاة في الملابس و التزين بها ليست من خصال الشرف و الجلالة ، و هي من سمات النساء .
و المحمود منها نقاوة الثوب ، و التوسط في جنسه ، و كونه لبس مثله ، غير مسقط لمروءة جنسه مما لا يؤدي إلى الشهرة في الطرفين .
و قد ذم الشرع ذلك ، و غاية الفخر فيه في العادة عند الناس إنما يعود إلى الفخر بكثرة الموجود ، و وفور الحال .
و كذلك التباهي بجودة المسكن ، و سعة المنزل ، و تكثير آلاته و خدمه و مركوباته .
و من ملك الأرض ، و جبي إليه ما فيها ، فترك ذلك ذهداً و تنزهاً ، فهو حائز لفضيلة المال ، و مالك للفخر بهذه الخصلة إن كانت فضيلة زائد عليها في الفخر ، و معرق في المدح بإضرابه عنها ، و زهدة في فانيها ، و بذلها في مظانها .


فصل

 

في الخصال المكتسية من الأخلاق الحميدة

 

و أما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة [ 31 ] و الآداب الشريفة التي اتفق جميع العقلاء على تفضيل صاحبها ، و تعظيم المتصف بالخلق الواحد منها ، فضلاً عما فوقه و أثنى على الشرع على جميعها ، و أمر بها ، و وعد السعادة الدائمة للمتخلق بها ، و وصف بعضها بأنه من أجزاء النبوة ، و هي المسماة بحسن الخلق ، و هو الإعتدال في قوى النفس و أوصافها ، و التوسط فيها دون الميل إلى منحرف أطرافها ، فجميعها ، قد كانت خلق نبينا محمد صلى الله عليه و سلم على الإنتهاء في كمالها ، و الإعتدال إلى غايتها ، حتى أثنى الله بذلك عليه ، فقال تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم [ سورة القلم / 68 ، الآية : 4 ] .
قالت عائشة ـ رضي الله عنها : كان خلقه القرآن ، يرضى برضاه ، و يسخط بسخطه .
و قال صلى الله عليه و سلم : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .
قال انس : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أحسن الناس خلقاً .
و عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثله .
و كان فيما ذكره المحقوق محبولاً عليها في أصل خلقته و أول فطرته ، لم تحصل له باكتساب و لا رياضة إلا بجود إلهي ، و خصوصية رب انية .
و هكذا لسائر الأنبياء ، و من طالع سيرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقق ذلك ، كما عرف من حال عيسى و موسى ، و يحيى ، و سليمان ، و غيرهم عليهم السلام .
بل غرزت فيهم هذه الأخلاق في الجبلة ، و أودعوا العلم و الحكمة في الفطرة ، قال الله تعالى : وآتيناه الحكم صبيا [ سورة مريم / 19 ، الآية : 12 ] .
قال المفسرون : أعطي يحيى العلم بكتاب الله تعالى في حال صباه .
و قال معمر : كان يحيى ابن سنتين أو ثلاث ، فقال له الصبيان : لم لا تلعب ؟
فقال : أللعب خلقت ! .
و قيل في قوله تعالى : مصدقا بكلمة من الله : صدق يحيى بعيسى ، و هو ابن ثلاث سنين ، فشهد له أنه كلمة الله و روحه .
و قيل : صدقه و هو في بطن أمه ، فكانت أم يحيى تقول لمريم : إنى أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك ، تحتة له . و قد نص الله تعالى على كلام عيسى لأمه عند ولادتها إياه بقوله لها : أن لا تحزني على قراءة من قرأ من تحتها و على قول من قال : إن المنادي عيسى .
و نص على كلامه في مهده ' فقال : إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا .
و قال : ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ سورة الأنبياء / 21 ، الآية : 79 ] .
و قد ذكر من حكم سليمان و هو صبي يلعب في قصة المجرومة ، و في قصة الصبي ما اقتدى به داود أبوه .
و حكى الطبري أن عمره كان حين أوتي الملك اثني عشر عاماً .
و كذلك قصة موسى مع فرعون و أخذه بلحيته و هو طفل .
و و قال المفسرون ـ في قوله تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل ، أي هديناه صغيرا ، قاله مجاهد و غيره .
و قال ابن عطاء : اصطفاه قبل إبداء خلقه .
و قال بعضهم : لما ولد إبراهيم عليه السلام بعث الله تعالى إليه ملكاً يأمره عن الله أن يعرفه بقلبه ، و يذكره بلسانه ، فقال : قد فعلت ، و لم يقل أفعل ، فذلك رشده .
و قيل : إن إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار و محنته كانت و هو ابن ست عشرة سنة ، و إن ابتلاء إسحاق بالذبح كان و هو ابن سبع سنين ، و إن استدلال إبراهيم بالكوكب و القمر و الشمس كان و هو ابن خمسة عشر شهراً .
و قيل : أوحي إلى يوسف و هو صبي عندما هم إخوته بإلقائه في الجب ، يقول الله تعالى : وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون [ سورة يوسف / 12 ، الآية : 15 ] .
[ 32 ] إلى غير ذلك مما ذكرنا من أخبارهم .
و قد حكى أهل السير أن آمنة بنت وهب أخبرت أن نبينا محمداً صلى الله عليه و سلم ولد حين ولد باسطاً يديه إلى الأرض ، رافعاً رأسه إلى السماء .
و قال في حديثه صلى الله عليه و سلم : لما نشأت بغضت إلي الأوثان . و بغض إلى الشعر .
و لم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين ، فعصمني الله منهما ، ثم لم أعد .
ثم يتمكن الأمر لهم ، و تترادف نفحات الله عليهم ، و تشرق أنوار المعارف في قلوبهم ، حتى يصلوا الغاية ، و يبلغوا ـ باصطفاء الله تعالى لهم بالنبوة في تحصيل هذه الخصال الشريفة ـ النهاية دون ممارسة و لا رياضة ، قال الله تعالى : ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما [ سورة يوسف / 12 ، الآية 22 ] .
و قد نجد غيرهم يطبع على بعض هذه الأخلاق دون جميعها ، و يولد عليها ، فيسهل عليه اكتساب تمامها عناية من الله تعالى ، كما نشاهد من خلقه بعض الصبيان على حسن السمت ، أو الشهامة ، أو صدق اللسان ، أو السماحة ، و كما نجد بعضهم على ضدها ، فبالإكتساب يكمل ناقصها ، و بالرياضة و المجاهدة يستجلب معدومها ، و يعتدل منحرفها ، و باختلاف هذين الحالين يتفاوت الناس فيها . و كل ميسر لما خلق له . و لهذا ما قد اختلف السلف فيها : هل هذا الخلق ج بلة أو مكتسبة ؟ .
فحكى الطبري عن بعض السلف أن الخلق الحسن جبلة و غريزة في العبد ، و حكاه عن عبد الله بن مسعود ، و الحسن ، و به قال هو .
و الصواب ما أصلناه . و قد روى سعد عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة و الكذب .
و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديثه : و الجرأة ، و الجبن غرائز يضعها الله حيث يشاء . و هذه الأخلاق المحمودة و الخصال الجميلة كثيرة ، و لكنا نذكر أصولها ، و نشير إلى جميعها ، و نحقق وصفه صلى الله عليه و سلم بها إن شاء الله تعالى .

 

فصل

 

في بيان أصول هذه الأخلاق و تحقق وصف النبي بها

 

أما أصل فروعها ، و عنصر ينابيعها ، و نقطة دائرتها فالعقل الذي منه ينبعث العلم و المعرفة ، و يتفرع عن هذا ثقوب الرأي ، و جودة الفطنة ، و الإصابة ، و صدق الظن ، و النظر للعواقب و مصالح النفس ، و مجاهدة الشهوة ، و حسن السياسة و التدبير ، و اقتناء الفضائل ، و تجنب الرذائل .
و قد أشرنا إلى مكانه عليه السلام ، و بلوغه منه و من العلم الغاية التي لم يبلغها بشر سواه ، و إذ جلالة من ذلك ، و مما تفرع منه متحقق عند من تتبع مجاري أحواله ، و اطراد سيره ، و طالع جوامع كلامه . و حسن شمائله ، و بدائع سيره ، و حكم حديثه ، و علمه بما في التوراة و الإنجيل و الكتب المنزلة ، و حكم الحكماء ، و سير الأمم الخالية ، و إياها و ضرب الأمثال ، و سياسات الأنام ، و تقرير الشرائع ، و تأصيل الأداب النفسية ، و الشيم الحميدة إلى فنون العلوم التي اتخذ أهلها كلامه عليه السلام فيها قدره ، و إشاراته حجة ، كالعبارة ، و الطب ، و الحساب ، و الفرائض ، و النسب ، و غير ذلك مما سنبينه في معجزاته إن شاء الله ، دون تعليم و لا مدارس ، و لا مطالعة كتب من تقدم ، و لا الجلوس إلى علم ائهم ، بل بني أمي لم يعرف بشيء [ 23 ] من ذلك ، حتى شرح الله صدره ، و أبان أمره ، و علمه ، و أقرأه ، يعلم ذلك بالمطالعة و البحث عن حاله ضرورة ، و بالبرهان القاطع على نبوته نظراً ، فلا نطول بسرد الأقاصيص ، و آحاد القضايا ، إذ مجموعها مالاً يأخذه حصر ، ولا يحيط به حفظ جمع ، و بحسب عقله كانت معارفه صلى الله عليه و سلم إلى سائر ماعلمه الله تعالى ، و أطلعه عليه من علم ما يكون و ما كان ، و عجائب قدره ، وعظيم ملكوته ، قال تعالى وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [ سورة النساء / 4 ، الآية : 113 ]
حارث العقول في تقدير فضله عليه ، و خرست الألسن دون و صف يحيط بذلك أو ينهى إليه .      

 

الفصل

 

في الفرق بين الحلم و الإحتمال ، و العفو مع القدرة ، و الصبر على ما يكره

 

و أما الحلم و الاحتمال ، و العفو مع القدرة ، و الصبر على ما يكره ، و بين هذه الألقاب فرق ، فإن الحلم حالة توقر و ثبات عند الأسباب المحركات . و الاحتمال : حبس النفس عند الآلام و المؤذيات . و مثلها الصبر ، و معانيها متقاربة .
و أما العفو فهو ترك المؤاخذة .
و هذا كله مما أدب الله تعالىبه نبيه صلى الله عليه و سلم ، فقال : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [ سورة الأعراف / 7 ، الآية : 99 1 ] .
روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم نزلت عليه هذه الآية سأل جبريل عليه السلام عن تأويلها ، فقال له : أسأل العالم .
ثم ذهب فأتاه ، فقال : يامحمد . إن الله يأمرك أن تصل من قطعك ، و تعطي من حرمك ، و تعفو عمن ظلمك .
قال له : واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور .
و قال تعالى : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ سورة الأحقاف / 6 4 ، الآية : 35 ]
قال : وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم .
و قال : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ سورة الشورى / 42 ، الآية : 3 4 ] .
و لا خفاء بما يؤثر من حلمه و احتماله ، و أن كل حليم قد عرفت منه زله ، و حفظت عنه هفوه ، وهو صلى الله عليه و سلم لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبراً ، و على اسراف الجاهل إلا حلماً .
حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن علي التغلبي و غيره ، قالو ا : حدثنا محمد بن عتاب ، حدثنا أبو بكر بن و افد القاضي و غيره ، حدثنا أبو عيس ، حدثنا عبيد الله ، قال حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : ما خير رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمرين قط إلا اختار أيسرهم ما لم يكن اثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه ، و ما انتقم رسول الله صلى الله عليه و سلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمه الله تعالى، فينتقم الله بها .
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم كسرت رباعيته و شج و جهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه شديداً ، و قالو : لو دعوت عليهم ! فقال : إني لم أبعث لعاناً ، و لكني بعثت داعياً و رحمة . اللهم اهد قومي فإنهم لايعلمون .
و روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في بعض كلامه : بأبي أنت و أمي يا رسول الله ! لقد دعا نوح على قومه ، فقال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا . و لو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا ، فلقد وطيء ظهرك ، و أدمي وجهك ، و كسرت رباعيتك ، فأبيت أن تقول إلا خيراً ، فقلت : اللهم اغفر لقومي ، فإنهم لا يعلمون .
قال القاضي ابو الفضل وفقه الله : انظر في هذا القول من جماع الفضل ، و درجات الإحسان ، و حسن الخلق ، و كرم النفس ، و غاية الصبر [ 34 ] و الحلم ، إذ لم يقتصر صلى الله عليه و سلم على السكوت عنهم حتى عفا عنهم ، ثم أشفق عليهم و رحمهم ، و دعا و شفع لهم ، فقال : اغفر أو اهد ، ثم أظهر سبب الشفقة و الرحمة بقوله : لقومي ، ثم اعتذر عنهم بجهلهم ، فقال : فإنهم لا يعلمون .
و لما قال له الرجل : اعدن ، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ـ لم يزده في جوابه أن يبين له ما جهله .
و وعظ نفسه ، و ذكرها بما قال له ، فقال : و يحك ! فمن يعدل إن لم أعدل ! خبت و خسرت إن لم أعدل ! و نهى من أراد من أصحابه قتله .
و لما تصدى له غورث بن الحارث ليفتك به ، و رسول الله صلى الله عليه و سلم منتبذ تحت شجرة وحده قائلاً ، و الناس قائلون ، في غزاة ، فلم ينتبه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا و ه و قائم و السيف صلتاً في يده ، فقال : من يمنعك مني ؟ فقال الله فسقط السيف من يده ، فأخذه النبي صلى الله عليه و سلم ، و قال : من يمنعك مني ؟ قال : كن خير آخذ ، فتركه و عفا عنه . فجاء إلى قومه فقال : جئتكم من عند خير الناس .
و من عظيم خبره في العفو عفوه عن اليهودية التي سمته في الشاة بعد اعترافها ـ على الصحيح من الرواية .
و أنه لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره ، و قد أعلم به و أوحي إليه بشرح أمره ، و لا عتب عليه فضلاً عن معاقبته .
و كذلك لم يؤخذ عبد الله بن أبي و أشباهه من المنافقين بعظيم ما نقل عنهم في جهته قولاً و فعلاً ، بل قال لمن أشار بقتل بعضهم : لا يتحدث أن محمداً يقتل أصحابه .
و عن أنس رضي الله عنه : كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم ، و عليه برد غليظ الحاشية ، فجبذه الأعرابي بردائه جبذة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه ، ثم قال : يا محمد ، احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك ، فإنك لا تحمل لي من مالك و مال أبيك .
فسكت النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم قال : المال مال الله ، و أنا عبده .
ثم قال : و يقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي .
قال : لا .
قال : لم ؟ قال : لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة .
فضحك النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم أمر أن يحمل له على بعيره شعير ، و على الآخر تمر .
قالت عائشة رضي الله عنهما : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله . و ما ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله . و ما ضرب خادماً قط و لا إمرأة .
و جيء إليه برجل ، فقيل : هذا أراد أن يقتلك . فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : لن تراع ، لن تراع ، و لو أردت ذلك لم تسلط علي .
و جاءه زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقضاه ديناً عليه ، فجبذ ثوبه عن منكبه ، و أخذ بمجامع ثيابه ، و أغلظ له ، ثم قال : إنكم ، يا نبي عبد المطلب ، مطل ، فانتهره عمر و شدد له في القول ، و النبي صلى الله عليه و سلم يبتسم .
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا و هو كنا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر ، تأمرني بحسن القضاء ، و تأمره بحسن التقاضي .
ثم قال : لقد بقي من أجله ثلاث ، و أمر عمر يقضيه ماله و يزيده عشرين صاعاً لما روعه ، فكان سبب إسلامه .
ذلك انه كان يقول : ما بقي من علامات النبوة شيء إلا و قد عرفتها في محمد إلا اثنتين لم أخبرهما : يسبق حلمه جهله [ 35 ] ، و لا تزيده شدة الجهل إلا حلماً . فأختبره بهذا ، فوجده كما وصف .
و الحديث عن حلمه عليه السلام و صبره و عفوه عند القدرة أكثر من أن تأتي عليه ، و حسبك ما ذكرناه مما في الصحيح و المصنفات الثابتة إلى ما بلغ متواتراً مبلغ اليقين : من صبره على مقاساة قريش ، و أذى الجاهلية ، و مصابرته الشدائد الصعبة معهم إلى أن أظفره الله عليهم ، وحكمه فيهم ، و هم لا يشكون في استئصال شأفتهم ، و إبادة خضرائهم ، فما زاد على أن عفا و صفح ، و قال : ما تقولون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم ، و ابن أخ كريم ، فقال : أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، اذهبوا فأنتم الطلقاء . و قال أنس : هبط ثمانون رجلاً من التنعيم صلاة الصبح ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأخذوا ، فأعقتهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأنزل الله تعالى : وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا . و قال لأبي سفيان ـ و قد سيق إليه بعد أن جلب إليه الأحزاب ، و قتل عمه و أصحابه و مثل بهم ، فعفا عنه ، و لاطفه في القول : ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ فقال : بأبي أنت و أمي ! ما أحلمك و أوصلك و أكرمك ؟ .
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أبعد الناس غضباً ، و أسرعهم رضاً ، صلى الله عليه و سلم .

 

فصل

 

في معاني الجود و الكرم ، و السخاء و السماحة

 

و أما الجود و الكرم ، و السخاء و السماحة ـ فمعانيها متقاربة . و قد فرق بعضهم بينها بفروق ، فجعلوا الكرم الإنفاق بطيب النفس فيما يعظم خطره و نفعه ، و سموه أيضا حرية ، و هو ضد النذالة .
و السماحة : التجافي عما يستحقه المرء عند غيره بطيب نفس ، و هو ضد الشكاسة .
و السخاء : سهولة الإنفاق ، و تجنب اكتساب ما لا يحمد ، و هو الجود ، و هو ضد التقتير . و كان صلى الله عليه و سلم لا يوازى في هذه الأخلاق الكريمة ، و لا يبارى ، بهذا وصفه كل من عرفه .
حدثنا القاضي الشهيد أبو على الصدفي رحمه الله ، حدثنا القاضي أبو الوليد الباجي ، حدثنا أبو ذر الهروي ، حدثنا أبو الهيثم الكشميهني،وأبو محمد السرخسي ، و أبو إسحاق البلخي ، قالوا : حدثنا أبو عبد الله الفربري ، قال : حدثنا البخاري ، قال حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سفيان ، عن ابن المنكدر ، سمعت جابر بن عبد الله يقول : ما سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن شيء فقال : لا .
و عن أنس ، و سهل بن سعد مثله .
و قال ابن عباس : كان النبي صلى الله عليه و سلم أجود الناس بالخير ، و أجود ما كان في شهر رمضان ، و كان إذا لقيه جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة .
و عن أنس أن رجلاً سأله فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى بلده ، و قال : أسلموا ، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى فاقة . و أعطى غير واحد مائة من الإبل ، و أعطى صفوان مائة ثم مائة ثم مائة ، و هذه كانت حاله صلى الله عليه و سلم قبل أن يبعث .
و قد قال له ورقة بن نوفل : إنك تحمل الكل و تكسب العدوم .
و رد على هوازن سباياها ، و كانوا ستة آلاف .
و أعطى العباس من الذهب ما لم يطق حمله .
و حمل إليه تسعون ألف درهم ، فوضعت على حصير ، ثم قام إليها يقسمها ، فما رد سائلاً حتى فرغ منها .
و جاءه رجل ، فسأله فقال : ما عندي شيء ولكن ابتع علي ، فإذا [ 36 ] جاءنا شيء قضيناه .. .
فقال له عمر : ما كلفك الله ما لا تقدر عليه .
فكره النبي صلى الله عليه و سلم ذلك . فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ، أنفق و لا تخف من ذي العرش إقلالاً .
فتبسم النبي صلى الله عليه و سلم ، و عرف البشر في وجهه ، و قال : بهذا أمرت ذكره الترمذي .
و ذكر عن معوذ ابن عفراء ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم بقناع من رطب ـ يريد طبقاً ، و أجر زغب ـ يريد قثاء ، فأعطاني ملء كفه حلياً و ذهباً .
و قال أنس : كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يدخر شيئاً لغد .
و الخير بجوده صلى الله عليه و سلم و كرمه الكثير .
و عن أبي هريرة : أتى رجل النبي صلى الله عليه و سلم يسأله ، فاستسلف له رسول الله صلى الله عليه و سلم نصف وسق ، فجاء الرجل يتقاضاه ، فأعطاه وسقاً ، و قال : نصفه قضاء و نصفه نائل .

 

فصل

 

في الشجاعة و النجدة

 

و أما الشجاعة و النجدة فالشجاعة فضيلة قوة الغضب و انقيادها للعقل ، و النجدة : ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت حيث يحمد فعلها دون خوف .
و كان صلى الله عليه و سلم منهما بالمكان الذي لا يجهل ، قد حضر المواقف الصعبة ، و فر الكماة و الأبطال عنه غير مرة ، و هو ثابت لا يبرح ، و مقبل لا يدبر و لا يتزحزح و ما شجاع إلا و قد أحصيت له فرة ، و حفظت عنه جولة ، سواه .
حدثنا أبو علي الجياني فيما كتب لي ، قال : حدثنا القاضي سراج ، حدثنا أبو محمد الأصيلي ، قال : حدثنا أبو زيد الفقيه ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن اسماعيل ، حدثنا ابن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن أبي اسحاق : سمع البراء و سأله رجل : أفررتم يوم حنين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يفر .
ثم قال : لقد رأيته على بغلته البيضاء و أبو سفيان آخذ بلجامها ، و النبي صلى الله عليه و سلم يقول : أنا النبي لا كذب ، و زاده غيره : أنا ابن عبد المطلب .
قيل : فما رئي يومئذ أحد كان أشد منه .
و قال غيره : نزل النبي صلى الله عليه و سلم عن بغلته .
و ذكر مسلم ـ عن العباس ، قال : فلما التقى المسلمون و الكفار ولى المسلمون مدبرين ، فطفق رسول الله صلى الله عليه و سلم يركض بغلته نحو الكفار ، و أنا آخذ بلجامها أكفها إرادة ألا تسرع ، و أبو سفيان آخذ بركابه ، ثم نادى : يا للمسلمين ... الحديث .
و قيل : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا غضب ـ و لا يغضب الله لم يقم لغضبه شيء . و قال : ابن عمر : ما رأيت أشجع ، ولا أنجد ، ولا أجود ، و لا أرضى ، و لا أفضل من رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و قال علي رضي الله عنه : إنا كنا إذا حمي اليأس ـ و يروى : اشتد البأس ـ و احمرت الحدق اتقينا برسول الله ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه و لقد رأيتني يوم بدر و نحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه و سلم ، و هو أقربنا إلى العدو و كان من أشد الناس يومئذ بأساً .
و قيل : كان الشجاع هو الذي يقترب منه صلى الله عليه و سلم إذا دنا العدو ، لقربه منه . عن أنس : كان النبي صلى الله عليه و سلم أحسن الناس ، و أجود الناس ، و أشجع الناس ، لقد فزع أهل المدينة ليلة ، فانطلق ناس قبل الصوت ، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم راجعاً ، قد سبقهم إلى الصوت ، و استبرق الخبر على فرس لأبي طلحة عرى ، و السيف [ 37 ] في عنقه ، و هو يقول : لن تراعوا .
و قال عمران بن حصين : ما لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم كتيبة إلا كان أول من يضرب .
و لما رآه أبي بن خلف يوم أحد و هو يقول : أين محمد ، لا نجوت إن نجا .
و قد كان يقول للنبي صلى الله عليه و سلم ـ حين افتدى يوم بدر : عندي فرس أعلفها كل يوم فرفاً من ذرة أقتلك عليها .
فقال : له النبي صلى الله عليه و سلم أنا أقتلك إن شاء الله .
فلما رآه يوم أحد شد أبي على فرسه على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فاعترضه رجال من المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هكذا ، أي خلوا طريقه و تناول الحربة من الحارس بن الصمة ، فانتفض بها انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض ، ثم استقبله النبي صلى الله عليه و سلم ، فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً .
و قيل : بل كسر ضلعاً من أضلاعه ، فرجع إلى قريش يقول : قتلني محمد ، و هم يقولون لا بأس بك . فقال : لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم ، أليس قد قال : أنا أقتلك ، و الله لو بصق علي لقتلني . فمات بسرف في قف ولهم إلى مكة .

 

فصل

 

في حسن عشرته و أدبه و بسط خلقه

 

و أما حسن عشرته و أدبه و بسط خلقه صلى الله عليه و سلم مع أصناف الخلق فبحيث انتشرت به الأخبار الصحيحة .
قال علي رضي الله عنه [38] في و صفه عليه الصلاة و السلام : : كان أوسع الناس صدراً ، و أصدق الناس لهجة ، و ألينهم عريكة ، و أكرمهم عشرة .
حدثنا أبو الحسن علي بن مشرق الأنماطي فيما أجازنيه ، و قرأتة على غيره ، قال : حدثنا أبو إسحاق الحبال ، حدثنا أبو محمد بن النحاس ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا هشام أبو مروان ، و محمد بن المثني : قالا : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن قيس بن سعد ، قال زارنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ و ذكر قصة في آخرها : فلما أراد الإنصراف قرب له سعد حماراً ، و طأ عليه بقطيفة ، فركب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ثم قال سعد : يا قيس ، اصحب رسول الله صلى الله عليه و سلم .
قال قيس : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اركب ، فأبيت . فقال : إما أن تركب و إما أن تنصرف . فانصرفت .
[ و في رواية أخرى : اركب أمامي ، ف صاحب الدابة أولى بمقدمها ] .
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤلفهم ، و لا ينفرهم ، و يكرم كريم كل قوم و يوليه عليهم ، و يحذر الناس ، و يحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره و لا خلقه ، يتفقدأصحابه ، و يعطي كل جلسائه نصيبه ، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه . من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، و من سأله حاجة لم يرده إلا بها ، أو بميسور من القول ، قد وسع الناس بسطه و خلقه ، فصار لهم أباً ، و صاروا عنده في الحق سواء .
بهذا وصفه ابن أبي هالة ، قال : و كان دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ و لا غليظ ، و لا سخاب ، و لا فحاش و لا عياب ، و لا مداح ، يتغافل عما لا يشتهي و لا يؤنس منه .
و قال الله تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 159 ] .
و قال تعالى : ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون .
و كان يجيب من دعاه ، و يقبل الهدية و لو كانت كراعاً و يكافيء عليها .
قال أنس : خدمت رسول الله عشر سنين ، فما قال لي أف قط ، و ما قال لشيء صنعته : لم صنعته ؟ و لا ل شيء تركته : لم تركته ؟ .
و عن عائشة رضي الله عنها : ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ما دعاه أحد من أصحابه أو أهل بيته إلا قال : لبيك .
و قال جرير بن عبد الله : ما حجبني رسول الله صلى الله عليه و سلم منذ أسلمت ، و لا رآني إلا تبسم .
و كان يمازح أصحابه ، و يخالطهم و يحادثهم ، و يداعب صبيانهم ، و يجلسهم في حجره ، و يجيب دعوة الحر و العبد ، و الأمة و المسكين ، و يعود المرضى في أقضى المدينة ، و يقبل عذر المعتذر .
قال أنس : ما التقم أحد أذن رسول الله صلى الله عليه و سلم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه ، و ما أخذ أحد بيده فيرسل يد حتى يرسلها الآخر ، و لم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له .
و كان يبدأ من لقيه بالسلام ، و يبدأ أصحابه ، بالمصافحة ، و لم ير قط ماداً رجليه بين أصحابه حتى يضيق بهما على أحد . يكرم من يدخل عليه ، و ربما بسط له ثوبه ، و يؤثره بالوسادة التي تحته ، و يعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى ، و يكني أصحابه ، و يدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم ، و لا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوز فيقطعه بنهي أو قيام ـ و يروي : بانتهاء أو قيام .
و يروى أنه كان [ 39 ] لا يجلس إليه أحد و هو يصلي إلا خفف صلاته ، و سأله عن حاجته ، فإذا فرغ عاد إلى صلاته .
و كان أكثر الناس تبسماً ، و أطيبهم نفساً ، ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب .
قال عبد الله بن الحارث : ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه و سلم . و عن أنس : خدم المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلى الغداة بآنيتهم فيها الماء ، فما يؤتى بآنية إلا غمس يده فيها ، و ربما كان ذلك في الغداة الباردة ـ يريدون به التبرك .

 

فصل

 

في شفقته و رأفته و رحمته لجميع الخلق

 

و أما الشفقة و الرأفة و الرحمة لجميع الخلق فقد قال الله تعالى فيه : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 128 ] .
و قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ سورة الأنبياء / 21 ، الآية : 107 ] .
قال بعضهم : من فضله عليه السلام أن الله تعالى أعطاه اسمين من أسمائه ، فقال : بالمؤمنين رؤوف رحيم .
و حكى نحوه الإمام أبو بكر بن فورك . حدثنا الفقيه أبو محمد عبد الله بن محمد الخشبي بقراءتي عليه ، حدثنا إمام الحرمين أبو علي الطبري ، حدثنا عبد الغافر الفارسي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو الطاهر ، أنبأنا يونس ، عن ابن شهاب ، قال : غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوة ، و ذكر حنيناً ، قال : فأعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم صفوان بن أمية مائة من النعم ، ثم مائة ، ثم مائة .
قال ابن شهاب ، حدثنا سعيد بن المسيب أن صفوان قال : و الله لقد أعطاني ما أعطاني و إنه لأبغض الخلق إلي ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي .
و روي أن أعرابياً جاءه يطلب منه شيئاً ، فأعطاه ، ثم قال : أحسنت إليك ؟ . قال الأعرابي : لا ، و لا أجملت .
فغضب المسلمون و قاموا إليه ، فأشار إليهم أن كفوا ، ثم قام و دخل منزله ، و أرسل إليه ، و زاده شيئاً ، ثم قال : [ أحسنت إليك ؟ ] قال : نعم ، فجزاك الله من أهل و عشيرة خيراً .
فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : إنك قلت ما قلت و في أنفس أصحابي من ذلك شيء ، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك .
قال : نعم . فلما كان الغد أو العشي جاء ، فقال صلى الله عليه و سلم : إن هذا الأعرابي قال ما قال ، فزدناه أنه رضي ، أكذلك ؟ قال : نعم ، فجزاك الله من أهل و عشيرة خيراً .
فقال صلى الله عليه و سلم : مثلي و مثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه ، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً ، فناداهم صاحبها : خلوا بيني و بين ناقتي ، فإني أرفق بها منكم و أعلم ، فتوجه لها بين يديها ، فأخذ لها من قمام الأرض ، فردها حتى جاءت و استناخت ، و شد عليها رحلها ، و استوى ، و إني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار .
و روي عنه أنه صلى الله عليه و سلم قال : لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً ، فإني أحب أن أخرج إليكم و أنا سليم الصدر .
و من شفقته على أمته عليه السلام تخفيفه و تسهيله عليهم ، و كراهته أشياء مخافة أن تفرض عليهم ، كقوله : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء .
و خير صلاة الليل .
و نهيهم عن الوصال .
و كراهته دخول الكعبة لئلا يعنت أمته .
و رغبته لربه أن يجعل سبه و لعنه لهم رحمة بهم
و أنه كان يسمع بكاء الصبي فيتجوز في صلاته .
و من شفقته صلى الله عليه و سلم [ 40 ] أن دعا ربه و عاهده ، فقال : أيما رجل سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاة و رحمة ، و صلاة و طهوراً ، و قربة تقربه بها إليك يوم القيامة .
و لما كذبه قومه أتاه جبريل عليه السلام ، فقال له : إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك ، و ما ردوا عليك ، و قد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، فناداه ملك الجبال و سلم عليه ، و قال : مرني بما شئت ، و إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين .
قال النبي صلى الله عليه و سلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده و لا يشرك به شيئاً .
و روى أبن المنكدر أن جبريل عليه السلام قال الن بي صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى أمر السماء و الأرض و الجبال أن تطيعك . فقال : أؤخر عن أمتي لعل الله أن يتوب عليهم .
قالت عائشة : ما خير رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما .
و قال ابن مسعود رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا .
و عن عائشة أنها ركبت بعيراً و فيه صعوبة ، فجعلت تردده ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عليك بالرفق .


فصل

 

خلقه في الوفاء و حسن العهد ، و صلة الرحم

 

و أما خلقه صلى الله عليه و سلم في الوفاء و حسن العهد ، و صلة الرحم ـ فحدثنا القاضي أبو عامر محمد بن اسماعيل بقراءتي عليه ، قال حدثنا أبو بكر محمد بن محمد ، حدثنا أبو اسحاق الحبال ، حدثنا أبو محمد بن النحاس ، حدثنا ابن الأعرابي ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا محمد بن سنان ؟ ، قال : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن بديل ، عن عبد الكريم بن عبد الله بن شفيق ، عن ابنه ، عن عبد الله بن أبي الحمساء ، قال : بايعت النبي صلى الله عليه و سلم ببيع قبل أن يبعث ، و بقيت له بقية ، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ، فنسيت ، ثم ذكرت بعد ثلاث ، فجئت فإذا هو في مكانه ، فقال : [ يا فتى ، لقد شققت علي ، أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك ] .
و عن أنس : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أتي بهدية قال : اذهبوا بها إلى بيت فلانة ، فإنها كانت صديقة لخديجة ، إنها كانت تحب خديجة .
و عن عائشة قالت : ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة ، لما كنت أسمعه يذكرها ، و إن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها .
و استأذنت عليه أختها فارتاح إليها .
و دخلت عليه امرأة ، فهش لها ، و أحسن السؤال عنها ، فلما خرجت قال : إنها كانت تأتينا أيام خديجة ، و إن حسن العهد من الإيمان .
و وصفه بعضهم ، فقال : كان يصل ذوي رحمه من غير أن يؤ ثرهم على من هو أفضل منهم .
و قال صلى الله عليه و سلم : إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء غير أن لهم رحماً سأبلها ببلالها .
و قد صلى عليه السلام بأمانة ابنة ابنته يحملها على عاتقه ، فإذا سجد وضعها ، و إذا قام حملها .
و عن أبي قتادة : وفد وفد للنجاشي ، فقام النبي يخدمهم ، فقال له أصحابه : نكفيك . فقال : إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين ، و إني أحب أن أكافئهم .
و لما جيء بأخته من الرضاعة الشيماء في سبايا هوزان ، و تعرفت له بسط لها رداءه ، و قال لها : إن أحببت أقمت عندي مكرمة محبة ، أو متعتك و رجعت إلى قومك فاختارت قومها فمتعها .
و قال أبو الطفيل [ 41 ] : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم و أنا غلام إذا أقبلت امرأة حتى دنت منه ، فبسط لها رداءه ، فجلست عليه ، فقلت : من هذه ؟ قالوا : أمه التي أرضـعتـه .
و عن عمر بن السائب ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان جالساً يوما ً ، فأقبل أبوه من الرضاعة ، فوضع له بعض ثوبه ، فقعد عليه ، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه ، ثم أقبل أخوه من الرضاعة ، فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فأجلسه بين يديه .
[ و كان يبعث إلى ثويبة مولاة أبي لهب مرضعته بصلة و كسوة ، فلما ماتت سأل : من بقي من قرابتها فقيل لا أحد ] .
وفي حديث خديجة رضي الله عنها أنها قالت له صلى الله عليه و سلم : أبشر ، فوالله لا يحزنك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، و تحمل الكل ، و تكسب المعدوم ، و تقري الضيف ، و تعين على نوائب الحق .

 

فصل

 

في تواضعه صلى الله عليه و سلم

 

و أما تواضعه صلى الله عليه و سلم ، على علو منصبه و رفعة رتبه ـ فكان أشد الناس تواضعاً ، و أقلهم كبرا .
و حسبك أنه خير بين أن كان نبياً ملكاً أو نبياً عبداً ، فاختيار أن يكون نبياً عبداً ، فقال له إسرافيل عند ذلك : فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيد و لد آدم يوم القيامة ، و أول من تنشق الأرض عنه ، و أول شافع .
حدثنا أبو الوليد بن العواد الفقيه ـ رحمه الله ـ بقراءي عليه في منزله بقرطبة سنة سبع و خمسمائة ، حدثنا أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو عمر ، حدثنا ابن عبد المؤمن ، حدثنا ابن داسه ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الله بن نمير ، عن مسعد ، أبي العنبس ، عن أبي العدبس ، عن أبي مرزوق ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم متكئاً على عصا ، فقمنا له . قال لا تقومو ا كما تقوم الأعاجم ، يعظم بعضهم بعضاً .
و قال إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، و أجلس كما يجلس العبد .
و كان يركب الحمار ، و يردف خلفه ، و يعود المساكين ، و يجالس الفقراء ، و يجيب دعوة العبد ، و يجلس بين أصحابه مختلطا ً بهم حيثما انتهى به المجلس جلس .
و في حديث عمر عنه : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله و رسوله .
و عن أنس أن امرأة كان في عقلها شيء جائته ، فقال : إن لي إليك حاجة قال : اجلسي يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك .
قال : فجلست ، فجلس النبي صلى الله عليه و سلم إليها حتى فرغت من حاجتها .
قال أنس : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يركب الحمار ، و يجيب دعوة العبد ، و كان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف . قال : و كان يدعى إلى خبز الشعير و الإهالة السنخة فيجيب .
قال : و حج صلى الله عليه و سلم على رحل رث ، و عليه قطيفة ماتساو ي أربعة دراهم ، فقال : اللهم اجعله حجاً لا رياء فيه و لا سمعة .
هذا ، و قد فتحت عليه الأرض ، و أهدى في حجه ذلك ما أتى بدنة و لما فتحت عليه مكة و دخلها بجيوش المسلمين طأطأ على رحله رأسه حتى كاد يمس قادمته تواضعاً الله تعالى .
ومن تواضعه صلى الله عليه و سلم قوله : لا تفضلوني على يونس بن متى ، و لا تفضلوا بين الأنبياء ، و لا تخيروني على موسى ، و نحن أحق بالشك من إبراهيم و لو لبس ما لبس يوسف [ 42 ] في السجن لأجبت الداعي .
و قال للذي قال له : يا خير البرية : ذاك إبراهيم .
و سيأتي الكلام على هذه الأحاديث بعد هذا إن شاء الله .
و عن عائشة ، و الحسن ، و أبي سعيد و غيرهم في صفته ، و بعضهم يزيد على بعض : و كان في بيته في مهنة أهله يفلي ثوبه ، و يحلب شاته و يرقع ثوبه ، و يخصف نعله ، و يخدم نفسه ، و يقم البيت ، و يعقل البعير ، و يعلف ناضحه ، و يأكل مع الخادم ، و يعجن معها ، و يحمل بضاعته من السوق .
و عن أنس : إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه و سلم فتنطلق به حيث شاءت حتى تقضي حاجتها .
و دخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له : هون عليك فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد .
و عن أبي هريرة : دخلت السوق مع النبي صلى الله عليه و سلم ، فاشترى سراويل و قال للوزان : زن و أرجح ـ و ذكر القصة قال : فوثب إلى يد النبي صلى الله عليه و سلم يقبلها ، فجذب يده ، و قال : هذا تفعله الأعاجم بملوكها ، و لست بملك ، إنما أنا رجل منكم . ثم أخذ السراويل ، فذهبت لأحمله ، فقال : صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله .


فصل

 

عدله ، و أمانته ، و عفته ، وصدق لهجته

 

و أما عدله صلى الله عليه و سلم و أمانته و عفته و صدق لهجته ـ فكان صلى الله عليه و سلم آمن الناس ، و أعدل الناس ، و أعف الناس ، و أصدقهم لهجة منذ كان ، اعترف له بذلك محادوه و عداه .
و كان يسمى قبل نبوته الأمين .
قال ابن اسحاق : كان يسمى الأمين بما جمع الله فيه من الأخلاق الصالحة .
و قال تعالى : مطاع ثم أمين : أكثر المفسرين على أنه محمد صلى الله عليه و سلم .
و لما اختلف قريش و تحازبت عند بناء الكعبة فيمن يضع الحجر حكموا أول داخل عليهم ، فإذا النبي صلى الله عليه و سلم داخل ـ و ذلك قبل نبوته ، فقالوا : هذا محمد الأمين قد رضينا به .
و عن الربيع بن خثيم : كان يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجاهلية قبل الإسلام .
و قال صلى الله عليه و سلم : و الله إني لأمين في السماء أمين في الأرض .
حدثنا أبو علي الصدفي الحافظ بقرائتي عليه ، حدثنا أبو الفضل بن خيرون ، حدثنا أبو يعلى ابن زوج الحرة ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا محمد بن محبوب المروزي ، حدثنا أبو عيسى الحافظ ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن أبي اسحاق ، عن ناجية بن كعب ، عن علي ـ أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إنا لا نكذبك ، و لكن نكذب بما جئت به ، فأنزل الله تعالى : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [ سورة الأنعام / 7 ، الآية : 33 ] .
و روى غيره : لا نكذبك و لا أنت فينا بمكذب .
و قيل : إن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل يوم بدر ، فقال له : يا أبا الحكم ليس هنا غيري و غيرك يسمع كلامنا ، تخبرني عن محمد ، صادق هو أو كاذب ؟ فقال أبو جهل : و الله إن محمداً لصادق و ما كذب محمد قط .
و سأل هرقل عن أبا سفيان ، فقال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟
قال : لا .
و قال النضر بن الحارس لقريش : قد كان محمد فيكم غلاماً حدثا ،أرضاكم فيكم ، و أصدقكم حديثأً ، و أعظمكم أمانة حتى [ 43 ] إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، و جاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر . لا ، و الله ، ما هو بساحر .
و في الحديث عنه : ما لمست يده امرأة قط لا يملك رقها .
و في حديث علي ـ في وصفه صلى الله عليه و سلم : أصدق الناس لهجة .
و قال في الصحيح :و يحكى ! فمن يعدل إن لم أعدل ، خبت و خسرت إن لم أعدل .
قالت عائشة : ما خير رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه .
قال أبو العباس المبرد : قسم كسرى أيامه ، فقال : يصلح يوم الريح للنوم ، و يوم الغيمه للصيد ، و يوم المطر للشرب و اللهو ، و يوم الشمس للحوائج .
قال ابن خالوية : ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم ، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة غافلون ، و لكن نبينا صلى الله عليه و سلم جزء نهاره ثلاث أجزاء ، جزءاً لله ، و
جزءاً لأهله ، و جزءاً لنفسه ثم جزء جزأه بينه و بين الناس ، فكان يستعين بالخاصة على العامة ، و يقول : أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي ، فإنه من أبلغ حاجة من لا يستطيع إبلاغها آمنه الله يوم الفزع الأكبر .
و عن الحسن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يأخذ أحداً بقرف أحد ، و لا يصدق أحداً على أحد .
و ذكر أبو جعفر الطبري عن علي عنه صلى الله عليه و سلم : ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين ، كل ذلك يحول الله بيني و بين ما أريد من ذلك ، ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته ، قلت ليلة لغلام كان يرعى معي : لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب .
فخرجت كذلك حتى جئت أول دار من مكة سمعت عزفاً بالدفوف و المزامير لعرس بعضهم . فجلست أنظر ، فضرب على أذني فنمت ، فما أيقظني إلا مس الشمس ، فرجعت و لم أقض شيئاً . ثم عراني مرة أخرى مثل ذلك ، ثم لم أهم بعد ذلك بسوء .

 

فصل

 

وقاره صلى الله عليه و سلم ، و صمته ، و تؤدته و حسن هديه

 

و أما وقاره صلى الله عليه و سلم و صمته و تؤدته و مروءته و حسن هديه فحدثنا أبو علي الجياني الحافظ إجازة ، و عارضت بكتابه ، قال : حدثنا أبو العابس الدلائي ، أنبئنا أبو ذر الهروي ، أخبرنا أبو عبد الله الوراق ، حدثنا اللؤلؤي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عبد الرحمن بن سلام ، حدثنا حجاج بن محمد ، عن عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن عمر بن عبد العزيز بن وهيب : سمعت خارجة بن زيد يقول : كان النبي صلى الله عليه و سلم أوقر الناس في مجلسه ، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه .
و روى أبو سعيد الخدري : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا جلس في مجلس احتبى بيديه ، و كذلك كان أكثر جلوسه لله محتبياً .
و عن جابر بن سمرة أنه تربع ، و ربما جلس القرفصاء ، و هو في حديث قيلة ، و كان كثير السكوت لا يتكلم في غير حاجة ، يعرض عمن تكلم بغير جميل ، و كان ضحكه تبسماً ، و كلامه فصلاً لا فضول و لا تقصير ، و كان ضحك أصحابه عنده التبسم ، توقيراً له ، و اقتداء به . مجلسه مجلس حلم و حياء [ 44 ] ، و خير و أمانة لا ترفع فيه الأصوات ، و لا تؤبن فيه الحرم ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير .
و في صفته : يخطو تكفؤاً ، و يمشي هوناً كأنما ينحط من صبب .
و في الحديث الآخر : إذا مشى مشى مجتمعاً ، يعرف في مشيته أنه غير غرض و لا وكل ، أي غير ضجر و كسلان .
و قال عبد الله بن مسعود : إن أحسن الهدى هدي محمد صلى الله عليه و سلم .
و عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : كان في كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم ترتيل أو ترسيل .
قال ابن أبي هالة : كان سكوته على أربع : على الحلم ، و الحذر ، و التقدير و التفكر .
قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحدث حديثاً لو عده العاد أحصاه .
و كان صلى الله عليه و سلم يحب الطيب و الرائحة الحسنة ، و يستعملها كثيراً ، و يحض عليهما ، و يقول : حبب إلي من دنياكم النساء ، و جعلت قرة عيني في الصلاة .
و من مروءته صلى الله عليه و سلم نهيه عن النفخ في الطعام و الشراب ، و الأمر بالأكل مما يلي ، و الأمر بالسواك ، و إنقاء البراجم و الرواجب ، و استعمال خصال الفطرة .


فصل
زهده في الدنيا

 

و أما زهده في الدنيا فقد تقدم من الأخبار أثناء هذه السيرة ما يكفي . و حسبك من تقلله منها ، و اعراضه عن زهرتها ، و قد سيقت و قد سيقت إليه بحذافيرها ، و ترادفت عليه فتوحها إلي أن توفي صلى الله عليه و سلم و درعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله ، و هو يدعو و يقول : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً .
حدثنا سفيان بن العاصي ، و الحسين بن محمد الحافظ ، و القاضي أ أبو عبد الله التيمي ، قالوا : حدثنا أحمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو العباس الرازي ، قال حدثنا أبو أحمد الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا أبو حسين مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : ما شبع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة أيام تباعاً من خبز حتى مضى لسبيله .
و في رواية أخرى : من خبز شعير يومين متواليين ، و لو شاء الله لأعطاه ما لا يخطر ببال .
و في رواية أخرى : ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه و سلم من خبز بر حتى لقي الله تعالى .
قالت عائشة : ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم ديناراً و لا درهماً و لا شاة و لا بعيراً .
و في حديث عمرو بن الحارث : ما ترك إلا سلاحه و بغلته و أرضاً جعلها صدقة .
قالت عائشة : و لقد مات و ما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي .
و قال لي : إني عرض علي أن تجعل لي بطحاء مكة ذهباً . فقلت : لا ، يا رب ، أجوع يوماً و أشبع يوماً ، فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك و أدعوك ، و أما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك و أثني عليك .
و في حديث آخر أن جبريل نزل عليه ، فقال له : إن الله تعالى يقرئك السلام ، و يقول لك : أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهباً ، و تكون معك حيثما كنت ، فأطرق ساعة ، ثم قال : يا جبريل ، إن الدنيا دار من لا دار له ، و مال من لا مال له ، قد يجمعها من لا عقل له .
فقال له جبريل : ثبتك الله يا محمد بالقول الثابت .
و عن عائشة قالت : إن كنا آل محمد لنمكث شهراً ما نستوقد ناراً ، إن هو إلا التمر و الماء .
و عن عبد الرحمن بن عوف : هلك رسول الله صلى الله عليه و سلم [ 45 ] ، و لم يشبع هو و أهل بيته من خبز الشعير .
و عن عائشة و أبي أمامة ، و ابن عباس نحوه .
قال ابن عباس : كان صلى الله عليه و سلم يبيت هو و أهله الليالي المتتابعة طاوياً لا يجدون عشاء .
و عن أنس : ما أكل رسول الله صلى الله عليه و سلم على خوان و لا في سكرجة ، و لا خبز له مرقق ، و لا رأى شاة سميطاً قط .
و عن عائشة : إنما كان فراشه الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف .
و عن حفصة قالت : كان فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيته مسحاً نثنيه ثنيتين ، فينام عليه ، فثنيناه له ليلة بأربع ، فلما أصبح قال : ما فرشتم لي الليلة ؟ فذكرنا ذلك له ، فقال : ردوه بحاله فإن وطأته منعتني الليلة صلاتي .
و كان صلى الله عليه و سلم ينام أحياناً على سرير مرمول بشريط حتى يؤثر في جنبه .
و عن عائشة قالت : لم يمتلىء جوف النبي صلى الله عليه و سلم شبعاً قط و لم يبث شكوى إلى أحد و كانت الفاقة أحب إليه من الغنى ، و إن كان ليظل جائعاً يلتوي طول ليلته من الجوع فلا يمنعه صيام يومه ، و لو شاء سئل ربه جميع كنوز الأرض و ثمارها و رغد عيشها ، و لقد كنت أبكي له رحمة مما أرى به ، و أمسح بيدي على بطنه مما به من الجوع ، و أقول : نفسي لك الفداء ، و لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك ! فيقول : يا عائشة ، ما لي و للدنيا ، إخواني من أولى العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا ، فمضوا على حالهم ، فقدموا على ربهم ، فأكرم مآبهم ، و أجزل ثوابهم : فأجدني أستحيي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غدا دونهم ، و ما من شيء هو أحب إلي من اللحوق بإخواني و أخلائي .
قالت : فما أقام بعد إلا شهراً حتى توفى صلى الله عليه و سلم .

 

فصل
خوفه ربه ، و طاعته له ، و شدة عبادته

 

و أما خوفه ربه ، و طاعته له ، و شدة عبادته ، فعلى قدر علمه بربه ، و لذلك قال فيما حدثناه أبو محمد بن عتاب قراءة مني عليه . قال : حدثنا أبو القاسم الطرابلسي ، حدثنا أبو الحسن القابسي ، حدثنا أبو زيد المروزي ، حدثنا أبو عبد الله الفربري ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن بكير ، عن الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ـ أن أبا هريرة كان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً و لبكيتم كثيراً .
زاد في روايتنا ، عن أبي عيسى الترمذي ـ رفعه إلى أبي ذر : إني أرى ما لا ترون ، و أسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء و حق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا و ملك واضع جبهته ساجداً لله ، و الله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً و لبكيتم كثيراً ، و ما تلذذتم بالنساء على الفرش ، و لخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ، لوددت أني شجرة تعضد .
روي هذا الكلام : وددت أني شجرة تعضد ـ من قول أبي ذر نفسه ، و هو أصح .
و في حديث المغيرة : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى انتفخت قدماه .
و في رواية : كان يصلى حتى ترم قدماه ، فقيل له : أتكلف هذا و قد غفر لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر . قال : أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ .
و نحوه عن أبي سلمى و أبي هريرة .
و قالت عائشة : كان عمل رسول الله صلى الله عليه و سلم ديمة ، و أيكم يطيق [ 46 ] ما كان يطيق ! .
و قالت : كان يصوم حتى نقول : لا يفطر . و يفطر حتى نقول : لا يصوم .
و نحوه عن ابن العباس ، و أم سلمى ، و أنس .
و قالت : كنت لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته مصليا ، و لا نائماً إلا رأيته نائماً .
و قال عوف بن مالك : كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة فاستاك ثم توضأ ، ثم قام يصلي ، فقمت معه ، فبدأ فاستفتح البقرة ، فلا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل ، و لا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ ، ثم ركع ، فمكث بقدر قيامه ، يقول : سبحان ذي الجبروت و الملكوت و العظمة ، ثم سجد و قال مثل ذلك ، ثم قرأ آل عمران ، ثم سورة سورة ، يفعل مثل ذلك .
و عن حذيفة مثله ، و قال سجد نحواً من قيامه ، و جلس بين السجدتين نحواًمنه ، و قال : حتى قرأ البقرة ، و آل عمران ، و النساء ، و المائدة .
و عن عائشة : قام رسول الله صلى الله عليه و س لم بأية من القرأن ليلة .
و عن عبد الله بن الشخير : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يصلي ، و لجوفه أزيز كأزيز المرجل .
و قال أبن أبي هالة : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة .
فقال عليه السلام : إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة و روي سبعين مرة .
و عن علي رضي الله عنه ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن سنته ، فقال : المعرفة رأسمالي ، و العقل أصل ديني ، و الحب أساسي ، و الشوق مركبي ، و ذكر الله أنيسي ، و الثقة كنزي ، و الحزن رفيقي ، و العلم سلاحي ، و الصبر ردائي ، و الرضا غنيمتي ، و العجز فخري ، و الزهد حرفتي ، و اليقين قوتي ، و الصدق شفيعي ، و الطاعة حسبي ، و الجهاد خلقي ، و قرة عيني في الصلاة .
و في حديث آخر : و ثمرة فؤادي في ذكره ، و غمي لأجل أمتي ، و شوقي إلى ربي .

 

فصل
تفضيل الله بعض الأنبياء على بعض

 

اعلم وفقنا الله و إياك أن صفات جميع الأنبياء صلوات الله عليهم ، من كمال الخلق ، و حسن الصورة ، و شرف النسب ، و حسن الخلق ، و جميع المحاسن ، هي هذه الصفة ، لأنها صفات الكمال ، و الكمال و التمام البشري و الفضل الجميع لهم صلوات الله عليهم ، إذ رتبتهم أشرف الرتب ، و درجاتهم أرفع الدرجات ، و لكن فضل الله بعضهم على بعض ، قال الله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض . و قال : ولقد اخترناهم على علم على العالمين [ سورة الدخان / 44 ، الآية : 32 ] .
و قد قال عليه السلام : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر .
ثم قال آخر الحديث : على خلق رجل واحد ، على صورة ، أبيهم آدم ، طوله ستون ذراعاً في السماء .
و في حديث أبي هريرة : رأيت موسى فإذا هو رجل ضرب ، رجل ، أقنى كأنه من رجال شنوءة و رأيت عيسى فإذا هو رجل ربعة ، كثير خيلان الوجه ، أحمر كأنما خرج من ديماس .
و في حديث آخر : مبطن مثل السيف ، قال : و أنا أشبه ولد إبراهيم به .
و قال في حديث آخر في صفة موسى : كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال .
و في حديث أبي هريرة ، عنه صلى الله عليه و سلم : ما بعث الله تعالى من بعد لوط نبياً إلا في ذروة من قومه .
و يروى [ 47 ] : في ثروة ، أي كثرة و منعة .
و حكى الترمذي ، عن قتادة ، و رواه الدار قطني من حديث قتادة عن أنس : ما بعث الله نبياً حسن الوجه ، حسن الصوت ، و كان نبيكم أحسنهم وجهاً ، و أحسنهم صوتاً .
و في حديث هرقل : و سألتك عن نسبه ، فذكرت أنه فيكم ذو نسب ، و كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها .
و قال تعالى في أيوب : إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب .
و قال تعالى : يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا * وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا * وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا
[ سورة مريم / 19 ، الآيات : 12 ، 15 ] .
و قال : أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 39 ] .
و قال : إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم [ سورة آل عمران / 3 ، الآيات : 33 ، 34 ] .
و قال ـ في نوح : إنه كان عبدا شكورا [ سورة الإسراء / 17 ، الآية : 3 ] .
و قال : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين .
و قال : إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا [ سورة مريم / 19 ، الآية : 30 ] .
و قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 69 ] .
قال النبي صلى الله عليه و سلم : كان موسى رجلاً حيياً ستيراً ما يرى من جسده شيء استحياء . الحديث .
و قال تعالى ـ عنه : فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين .
و قال في وصف جماعة منهم : إني لكم رسول أمين [ سورة الشعراء / 26 ، الآية : 107 ] .
و قال : إن خير من استأجرت القوي الأمين [ سورة القصص / 28 ، الآية : 26 ] .
و قال : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ سورة الأحقاف / 46 ، الآية : 35 ] .
و قال : ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي ال محسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون * أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين * أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده
[ سورة الأنعام / 6 ، الآيات : 84 ، 90 ] .
فوصفهم بأوصاف جمة من الصلاح و الهدى و الاجتباء و الحكم و النبوة .
و قال : فبشرناه بغلام حليم و عليم .
و قال ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم * أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين
[ سورة الدخان / 44 ، الآية : 17 ، 18 ] .
و قال : ستجدني إن شاء الله من الصابرين [ سورة الصافات / 37 ، الآية : 102 ] .
و قال ـ في إسماعيل ـ : إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا * وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا [ سورة مريم / 19 ، الآية : 54 ، 55 ] .
و في موسى : إنه كان مخلصا [ سورة مريم / 19 ، الآية : 51 ] .
و في سليمان : نعم العبد إنه أواب [سورة ص/ 38 ، الآية : 30 ، 44 ] .
و قال : واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار * إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار .
و في داود : إنه أواب [ سورة / 38 الآية : 17 ] .
ثم قال : وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب .
و قال ـ عن يوسف : اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم .
و في موسى : ستجدني إن شاء الله صابر [ سورة الكهف / 18 ، الآية : 69] .
[ و قال تعالى ـ عن شعيب ـ : ستجدني إن شاء الله من الصالحين ]
و قال : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت
[ سورة هود / ، 11، الآية : 88 ] .
و قال : ولوطا آتيناه حكما وعلما [ سورة الأنبياء /21 ، الآية : 74 ] .
و قال : إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين
[ سورة الأنبياء /21 ، الآية :90 ] .
قال سفيان : هو الحزن الدائم .
في آي كثيرة ، ذكر فيها من خصالهم و محاسن أخلاقهم الدالة على كمالهم .
و جاء من ذلك في الأحاديث كثير ، كقوله : [ إنما الكريم ابن ا لكريم ابن الكريم ابن الكريم ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ،نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي ] .
و في حديث أنس : [ و كذلك الأنبياء تنام أعينهم و لا تنام قلوبهم ] .
و روى أن سليمان كان مع ما أعطي من الملك لايرفع بصره إلى السماء تخشعاً و تواضعاً الله تعالى .
و كان يطعم الناس لذائد الأطعمة و يأكل خبز الشعير .
و أوحى الله إليه : يا رأس العابدين ، و ابن محجة الزاهدين .
و كانت العجوز تعترضه ـ و هو على الريح في جنوده ، فيأمر الريح فتقف فينظر في حاجتها و يمضي .
و قيل ليوسف :مالك تجوع و أنت على خزائن الأرض ؟ أخاف أن أشبع فأنسى الجائع [48] .
و روى أبو هريرة عنه صلى الله عليه و سلم : خفف على داود القرآن ، فكان يأمر بدوابه ، فتسرج ، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج ، و لا يأكل إلا من عمل يده .
قال الله تعالى : وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر في السرد .
و كان سأل ربه أن يرزقه عملاً بيده يغنيه عن بيت المال .
و قال عليه السلام : أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله صيام داود : كان ينام نصف الليل ، و يقوم ثلثه ، و ينام سدسه ، و يصوم يوماً و يفطر يوماً و كان ي لبس الصوف ، و يفترش الشعر ، و يأكل خبز الشعير بالملح والرماد ، و يمزج شرابه بالدموع ، و لم ير ضاحكاً بعد الخطيئة ، ولا شاخصاً ببصره إلى السماء ، حياء من ربه ، و لم يزل باكياً حياته كلها .
و قيل : بكى حتى نبت العشب نت دموعه ، و حتى اتخذت الدموع في خذه أخدوداً .
و قيل : كان يخرج متنكراً يتعرف سيرته ، فيستمع الثناء عليه ، فيزداد تواضعاً .
و قيل لعيسى عليه السلام : لو اتخذت حماراً . قال : أنا أكرم على الله من أن يشغلني بحمار .
و كان يلبس الشعر ، و يأكل الشجر ، و لم يكن له بيت أينما أدركه النوم نام .
و كان أحب الأسامي إليه أن يقال له مسكين .
و قيل : إن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين كانت ترى خضرة البقل في بطنه من الهزال .
و قال عليه السلام : لقد كان الأنبياء قبلي يبتلي أحدهم بالفقر و القمل ، و كان ذلك أحب إليهم من العطاء إليكم .
و قال عيسى عليه السلام ـ لخنزير لقيه : اذهب بسلام . فقيل له في ذلك ، فقال : أكره أن أعود لساني المنطق بسوء .
و قال مجاهد : كان طعام يحيى العشب .
و كان يبكي من شية الله حتى اتخذ الدمع مجرى في خده ، و كان يأكل من الوحش لئلا يخالط الناس .
و حكى الطبري ، عن وهب ، أن موسىكان يستظل بعريش ، و يأكل في نقرة من حجر ، و يكرع فيها إذا أراد أن يشرب كما تكرع الدابه ، تواضعاً لله بما أكرمه الله به من كلامه .
و أخبارهم في هذا كله مسطورة ، و صفاتهم في الكمال و جميل الأخلاق ، و حسن الصور
و الشمائل معروفة مشهورة ، فلا نطول بها ، ولا تلتفت إلى ما تجده في كتب بعض جهلة المؤرخين و المفسرين مما يخالف هذا .

 

فصل
حديث جامع لوصفه

 

قد أتيناك ـ أكرمك الله ـ من ذكر الأخلاق الحميدة ، و الفضائل المجيدة ، و خصال الكمال العديدة ، و أريناك صحتها له صلى الله عليه و سلم ، و جلينا من الآثار ما فيه مقنع ، و الأمر أوسع ، فمجال هذا الباب في حقه صلى الله عليه و سلم ممتد ، تنقطع دون نفاده الأدلاء ، و بحر علم خصائصه زاخر لا تكدره الدلاء ، لكنا أتينا فيه بالمعروف مما أكثر في الصحيح و المشهور من المصنفات ، و اقتصرنا في ذلك بقل من كل ، و غيض من فيض ، و رأينا أن نختم هذه الفصول بذكر حديث الحسن ، عن أبي هالة ، لجمعه من شمائله و أوصافه كثيراً ، و إدماجه جملة كافيةً من سيره و فضائله ، و نصله بتنبيه لطيف على غريبه و مشكله .
حدثنا القاضي أبو الحسن بن محمد الحافظ ـ رحمه الله ـ بقراءتي عليه سنة ثمان و خمسمائة [ 49 ] ، قال : حدثنا الإمام أبو القاسم عبد الله بن طاهر التميمي قراءةً عليه ، أخبركم الفقيه الأديب أبو بكر محمد بن عبد الله بن الحسن النيسابوري ، و الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن المحمدي ، و القاضي أبو علي الحسن بن علي بن جعفر الوحشي ، قالوا : حدثنا أبو ا لقاسم علي بن أحمد بن محمد بن الحسن الخزاعي ، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، أنبأنا أبو عيسى بن سورة الحافظ ، قال : حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي إملاءً من كتابه ، قال : حدثني رجل من بني تميم من ولد أبي هالة زوج خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ، يكنى أبا عبد الله ، عن ابن لأبي هالة ، عن الحسن بن علي أبي طالب رحمه الله ، قال : سألت خالي هند بن أبي هالة .
قال القاضي أبو علي رحمه الله : و قرأت على الشيخ أبي طاهر أحمد بن الحسن ابن أحمد بن خذاداذ الكرجي الباقلاني ، قال : و أجاز لنا الشيخ الأجل أبو الفضل أحمد ابن الحسين بن خيرون ، قالا : حدثنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن ابن محمد بن شاذان بن حرب بن مهران الفارسي قراءةً عليه فأقر به ، قال : أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن علي ابن [ الحسين بن علي ] بن أبي طالب المعروف بابن أخي طاهر العلوي قال : حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، قا ل : حدثني علي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، عن أخيه موسى بن جعفر ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن علي بن الحسين ، قال : قال الحسن بن علي ـ و اللفظ لهذا السند : سألت خالي هند بن أبي هالة عن حلية رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ و كان وصافاً ـ و أنا أرجو أن يصفع لي منها شيئاً أتعلق به ، قال :
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم فخماً مفخماً ، يتلألأ وجهه تلإلأ القمر ليلة البدر ، أطول من المربوع ، و أقصر من المشذب ، عظيم الهامة ، رجل الشعر ، إن انفرقت عقيقته فرق ، و إلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنه ، إذا هو وفره ، أزهر اللون ، واسع الجبين، أزج الحواجب ، سوابغ ، من غير قرن ، بينهما عرق يدره الغضب ، أقنى العرنين ، له نور يعلوه ، و يحسبه من لم يتأمله أشم ، كث اللحية ، أدعج ، سهل الخدين ، ضليع الفم أشنب ، مفلج الأسنان ، دقيق المسربة ، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة ، معتدل الخق ، بادناً ، متماسكاً ، سواء البطن و الصدر ، مشيح الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس ، أنور المتجرد ، موصول ما بين اللبة و السرة بشعر يجري كالحظ ، عاري الثديين ، م ا سوى ذلك ، أشعر الذراعين و المنكبين و أعالي الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، شئن الكفين و القدمين ، سائل الأطراف ـ [ أو قال : سائن الأطراف ] ، سبط العصب ، خمصان الأخمصين ، مسيح القدمين ، ينبو عنهما الماء ، إذا زال زال تقلعا ، و يخطو تكفأً ، و يمشي هوناً ، ذريع المشية ، إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، و إذا التفت التفت جميعاً ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يسوق أصحابه ، [ 50 ] و يبدأ من لقيه بالسلام .
قلت : صف لي منطقه .
قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة ، و لا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتتح الكلام و يختمه بأشداقه ، و يتكلم بجوامع الكلم فصلاً ، لا فضول فيه و لا تقصير ، دمثاً ليس بالجافي و لا المهين ، يعظم النعمة و إن دقت ، لا يذم شيئاً ، لم يكن يذم ذواقاً ، و لا يمدحه ، و لا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له ، و لا يغضب لنفسه و لا ينتصر لها ، إذا أشار أشار بكفه كلها ، و إذا تعجب قلبها و إذا تحدث اتصل بها ، فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى ، و إذا غضب أعرض و أشاح ، و إذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، و يفتر عن مثل حب الغمام .
قال الحسن : فكتمتها الحسين : فكتمتها الحسين بن علي زماناً ،ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه ، فسأل أباه عن مدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم و مخرجه و مجلسه و شكله ، فلم يدع منه شيئاً .
قال الحسين : سألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال :
كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك ، فكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزءاً لأهله ، و جزؤاً لنفسه ، جزأ جزأه بينه و بين الناس ، فيرد ذلك على العامة بالخاصة ، و لا يدخر عنهم شيئاً ، فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه و قسمته على قدر فضلهم في الدين ، منهم ذو الحاجة ، و منهم ذو الحاجتين ، و منهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم ، و يشغلهم فيما أصلحهم ، و الأمة من مسألته عنهم و إخبارهم بالذي ينبغي لهم ، و يقول : ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، و أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته ، فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة . لا يذكر عنده إلا ذلك ، و لا يقبل من أحد غيره .
و قال في حديث سفيان بن وكيع : يدخلن رواداً ، و لا يتفرقون إلا عن ذواق ، و يخرجون أدلة ـ يعني فقهاء .
قلت : فأخبرني عن مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟
قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم و يؤلفهم و لا يفرقهم ، يكرم كريم كل قوم ، و يوليه عليهم ، و يحذر الناس ، و يحترس منهم ، من غير أن يطوي عن أحد بشره و خلقه ، و يتفقد أصحابه ، و يسأل الناس ، و يحسن الحسن و يصوبه ، و يقبح القبيح و يوهنه ، معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقتصر عن الحق ، و لا يجاوزه إلى غيره ، الذي يلونه من الناس خيارهم ، و أفضلهم عند أعمهم نصيحة ، و أعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة و موازرة .
فسألته عن مجلسه : عما كان يصنع فيه .
فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجلس و لا يقوم إلا على ذكر ، و لا يوطن الأماكن ، و ينهى عن إيطانها ، و إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، و يأمر بذلك ، و يعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب ، جليسه أن أحداً أكرم عليه فيه ، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى [ 51 ] يكون هو المنصرف عنه .
من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول . قد وسع ا لناس ، بسطه و خلقه ، فصار لهم أباً ، و صاروا عنده في الحق سواء ، متقاربين متفاضلين فيه التقوى .
و في الرواية الآخرى : صاروا عنده في الحق سواء ، مجلسه مجلس حلم و حياء ، و صبر و أمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، و لا تؤبن فيه الحرم ، و لا تثنى فلتاته ، و هذه الكلمة ، من غير الروايتين .
يتعاطون فيه بالتقوى متواصفين ، يوقرون فيه الكبير ، و يرحمون الصغير ، و يرفدون ذا الحاجة ، و يرحمون الغريب .
فسألته عن سيرته صلى الله عليه و سلم في جلسائه .
فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ و لا غليظ ، و لا سخاب ، و لا فحاش ، و لا عياب و لا مداح ، يتغافل عما لا يشتهي و لا يوئس منه ، قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء ، و الإكثار ، و ما لا يعنيه ، و ترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحداً ، و لا يعيره ، و لا يطلب عورته ، و لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤسهم الطير ، إذا سكت تكلموا ، لا يتنازعون عنده الحديث . من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون منه ، و يتعجب مما يتعجبون منه ، و يصبر للغريب على ال جفوة في المنطق ، و يقول : إذا رأيتم صاحب الحجة يطلبها فأرفدوه ، و لا يطلب الثناء إلا من مكافىء ، و لا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام .
هنا انتهى حديث سفيان بن وكيع .
و زاد الآخر : كيف كان سكوته صلى الله عليه و سلم ؟
قال : كان سكوته على أربع : الحلم ، و الحذر ، و التقدير ، و التفكير . فأما تقديره ففي تسوية النظر و الإستماع بين الناس ، و أما تفكره ففيما يبقى و يفنى .
و جمع له الحلم صلى الله عليه و سلم في الصبر ، فكان لا يغضبه شيء يستفزه ، و جمع له في الحذر أربع : أخذه بالحسن ليقتدى به ، و تركه القبيح لينتهى عنه ، و اجتهاد الرأي بما أصلح أمته ، و القيام لهم بما جمع أمر الدنيا و الآخرة .
انتهى الوصف بحمد الله و عونه .

 

فصل
في تفسير غريب هذا الحديث و مشكله

 

قوله : المشذب ، أي البائن الطول في نحافة ، و هو مثل قوله في الحديث الأخر : ليس بالطويل الممغنط .
و الشعر الرجل : الذي كأنه مشط فتكسر قليلاً ، ليس ببسط و لا جعد .
و العقيقة : شعر الرأس ، أراد إن انفرقت من ذات نفسها فرقها ، و إلا تركها معقوصة . و يروى : عقيصته .
و أزهر اللون : نيره . و قيل : أزهر : حسن . و منه زهرة الحياة الدنيا ، أي زينتها .
و هذا كما قال في الحديث الآخر : ليس بالأبيض الأمهق ، و لا بالآدم .
و الأمهق : هو الناصع البياض . و الآدم : الأسمر اللون .
و مثله في الحديث الآخر : أبيض مشرب ، أي فيه حمرة .
و الحاجب الأزج : المقوس الطويل الوافر الشعر .
و الأقنى : السائل الأنف ، المرتفع وسطه .
و الأشم : الطويل قصبة الأنف .
و القرن : اتصال شعر الحاجبين . و ضده البلج .
و وقع في حديث أم معبد وصفه بالقرن .
و الأدعج : الشديد سواد الحدقة .
و في الحديث الآخر : [ 52 ] أشكل العين ، و أسجر العين ، و هو الذي في بياضها حمرة .
و الضليع : الواسع .
و الشنب : رونق الأسنان ، و ماؤها .
و قيل : رقتها و تحزيز فيها ، كما يوجد في أسنان الشباب .
و الفلج : فرق بين الثنايا .
و دقيق المسربة : خيط الشعر الذي بين الصدر و السرة .
بادن : ذو لحم متماسك ، معتدل الخلق ، يمسك بعضه بعضاً ، مثل قوله تعالى في الحديث الأخر : لم يكن بالمطهم ، و لا بالمكلثم ، أي ليس بمسترخي اللحم .
و المكلثم : القصير الذقن .
و سواء البطن و الصدر ، أي مستويهما .
و مشيح الصدر ، إن أصبحت هذه اللفظة فتكون من الإقبال ، و هو أحد معاني [ أشاح ] ، أي أنه كان بادي الصدر ، و لم يكن في صدره قعس ، و هو تطامن فيه ، و به يتضح قوله قبل : سواء البطن و الصدر ، أي ليس بمتقاعس الصدر ، و لا مفاض البطن .
و لعل اللفظة : مسيح ـ بالسين ، و فتح الميم ، بمعنى عريض ، كما وقع في الرواية الأخرى . و حكاه ابن دريد .
و الكراديس : رؤوس العظام ، و هو مثل قوله في الحديث الأخر : جليل المشاش و الكتد .
و المشاش : رؤوس المناكب . و الكتد : مجتمع الكتفين .
و شثن الكفين و القدمين : لحيمهما .
و الزندان : عظما الذراعين .
و سائل الأطراف : أي طويل الأصابع .
و ذكر ابن الأنباري أنه روي سائل الأطراف ، و قال : سائن ـ بالنون ، قال : و هما بمعنى ، تبدل اللام من النون ، إن صحت الرواية بها .
و أما في الرواية الأخرى : و سائر الأطراف ـ فإشارة إلى فخامة جوارحه ، كما وقعت مفصلة في الحديث .
و رحب الراحة ، أي واسعها . و قيل : كنى به عن سعة العطاء و الجود . و خصمان الأخمصين : أي متجافي أخمص القدم ، و هو الموضع الذي لا تناله الأرض من وسط القدم .
مسيح ا لقدمين : أي أمسهما ، و لهذا ، قال : ينبو عنهما الماء .
و في حديث أبي هريرة خلاف هذا ، قال فيه : إذا وطىء بقدمه وطىء بكلها ، ليس له أخمص .
و هذا يوافق معنى قوله : مسيح القدمين ، و به قالوا : سمي المسيح [عيسى ] ابن مريم أي إنه لم يكن له أخمص .
و قيل مسيح : لا لحم عليهما .
وهذا أيضاً يخالف قوله : شئن القدمين .
و التقلع : هو رفع الرجل بقوة .
و التكفؤ : الميل الى سنن المشي ، و قصده .
والهون :الرفق و الوقار .
و الذريع : الواسع الخطو ، أي إن مشية كان يرفع فيه رجليه بسرعة ، و يمد خطوه ، خلاف مشية المختال ، و يقصد سمته ، و كل ذلك برفق و تثبت دون عجلة ، كما قال : كأنما ينحط من صبب .
و قوله : يفتتح الكلام و يختمه بأشداقه : أي لسعه فمه . و العرب تتمادح بهذا و تذم بصغر الفم .
و أشاح : مال و أنقبض .
و حب الغمام : ال برد .
و قوله : فيرد ذلك بالخاصة على العامة ، أي جعل من جزءنفسه ما يوصل الخاصة إليه فتوصل عنه للعامة .
و قيل : يجعل منه للخاصة ، ثم يبدلها في جزء آخر بالعامة .
و يدخلون رواداً ، أي محتاجين إليه و طالبين لما عنده .
و لا يتفرقون إلا عن ذواق : قيل : عن علم يتعلمونه ، و يشبه أن يكون على ظاهره أي في الغالب و الأكثر .
و العتاد : العدة ، و الشيء الحاضر المعد .
و الموازنة : المعاونة .
و قوله : لا يوطن الأماكن ، أي لا يتخذ لمصلاه موضعاً معلوماً .
و قد [53] ورد نهيه عن هذا مفسراً في غير هذا الحديث .
و صابره : أي حبس نفسه على مايريد صاحبه .
و لا تؤبن فيه الحرم : أي لا يذكرن فيه بسوء .
و لا تثني فلتاته : أي لا يتحدث بها ، أي ام تكن فيه فلتة ،و إن كانت من أحد سترت .
و يرفدون : يعينون .
و السخاب : الكثير الصياح .
و قوله : و لا يقبل الثناء إلا من مكافىء . قيل مقتصد في ثنائه و مدحه .
و قيل : إلا من مسلم .
و قيل : إلا مكافىء . على يد سبقت من النبي صلى الله عليه و سلم له .
و يستفزه : يستخفه .
و في حديث أخر في وصفه : منهوس العقب ، أي قليل لحمها .
و أهدب الأشفار :أي طويل شعرها .


الباب الثالث
فيما ورد من صحيح الأخبار و مشهورها ـ بعظيم قدره عند ربه و منزلته ، و ما خصه به في الدارين من كرامته صلى الله عليه و سلم

 

لا خلاف أنه أكرم البشر ، و سيد ولد آدم ، و أفضل الناس منزلة عند الله و أعلاهم درجة ، و اقربهم زلفى .
و اعلم أن الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جداً ، و قد اقتصرنا منها على صحيحها و منتشرها و حصرنا معاني ما ورد منها في اثني عشر فصلاً :

 

الفصل الأول
فيما ورد من ذكر مكانته عند ربه ، و الاصطفاء ، و رفعه الذكر ، و التفضيل و سيادة ولد آدم ، و ما خصه به في الدنيا من مزايا الرتب وبركة اسمه الطيب

 

131
أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد العدل إذناً بلقظه ، قال : حدثنا أبو الحسن الفرغاني ، حدستنا أم القاسم بنت أبي بكر بن يعقوب ، عن أبيها ، قال : حدثنا حاتم ـ هو ابن عقيل ، عن يحيى ـ هو ابن إسماعيل ، عن يحيى الحماني ، قال : حدثنا قيس ، عن الأعمش ، عن عباية بن ربعي ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله قسم الخلق قسمين ، فجعلني من خيرهم قسماً ، فذلك قوله : أصحاب اليمين ، و أصحاب الشمال ، فأنا من أصحاب اليمين ، و أ نا خير أصحاب اليمين .
ثم جعل القسمين أثلاثاً ، فجعلني في خيرها ثلثاً ، و ذلك قوله تعالى : فأصحاب الميمنة . و أصحاب المشأمة ، و السابقون السابقون ، فأن من السابقون ، و أنا خير السابقين ، ثم جعل الأثلاث قبائل ، فجعلني من خيرها قبيلة ، و ذلك قوله : وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
فأنا أتقى ولد آدم و أكرمهم على الله و لا فخر .
ثم جعل القبائل بيوتاً ، فجعلني من خيرها بيتاً ، فذلك قوله تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 33 ] .
و عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قالو : يا رسول الله ، متى و جبت لك النبوة ؟
قال : و آدم بين الروح و الجسد .
و عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم و إسماعيل . واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة ، و اصطفى من بني كنانة قريشاً ، و اصطفى من قريش بني هاشم ، و اصطفاني من بني هاشم .
و من حديث أنس : أنا أكرم ولد آدم على ربي و لا فخر .
و في حديث ابن عباس : أنا أكرم الأولين و ال أخرين و لا فخر .
و عن عائشة ، عنه عليه السلام : أتاني جبريل ، فقال :قلبت مشارق الأرض و مغاربها فلم أر رجلاً أفضل من محمد ، و لم أر بني أب أفضل من بني هاشم .
و عن أنس : أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بالبراق ليلة أسري به ، فاستصعب عليه ، فقال له جبريل : بمحمد تفعل [54 ] هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه ، فارفض عرقاً
و عن ابن عباس ، عنه عليه السلام : لما خلق الله آدم أهبطني في صلبه إلى الأرض ، و جعلني في صلب نوح في السفينة ، و قذف بي في النار في صلب إبراهيم ، ثم لم يزل ينقلني في الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة حتى أخرجني بين أبوي لم يلتقيا علىسفاح قط .
و إلى هذا أشار العباس بن المطلب رضي الله عنه بقوله :
من قبلها طبت في الظلال و في      مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر       أنت و لا مضغة و لا علق
بل نطفة تركب السفين و قد      ألجم نسراً و أهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم       إذا مضى عالم بدا طبق
في يعض النسخ أبيات أخر ، و هي قوله :
حتى احتوى بيتك المهين من       خندف علياء تحتها النطق
و أنت لما و لدت أشرقت ال       أرض و ضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء و في الن       ور و سبل الرشاد نخترق
يا برد نار الخليل يا سبباً       لعصمة النار و هي تحترق
[ النطق : أوسط الجبال العالية ] .
و روى عنه صلى الله عليه و سلم ، أبو ذر ، و ابن عمر ، و ابن عباس ، و أبو هريرة ، و جابر ابن عبد الله ـ أنه قال : أعطيت خمساً ـ و في بعضها ـ ستاً لم يعطهن نبي قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، و جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً ، و أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، و أحلت لي الغنائم ، و لم تحل لنبي قبلي ، و بعث إلى الناس كافة ، و أعطيت الشفاعة .
و في رواية ـ بدل هذه الكلمة : و قيل لي : سل تعطه .
و في رواية أخرى : و عرض علي أمتي فلم يخف علي التابع من المتبوع .
و في رواية : بعثت إلى الأحمر و الأسود .
و قيل : السود : العرب ، لأن الغالب على ألوانهم الأدمة ، فهم من السود . و الحمر : العجم .
و قيل : البيض و السود من الأمم .
و قيل : الحمر : الأنس . و السود : الجن .
و في الحديث الآخر ـ عن أبي هريرة : نصرت بالرعب ، و أتيت جوامع الكلم ، و بينا أنا نائ م إذا جيء بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي .
و في رواية ـ عنه : و ختم بي النبيون .
و عن عقبة بن عامر أنه قال : قال عليه السلام : إني فرط لكم ، و أنا شهيد عليكم .
و إني و الله لأنظر إلى حوضي الآن ، و إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض . و إني ـ و الله ـ ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ، و لكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها .
و عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أنا محمد النبي الأمي ، لا نبي بعدي ، أوتيت جوامع الكلم و خواتمه ، و علمت خزنة النار و حملة العرش .
و عن ابن عمر : بعثت بين يدي الساعة .
و من رواية ابن وهب ـ أنه عليه السلام قال : قال الله تعالى : سل يا محمد . فقلت : ما أسأل يا رب ؟ اتخذت إبراهيم خليلاً ، و كلمت موسى تكليماً ، و اصطفيت نوحاً ، و أعطيت سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، فقال الله تعالى : ما أعطيتك خير من ذلك ، أعطيتك الكوثر ، و جعلت اسمك مع اسمي ، ينادى به في جوف السماء ، و جعلت الأرض طهوراً لك ، ولأمتك ، و غفرت لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر ، فأنت تمشي في الناس مغفوراً لك شفاعتك ، و لم أصنع ذلك لأحد قبلك ، و جعلت قلوب أمتك مصاحفها ، و خبأت لك شفاعتك ، و لم أخبأها لنبي غيرك .
و في حديث آخر : رواه حذيفة : بشرني ـ يعني ربه : أول من يدخل الجنة و معي من أمتي [ 55 ] سبعون ألفاً ، مع كل ألف سبعون ألفاً ليس عليهم حساب ، و أعطاني ألا تجوع أمتي و لا تغلب ، و أعطاني النصر و العزة و الرعب يسعى بين يدي أمتي شهراً ، و طيب لي و لأمتي المغانم ، و أحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا ، و لم يجعل علينا في الدين من حرج .
و عن أبي هريرة ، عنه عليه السلام : ما من نبي من الأنبياء إلا و قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، و إنما كان الذي أوتيت و حياً أوحى الله إلي ، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة .
معنى هذا عند المحققين بقاء معجزته ما بقيت الدنيا ، و سائر معجزات الأنبياء ذهبت للحين ، و لم يشاهدها إلا الحاضر لها ، و معجزة القرآن يقف عليها قرن بعد قرن عياناً لا خبراً إلى القيامة .
و فيه كلام يطول هذا نخبته . و قد بسطنا القول فيه ، و فيما ذكر فيه سوى هذا آخر باب المعجزات .
و عن علي رضي الله عنه : كل نبي أعطي سبعة نجباء ، و أعطي نبيكم صلى الله عليه و سلم أربعة عشر نجيباً ، م نهم أبو بكر ، و عمر ، و ابن مسعود ، و عمار .
و قال صلى الله عليه و سلم : إن الله قد حبس عن مكة الفيل ، و سلط عليها رسوله و المؤمنين ، و إنها لا تحل لأحد بعدي ، و إنما أحلت لي ساعة من نهار .
و عن العرباض بن سارية : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إني عبد الله و خاتم النبيين ، و إن آدم لمنجدل في طينته ، و عدة أبي إبراهيم ، و بشارة عيسى بن مريم .
و عن ابن عباس ، قال : إن الله فضل محمداً صلى الله عليه و سلم على أهل السماء ، و على الأنبياء صلوات الله عليهم ، قالوا : فما فضله على أهل السماء ؟ قال : إن الله تعالى قال لأهل السماء : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين [ سورة الأنبياء / 21 ، الآية : 29 ] .
و قال لمحمد صلى الله عليه و سلم : إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 1،2 ] .
قالوا : فما فضله على الأنبياء ؟ قال : إن الله تعالى قال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه [ سورة إبراهيم /14 ، الآية : 4 ] .
و قال لمحمد : وما أرسلناك إلا كافة للناس [ سورة سبأ /34 ، الآية : 28 ] .
و عن خالد بن معدان أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا : يا رسول الله ، أخبرنا عن نفسك .
و قد روى نحوه عن أبي ذر ، و شداد بن أوس ، و أنس بن مالك ، فقال : نعم ، أنا دعوة أبي إبراهيم ـ يعني قوله : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم . و بشرى عيسى . و رأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام ، و استرضعت في بني سعد بن بكر ، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا إذا جاءني رجلان عليهما ثياب بيض .
و في حديث آخر : ثلاثة رجال بطست من ذهب مملوءة ثلجاً ، و أخذاني فشقا بطني .
قال في غير هذا الحديث : من نحري إلى مراق بطني ، ثم استخرجا منه قلبي ، فشقاه ، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ، ثم غسلا قلبي و بطني بذلك الثلج حتى أنفياه .
قال في حديث آخر : ثم تناول أحدهما شيئاً فإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظر دونه ، فختم به قلبي ، فامتلأ إيماناً و حكمة ، ثم أعاده مكانه ، و أمر الآخر يده على مفرق صدري فالتأم .
و في رواية : إن جبريل قال : قلب و كيع ، أي سديد ، فيه عينان تبصران ، و أذنان سميعتان ، ثم قال أحدهما [51 ] لصاحبه : زنه بعشرة من أمته ، فوزنني فرجحتهم ، ثم قال : زنه بمائة من أمته ، فوزنني بهم فوزنتهم ، ثم قال : زنه بألف من أمته ، فوزنني بهم فوزنتهم ، ثم قال : دعه عنك ، فلو وزنته بأمته لوزنها .
قال في الحديث الآخر : ثم ضموني إلى صدورهم ، و قبلوا رأسي ، و ما بين عيني ، ثم قالوا : يا حبيب ، لم ترع ، إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك .
و في بقية هذا الحديث من قولهم : ما أكرمك على الله ! إن الله معك و ملائكته .
قال في حديث أبي ذر : [ فما هو إلا أن و لياً عني ، فكأنما أرى الأمر معاينة ] .
و حكى أبو محمد مكي ، و أبو الليث السمر قندي و غيرهما ـ أن آدم عند معصيته قال : [ اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي ] .
و يروى : تقبل توبتي . فقال له الله : [ من أين عرفت محمداً ؟ فقال : رأيت في كل موضع من الجنة مكتوباً : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ] .
و يروى : محمد عبدي و رسولي ، فعلمت أنه اكرم خلقك عليك ، فتاب الله عليه ، و غفر له .
و هذا عند قائله تأويل قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه .
و في رواية الأجري قال : فقال آدم ، لما خلقتني ر فعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدراً عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك ، فأوحى الله إليه : و عزتي و جلالي ، إنه لآخر النبين من ذريتك و لولاه ما خلقتك .
قال : و كان آدم يكنى بأبي محمد ، و قيل بأبي البشر .
و روي عن سريج بن يونس أنه قال : إن لله ملائكة سياحين عيادتها كل دار فيها أحمد ، أو محمد ، إكراماً منهم لمحمد صلى الله عليه و سلم .
و روى ابن قانع القاضي ، عن أبي الحمراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما أسري بي إلى السماء إذا على العرش مكتوب : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، أيدته بعلي .
وفي التفسير ، عن ابن عباس ـ في قوله تعالى : وكان تحته كنز لهما ـ .
قال : لوح من ذهب فيه مكتوب : عجباً لمن أيقن بالقدر كيف ينصب ! عجباً لمن أيقن بالنار كيف يضحك ! عجباً لمن رأى الدنيا و تقبلها بأهلها كيف يطمئن إليها ! أنا الله ، لا إله إلا أنا ، محمد عبدي و رسولي .
و عن ابن عباس : على باب الجنة مكتوب : إني أنا الله ، لا إله إلا أنا ، محمد رسول الله ، لا أعذب من قالها .
و ذكر أنه وجد على الحجارة القدي مة مكتوب : محمد تقي مصلح ، و سيد أمين .
و ذكر السمنطاري أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولوداً ولد على أحد جنبيه مكتوب : لا إله إلا الله ، و على الآخر : الله رسول الله .
و ذكر الأخباريون أن ببلاد الهند ورداً أحمر مكتوباً عليه بالأبيض : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
و روي عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ألا ليقم من اسمه محمد ، فليدخل الجنة لكرامة اسمه عليه السلام .
و روى أبن القاسم في سماعه ، و ابن وهب في جامعه ، عن مالك : سمعت أهل مكة يقولون : ما من بيت فيه اسم محمد إلا قد وقوا .
و عنه عليه السلام : ما ضر أحدكم أن يكون في بيته محمد و محمدان و ثلاثة .
و عن عبد الله بن مسعود : إن الله نظر إلى قلوب العباد ، و اختار منها قلب محمد عليه السلام ، فاصطفاه لنفسه ، فبعثه برسالته .
و حكى النقاش أن النبي صلى الله عليه و سلم لما نزلت : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ـ قام خطيباً ، فقال يا معشر أهل الإيمان ، إن الله تعالى فضلني عليكم تفضيلا ، و فضل نسائي علىنسائكم تفضي لا ... الحديث .


فصل
في تفضيله بما تضمنته كرامة الإسراء من المناجاة و الرؤية

 

و من خصائصه ـ عليه السلام قصة الإسراء و ما انطوت عليه من درجات الرفعة مما نبه عليه الكتاب العزيز ، و شرحته صحاح الأخبار ، قال الله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [ سورة الإسراء / 17 ، الآية : 1 ] .
و قال تعالى : والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى [ سورة النجم / 53 ، الآية : 1 ، 18 ] .
فلا خلاف بين المسلمين في صحة الإسراء به عليه السلام ، إذ هو نص القرآن ، و جاءت بتفصيله ، و شرح عجائبه ، و خواص نبينا محمد عليه السلام فيه أحاديث كثيرة منتشرة ـ رأينا أن نقدم أكملها ، و نشير إلى زيادة م ن غيره يجب ذكرها :
حدثنا القاضي الشهيد أبو علي ، و الفقيه أبو بحربسماعي عليهما ، والقاضي أبو عبد الله التميمي ، و غير واحد من شيوخنا ، قالوا : حدثنا أبو العباس العذري ، [ قالوا ] : حدثنا أبو العباس الرازي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أتيت بالبراق ، و هو دابة أبيض طويل ، فوق الحمار ، ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه ـ قال : فركبته حتى أتيت بيت المقدس ، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت ، فجاءني جبريل بإناء من خمر و إناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال جبريل : اخترت الفطرة .
ثم عرج بنا إلى السماء ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال جبريل . قيل : و من معك ؟ قال : و من معك ؟ قال محمد . قيل : و قد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا ، فإذا أنا بآدم صلى الله عليه و سلم ، فرحب بي ، ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت : قال : جبريل . قيل : و من معك ؟ قال : محمد . قيل : و قد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بابني الخالة : عيسى ابن مريم ، و يحيى بن زكريا صلى الله عليهما ، فرحبا بي ، ودعوا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة ، فذكر مثل الأول ، ففتح لنا ،فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه و سلم وإذا هو قد أعطى شطر الحسن ، فرحب بي ، ودعا لي بخير .
ثم عرج إلى السماء الرابعة ، و ذكر مثله ، فإذا أنا بإدريس ، فرحب بي ودعا لي بخير ، قال الله تعالى : ورفعناه مكانا عليا [ سورة مريم / 19 ، الآية : 57 ]
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فذكر مثله ، فإذا أنا بهارون ، فرحب بي ، ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة ، فذكر مثله ، فإذا أنا بموسى ، فرحب بي ، ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلىالسماء السابعة ،فذكر مثله ،فإذا أنا إبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه . ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، و إذا ورقها كآذان الفيلة ، و إذا ثمرها كالقلال ، قال : فلما غشيها من أمر الله غشي تغيرت ، فما [58] أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، فأوحى الله إلى ما أوحى ، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم و ليلة ، فنزلت إلىموس ، فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت خمسين صلاة . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا يطيقون ذلك ، فإني قد بلوت بني إسائيل و خبرتهم .
قال : فرجعت إلى ربي ، فقلت : يا رب ، خفف عن أمتي . فحط عني خمساً ، فرجعت إلى موسى ، فقلت : حط عني خمساً ، قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . قال : فلم أزل أرجع بين ربي تعال و بين موسى حتى قال : يا محمد ، إنهم خمس صلوات كل يوم و ليلة لكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة ، و من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً و من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئة واحدة .
قال : فنزلت حتى إنتهيت إلى موسى ، فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف .
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه .
قال القاضي رضي الله عنه : جود ثابت رضي الله عنه هذا الحديث عن أنس ما شاء ، و لم يأت أحد عنه بأصوب من هذا .
و قد خلط فيه غيره عن أنس تخليطاً كثيراً ، لا سيما من رواية شريك بن أبي نمر ، فقد ذكر في أوله مجيء الملك له ، و شق بطنه ، و غسله بماء زمزم ، و هذا إنما كان و هو صبي ، و قبل الوحي .
و قد قال شريك في حديثه : و ذلك قبل أن يوحي إليه ، و ذكر قصة الإسراء . و لا خلاف أنها كانت بعد الوحي .
و قد قال غير واحد : إنها كانت قبل الهجرة بسنة ، و قيل : قبل هذا .
و قد روى ثابت عن أنس ، من رواية حماد بن سلمة أيضاً مجيء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم و هو يلعب مع الغلمان عند ظئره ، و شقه قلبه ـ تلك القصة مفردة من حديث الإسراء كما رواه الناس ، فجود في القصتين ، و في أن الإسراء إلى بيت المقدس و إلى سدرة المنتهى كان قصة واحدة ، و أنه وصل إلى بيت المقدس ، ثم عرج به من هناك ، فأزاح كل أشكال أوهمه غيره .
وقد روى يونس ، عن ابن شهاب ، عن أنس ، قال : كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال : فرج سقف بيتي ، و أنا بمكة ، فنزل جبريل ، ففرج صدري ، ثم غسله من ماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة و إيماناً ، فأفرغها من صدري ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بنا إلى السماء . . . فذكر القصة .
و روى قتادة الحديث ، بمثله ، عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، و فيها تقديم
و تأخير ونقص ، و خلاف في ترتيب الأنبياء في السموات .
و حديث ثابت ، عن أنس ـ أتقن و أجود .
و قد وقعت في حديث الإسراء ، زيادات نذكر منها نكتاً مفيدة في عرضنا :
منها حديث ابن شهاب ، و فيه : قول : كل نبي له : مرحبا بالنبي الصالح ، و الأخ الصالح ،
إلا آدم و إبراهيم فقالا له : و الابن الصالح .
و فيه ـ من طريق ابن عباس : ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام .
و عن أنس : ثم انطلق بي حتى أتيت سدرة المنتهى ، فغشيها ألوان لا أدري ما هي ؟ قال : ثم أدخلت الجنة .
و في حديث مالك بن صعصعة : فلما جاوزته ـ يعني [ 59 ] موسى ـ بكى ، فنودي : ما يبكيك ؟ قال : رب ، هذا غلام بعثته بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي .
و في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : و قد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فحانت الصلاة ، فأممتهم ، فقال قائل : يا محمد ، هذا مالك خازن النار ، فسلم عليه . فالتفت فبدأني بالسلام .
و في حديث أبي هريرة : ثم سار حتى أتى إلى بيت المقدس ، فنزل فربط فرسه إلى صخرة ، فصلى مع الملائكة ، فلما قضيت الصلاة قالوا : يا جبريل ، من هذا معك ؟ قال : هذا محمد رسول الله خاتم النبين : قالوا : و قد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ و خليفة ، فنعم الأخ و نعم الخليفة ! ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم ، و ذكر كلام كل واحد منهم ، و هم إبراهيم ، و موسى و عيسى ، و داود ، و سليمان .
ثم ذكر كلام النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : و إن محمداً صلى الله عليه و سلم أثنى على ربه عز وجل فقال : كلكم أثنى على ربه ، و أنا أثنى على ربي . الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين ، و كافة للناس بشيراً و نذيراً ، و أنزل علي الفرقان فيه تبيان كل شيء . و جعل أمتي خير أمة ، و جعل أمتي أمة وسطاً ، و جعل أمتي هم الأولون ، و هم الآخرون ، و شرح لي صدري ، و وضع عني وزري ، و رفع لي ذكري ، و جعلني فاتحاً و خاتماً .
فقال إبراهيم : بهذا فضلكم محمد .
ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا ، و من سماء إلى سماء ، نحو ما تقدم .
و في حديث ابن مسعود : و انتهي بي إلى سدرة المنتهى ، و هي في السماء السادسة ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، و إليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها ، قال : إذ يغشى السدرة ما يغشى ، قال : فراش من ذهب .
و في رواية أبي هريرة ، من طريق الربيع بن أنس . فقيل لي : هذه السدرة المنتهى ينتهي إليها كل أحد من أمتك خلا على سبيلك ، و هي السدرة المنتهى ، يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ، و أنهار من لبن لم يتغير طعمه ، و أنهار من خمر لذة للشاربين ، و أنهار من عسل مصفى ، و هي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً ، و إن ورقة منها مظلة الخلق ، فغشيها نور ، و غشيتها الملائكة .
قال : فهو قوله : إذ يغشى السدرة ما يغشى [ سورة النجم / 53 ، الآية : 16 ] .
فقال الله تبارك و تعالى له : سل . فقال : إنك اتخذت إبراهيم خليلاً و أعطيته ملكاً عظيماً . و كلمت موسى تكليماً ، و أعطيت داود ملكاً عظيماً ، و ألنت له الحديد و سخرت له الجبال و أعطيت سليمان ملكاً عظيماً ، و سخرت له الجن و الإنس و الشياطين و الرياح ، و أعطيته ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، و علمت موسى التوراة و الإنجيل ، و جعلته يبريء الأكمه و الأبرص ، و أعذته و أمه من الشيطان الرجيم ، فلم يكن له عليهما سبيل .
فقال له ربه تعالى : قد اتخذتك خليلاً . فهو مكتوب في التوراة : محمد حبيب الرحمن ، و أرسلتك إلى الناس كافة ، و ج علت أمتك هم الأولون ، و هم الآخرون ، و جعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي و رسولي ، و جعلتك أول النبيين خلقاً ، و آخرهم بعثاً ، و أعطيتك سبعاً من المثاني ، و لم أعطيها نبياً قبلك ، و أعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشي لم أعطيها نبياً قبلك [ 60 ] ، و جعلتك فاتحاً و خاتماً .
و في الرواية الأخرى قال : فأعطي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس ، و أعطي خواتيم سورة البقرة ، و غفر لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمته المقمحات .
و قال : ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى : رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح .
و في حديث شريك أنه رأى موسى في السابعة ـ قال : بتفضيل كلام الله .
قال : ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله ، فقال موسى : لم أظن أن يرفع علي أحد .
و قد روي عن أنس أنه صلى الله عليه و سلم صلى بالأنبياء ببيت المقدس .
[ و عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بينما أنا قاعد ذات يوم إذ دخل جبريل ، فوكز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة فيها مثل وكري الطائر ، فقعد في واحدة و قعدت في الأخرى ، فنمت حتى سدت ال خافقين . و لو شئت لمست السماء ، و أنا أقلب طرفي ، و نظرت جبريل كأنه حلس لاطيء فعرفت فضل علمه بالله علي ، و فتح لي باب السماء ، و رأيت النور الأعظم ، ولط دوني الحجاب ، و فرجه الدر و الياقوت .
ثم أوحى الله إلي ما شاء أن يوحي ] .
و ذكر البزار عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : [ لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الآذان جاء جبريل بدابة يقال لها البراق ، فذهب يركبها ، فاستضعفت عليه ، فقال لها جبريل : اسكني ، فو الله ما ركبك عبد أكرم على الله من محمد صلى الله عليه و سلم ، فركبها حتى أتى إلى الحجاب الذي يلي الرحمن تعالى ، فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا جبريل ، من هذا ؟
قال : و الذي بعثك بالحق ، إني لأقرب الخلق مكاناً ، و إن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه . فقال الملك : الله أكبر . الله أكبر . فقيل له من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا أكبر . أنا أكبر .
ثم قال الملك : أشهد أن لا إله إلا الله . فقيل له من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا الله لا إله إلا أنا .
و ذكر مثل هذا في بقية الأذان ، إلا أنه لم يذكر جواباً عن قوله : حي على الصلاة ، حي على الفلاح .
و قال : [ ثم أخذ الملك بيد محمد ، فقدمه ، فأم أهل السماء ، فيهم آدم و نوح ] .
قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ، راويه : أكمل الله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم الشرف على أهل السموات و الأرض .
قال القاضي ـ رضي الله عنه : ما في هذا الحديث من ذكر الحجاب فهو في حق المخلوق لا في حق الخالق ، فهم المحجوبون ، و الباري جل اسمه منزه عما يحجبه ، إذ الحجب إنما تحيط بمقدر محسوس . و لكن حجبه على أبصار خلقه و بصائرهم و إدراكاتهم بما شاء و كيف شاء ، و متى شاء ، كقوله تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [ سورة المطففين / 83 ، الآية : 15 ] .
فقوله في هذا الحديث : الحجاب ، و إذ خرج ملك من الحجاب ـ يجب أن يقال : إنه حجاب حجب به من وراءه من ملائكته عن الإطلاع على ما دونه من سلطانه و عظمته ، و عجائب ملكوته و جبروته .
و يدل عليه من الحديث قول جبريل ـ عن الملك الذي خرج من ورائه : إن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت فبل ساعتي هذه .
فدل على أن هذا الحجاب لم يختص بالذات .
و يدل عليه قول كعب في تفسير : سدرة المنتهى قال : إليها ينتهي علم الملائ كة ، و عندها يجدون أمر الله ، لا يجاوزها علمهم .
و أما قوله : الذي بلي الرحمن فيحمل على حذف المضاف ، أي بلي عرش الرحمن ، أو أمراً ما من عظيم آياته ، أو مبادىء حقائق معارفه ، مما هو أعلم به ، كما قال تعالى : واسأل القرية ، أي أهلها .
و قوله : فقيل من وراء الحجاب : صدق [ 61 ] عبدي ، أنا أكبر فظاهره أنه سمع في هذا الموطن كلام الله ، و لكن من وراء الحجاب ، كما قال : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ، أي و هو لا يراه ، حجب بصره عن رؤيته .
فإن صح القول بأن محمداً صلى الله عليه و سلم رأى ربه ـ عز و جل ـ فيحتمل أنه في غير هذا الموطن بعد هذا أو قبله ، رفع الحجاب عن بصره حتى رآه . و الله أعلم .

 

فصل
هل كان الإسراء بالروح أو بالجسد ؟

 

ثم اختلف السلف و العلماء : هل كان إسراء بروحه أو جسده ؟ على ثلاث مقالات : فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح ، و أنه رؤيا منام ، مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء حق روحي ، و إلى هذا ذهب معاوية .
و حكى عن الحسن ، و المشهور عنه خلافه ، و إليه أشار محمد بن اسحاق ، و حجتهم قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس .
و ما حكوا عن عائشة رضي الله عنها : ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و قوله : بينا أنا نائم .
و قول أنس : و هو نائم في المسجد الحرام ... و ذكر القصة ، ثم قال في آخرها : فاستيقظت و أنا بالمسجد الحرام .
وذهب معظم السلف و المسلمين إلى أنه إسراء بالجسد و في اليقظة ، و هذا هو الحق ، و هو قول ابن عباس ، و جابر ، و أنس ، و حذيفة ، و عمر ، و أبي هريرة ، و مالك بن صعصعة ، و أبي حبة البدري ، و ابن مسعود ، و الضحاك ، و سعيد بن جبير ، و قتادة ، و ابن المسيب ، و ابن شهاب ، و ابن زيد ، و الحسن ، و إبراهيم ، و مسروق ، و مجاهد ، و عكرمة ، و ابن جريج ، و هو دليل قول عائشة ، و هو قول الطبري ، و ابن حنبل ، جما عة عظيمة من المسلمين . و قول أكثر المتأخرين من الفقهاء و المحدثين و المتكلمين و المفسرين .
و قالت طائفة : كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس ، و إلى السماء بالروح ، و احتجوا بقوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فجعل [ فجعل إلى المسجد الأقصى ] غاية الإسراء الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة ، و التمدح بتشريف النبي محمد الله صلى الله عليه و سلم به ، و إظهار الكرامة له بالإسراء إليه .
قال هؤلاء : و لو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره ، فيكون أبلغ في المدح .
ثم اختلفت هذه الفرقتان : هل صلى ببيت المقدس أم لا ؟
ففي حديث أنس وغيره ما تقدم من صلاته فيه . و أنكر ذلك حذيفة بن اليمان ، و قال : و الله ما زال عن ظهر البراق حتى رجع .
قال القاضي و الحق من هذا و الصحيح إن شاء الله ـ إنه إسراء بالجسد و الروح في القصة كلها ، و عليه تدل الآية ، و صحيح الأخبار ، و الإعتبار ، و لا يعدل عن الظاهر و الحقيقة إلى التأويل إلا عند الإستحالة ، و ليس في الإسراء بجسده و حال يقظته استحالة ، إذ لو كان مناماً لقال : بروح عبده ، و لم يقل : بعبده . و قوله تعالى : ما زاغ البصر وما طغى ، و لو كان مناماً لما كانت فيه آية و لا معجزة ، و لما استبعده الكفار ، و لا كذبوه فيه ، و لا ارتد به ضعفاء من أسلم ، و افتتنوا به ، إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر ، بل لم يكن منهم ذلك [ 62 ] إلا و قد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه و حال يقظته ، إلى ما ذكر في الحديث من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس في رواية أنس ـ أو في السماء على ما روي غيره و ذكر مجيء جبريل له بالبراق و خبر المعراج ، و استفتاح السماء ، فيقال : من معك ؟ فيقول : محمد ، و لقائه الأنبياء فيها ، و خبرهم معه ، و ترحيبهم به ، و شأنه في فرض الصلاة و مراجعته مع موسى في ذلك .
و في بعض هذه الأخبار : فأخذ ـ يعني جبريل ـ بيدي فعرج بي إلى السماء ... إلى قوله : ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام و أنه وصل إلى سدرة المنتهى ، و أنه دخل الجنة ، و رأى فيها ما ذكره .
قال ابن عباس : هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه و سلم لا رؤيا منام .
و عن الحسن فيه : بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بعقبة ، فقمت فجلست فلم أر شيئاً ، فعدت لمضجعي ـ ذكر ذ لك ثلاثاً ، فقال في الثالثة : فأخذ بعضدي فجرني إلى باب المسجد فإذا بدابة .
و ذكر خبر البراق .
و عن أم هانىء : ما أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم إلا و هو في بيتي ، تلك الليلة صلى العشاء الآخرة ، و نام بيننا ، فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلما صلى الصبح و صلينا قال : يا أم هانىء ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ، ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترون .
و هذا بين في أنه بجسمه .
و عن أبي بكر من رواية شداد بن أوس عنه ـ قال النبي صلى الله عليه و سلم ليلة أسرى به :
طلبتك يا رسول الله البارحة في مكانك فلم أجدك . فأجابه : إن جبريل عليه السلام حملني إلى المسجد الأقصى .
و عن عمر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صليت ليلة أسري بي في مقدم المسجد ، ثم دخلت الصخرة فإذا بملك قائم معه آنية ثلاث .. و ذكر الحديث .
و هذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة ، فتحمل على ظاهرها .      
و عن أبي ذر ، عنه صلى الله عليه و سلم : فرج سقف بيتي و أنا بمكة ، فنزل جبريل ، فشرح صدري ، ثم غ سله بماء زمزم ... إلى آخر القصة ، ثم أخذ بيدي ، فعرج بي . و عن أنس : أتيت فانطلق بي إلى زمزم ، فشرح عن صدري .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه : لقد رأيتني في الحجر ، و قريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء لم أثبتها ، فكربت كرباً ما كربت مثله قط ، فرفعه الله لي أنظر إليه .
و نحوه عن جابر .
و قد روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الإسراء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : ثم رجعت إلىخديجة و ما تحولت عن جانبها .


فصل
إبطال حجج من قال إنها نوم

 

احتجوا بقوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ، فسماها رؤيا ؟
قلنا : قوله سبحانه و تعالى : الذي أسرى بعبده ـ يرده ، لأنه لا يقال في النوم : أسرى .
وقوله : فتنة للناس . يؤيد أنها رؤيا عين ، و إسراء بشخص ، إذ ليس في الحلم فتنة . و لا يكذب به أحد ، لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في سلعة واحدة في أقطار متباينة [ 63 ] .
على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية ، فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في قضية الحديبية ، و ما وقع في نفوس الناس من ذلك . و قيل غير هذا .
و أما قولهم : إنه قد سماها في الحديث مناماً .
و قوله في حديث آخر : بين النائم و اليقظان .
و قوله أيضاً : و هو نائم . و قوله : ثم استيقظت ـ فلا حجة فيه ، إذ قد يحتمل أن أول وصول الملك إليه كان و هو نائم ، أو أول حمله و الإسراء به و هو نائم ، و ليس في الحديث أنه كان نائماً في القصة كلها إلا ما يدل عليه : ثم استيقظت و أنا في المسجد الحرام ، فلعل قوله : استيقظت بمعنى أصبحت ، أو استيقظ من نوم آخر بعد وصوله بيته .
و يدل عليه أن مسراه لم يكن طول ليله ، و إنما كا ن في بعضه .
و قد يكون قوله : استيقظت و أنا في المسجد الحرام لما كان غمره من عجائب ما طالع من ملكوت السموات و الأرض ، و خامر باطنه من مشاهدة الملأ الأعلى ، و ما رأى من آيات ربه الكبرى ، فلم يستفق و يرجع إلى حال البشرية إلا و هو بالمسجد الحرام .
و وجه ثالث أن يكون نومه و استيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه ، و لكنه أسرى بجسده و قلبه حاضر ، و رؤيا الأنبياء حق ، تنام أعينهم و لا تنام قلوبهم .
و قد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو من هذا . قال : تغميص عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله تعالى .
و لا يصح هذا أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء ، و لعله كانت له في هذا الإسراء حالات .
و وجه رابع ، و هو أن يعبر بالنوم ها هنا عن هيئة النائم من الإضطجاع ، و يقويه قوله في رواية عبد بن حميد ، عن همام : بينا أنا نائم ـ و ربما قال : مضطجع .
و في رواية هدبة ، عنه : بينا أنا نائم في الحطيم ـ و ربما قال : في الحجر ـ مضطجع و قوله في الرواية الأخرى : بين النائم و اليقظان .
فيكون سمى هيئة النائم غالباً .
و ذهب بعضهم إلى أن هذه الزيادات : من النوم ، و ذكر شق البطن ، و دنو الرب عز و جل الواق عة في هذا الحديث إنما هي من رواية شريك عن أنس ، فهي منكرة من روايته ، إذشق البطن في الأحاديث الصحيحة إنما كان في صغره صلى الله عليه و سلم و قبل النبوة ، و لأنه قال في الحديث : قبل أن يبعث ، و الإسراء بإجماع كان بعد المبعث ، فهذا كله يوهن ما وقع في رواية أنس ، مع أن أنساً قد بين من غير طريق أنه إنما رواه عن غيره ، و أنه لم يسمعه من النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال ـ مرة : عن مالك بن صعصعة ، و في كتاب مسلم : لعله عن مالك بن صعصعه ـ على الشك . و قال مرة : كان أبو ذر يحدث .
و أما قول عائشة : ما فقد جسده ، فعائشة لم تحدث به عن مشاهدة ، لأنها لم تكن حينئذ زوجه ، و لا في سن من يضبط ، و لعلها لم تكن ولدت بعد ، على الخلاف في الإسراء متى كان ، فإن الإسراء كان في أول الإسلام على قول الزهري و من وافقه بعد المبعث بعام و نصف ، و كانت عائشة في الهجرة بنت نحو ثمانية أعوام .
و قد قيل : كان الإسراء لخمس قبل الهجرة . و قيل : قبل الهجرة بعام . و الأشبه إنه لخمس .
و الحجة لذلك تقول ، [64] و ليست من غرضنا ، فإذا لم تشاهد ذلك عائشة دل أنها حدثت بذلك عن غيرها ، فلم يرجح خبرها على خبر غيرها ، و غي رها يقول خلافه مما وقع نصاً في حديث أم هانىء و غيره .
و أيضاً فليس حديث عائشة رضي الله عنها بالثابت ، و الأحاديث الأخر أثبت ، ولسنا نعني حديث أم هانىء ، و ما ذكرت فيه خديجة .
و أيضاً فقد رويى في حديث عائشة : [مافقدت ] ، و لم يدخل بها النبي صلى الله عليه و سلم إلا بالمدينة .
و كل هذا يهنه ، بل الذي يدل عليه صحيح قولها : إنه بجسده ، لإنكارها أن تكون رؤياه لربه رؤيا عين ، و لو كانت عندها مناماً لم تنكره .
فإن قيل : فقد قال تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى ـ فقد جعل ما رآه للقلب ، و هنا يدل على أنه رؤيا نوم و وحي ، لا مشاهدة عين و حس .
قلنا : يقابله قوله تعالى : ما زاغ البصر وما طغى ـ فقد أضاف الأمر للبصر .
و قد قال أهل التفسير في قوله تعالى . ما كذب الفؤاد ما رأى ، أي لم يوهم القلب العين غير الحقيقة ، بل صدق رؤيتها .
و قيل : ما أنكر قلبه ما رأته عينه .

 

فصل
رؤيته لربه عز و جل و اختلاف السلف فيها

 

و أما رؤيته ـ صلى الله عليه و سلم لربه جل و عز ـ فاختلف السلف فيها ، فأنكرته عائشة .
حدثنا أبو الحسن سراج بن عبد الملك الحافظ بقراءتي عليه ، قال حدثني أبي و أبو عبد الله بن عتاب الفقيه ، قالا : حدثنا القاضي يونس بن مغيث ، حدثنا أبو الفضل الصلقي ، حدثنا ثابت بن قاسم بن ثابت ، عن أبيه وجده ، قالا : حدثنا عبد الله بن علي ،
قال : حدثنا محمود بن آدم ، حدثنا وكيع ، عن ابن أبي خالد ، عن عامر عن مسروق ـ أنه قال لعائشة رضي الله عنها ـ يا أم المؤمنين ، هل رأى محمد ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت . ثلاث من حدثك بهن فقد كذب : من حدثك أن محمد اً رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، و ذكر الحديث .
و قال جماعة بقول عائشة رضي الله عنها ، و هو المشهور عن ابن مسعود .
و مثله عن أبي هريرة أنه [ ا ] : إنما رأى جبريل . و اختلف عنه . و قال بإنكار هذا و امتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين ، و الفقهاء و المتكلمين .
و عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رآه بعينه . وروى عطاء عنه ـ أنه رآه بقلبه .
و عن أبي العالية ، عنه : رآه بفؤاده مرتين .
و ذكر ابن إسحاق أن عمر أرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله : هل رأى محمد ربه ؟ فقال : نعم .
و الأشهر عنه انه رأى ربه بعينه ، روي ذلك عنه من طرق ، و قال : إن الله تعالى اختص موس بالكلام ، و إبراهيم بالخلة ،و محمداً بالرؤية و حجته قوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى [ سورة النجم /53 ، الآية : 11 ، 13 ] .
قال الماوردي : قيل : إن الله تعالى قسم كلامه و رؤيته بين موس ، و محمد صلى الله عليه و سلم ، فر آه محمد مرتين ، و كلمه موس مرتين .
و حكى أبو الفتح الرازي ، و أبو الليث السمرقدي الحكاية عن كعب .
و روى عبد الله بن الحارث ، قال : اجتمع ابن عباس و كعب ، فقال ابن عباس : أما نحن بنو هاشم فنقول : إن محمد اً قد رأى ربه مرتين ، فكبر كعب حتى جاوبته الجبال ،
و قال : إن الله قسم رؤيته و كلامه بين محمد و موس ، فكلمه موسى ، و رآه محمد بقلبه .
و روى شريك [ 65 ] عن أبي ذر رضي الله عنه في تفسير الآية ، قال : رأى النبي صلى الله عليه و سلم ربه .
و ح كى السمرقندي ، عن محمد بن كعب القرظي ، و ربيع بن أنس ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل : هل رأيت ربك ؟ قال : رأيته بقؤادي ، و لم أره بعيني .
و روى مالك بن يخامر ، عن معاذ ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : رأيت ربي ... و ذكر كلمة ، فقال : يا محمد ، فيم يختصم الملأ الأعلى الحديث .
و حكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف با الله لقد رأى محمد ربه .
و حكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة .
و حكى بعض المتكليمين هذا المذهب عن ابن مسعود .
و حكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة . هل رأى محمد ربه ؟ فقال : نعم .
و حكى النقاش ، عن أحمد بن حنبل : أنه قال : أنا أقول بحديث ابن عباس بعينه رآه ـ حتى انقطع نفسه ـ يعني نفس أحمد .
و قال أبو عمر : قال أحمد بن حنبل : رآه بقلبه ، و جبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار .
و قال سعيدبن جبير : لا أقول رآه ، و لا لم يره .
و قد اختلف في تأويل الآية عن ابن عباس ، و عكرمه ، و الحسن ، و ابن مسعود ، فحكى عن ابن عباس و عكرمة : رآه بقلبه . و عن الحسن و ابن مسعود : رأى جبريل . و حكى عبد الله بن أحمد بن حن بل ، عن أبيه ، أنه قال : رآه .
وعن ابن عطاء في قوله تعالى: ألم نشرح لك صدرك ـ قال : شرح صدره للرؤية و شرح صدر موسى للكلام .
و قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رضي الله عنه و جماعة من أصحاب أنه رأى الله تعالى ببصره و عيني رأسه ، ، و قال : كل آية أوتيها نبي من الأنبياء عليهم السلام فقد أتي مثلها نبينا ، و خص من بينهم بتفضيل الرؤية .
و وقف بعض مشايخنا في هذا ، و قال : ليس عليه دليل واضح ، و لكنه جائز أن يكون .
قال القاضي أبو الفضل : و الحق الذي لا إمتراء فيه ـ أن رؤيته تعالى في الدنيا جائز عقلاً ، و ليس في العقل ما يحيلها .
و الدليل على جوازها في الدنيا سؤال موس عليه السلام لها . و محال أن يجهل نبي ما يجوز على الله و ما لا يجوز عليه ، بل لم يسأل إلا جائزاً غير مستحيل ، و لكن وقوعه و مشاهدته من الغيب الذي لا يعلمه إلا من علمه الله ، فقال له الله تعالى : لن تراني ، أي لن تطيق ، و لا تحتمل رؤيتي ، ثم ضرب له مثلاً مما هو أقوى من بنية موس و أثبت ، و هو الجبل .
و كل هذا ليس فيه ما يحيل رؤيته في الدنيا ، بل فيه جوازها على الجملة ، و ليس في الشرح دليل قا طع على استحالتها و لا امتناعها ، إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة .
و لا حجة لمن استدل على منعها بقوله تعالى : لا تدركه الأبصار ، لا ختلاف التأويلات في الآية ، و إذ ليس يقتضي قول من قال في الدنيا الإستحالة .
و قد استدل بعضهم بهذه الآية نفسها على جواز الرؤية و عدم استحالتها على الجملة .
و قد قيل : لا تدركه أبصار الكفار . و قيل : لا تدركه الأبصار : لا يحيط به ، و هو قول ابن عباس . و قد قيل : لا تدركه الأبصار ، و إنما يدركه المبصرون .
و كل هذه التأويلات لا تقتضي منع الرؤية و لا استحالتها . و كذلك لا حجة لهم بقوله تعالى : لن تراني . و قوله : تبت إليك ـ لما قدمناه [ 66 ] ، و لأنها ليست على العموم ، و لأن من قال : معناها : لن تراني في الدنيا ـ إنما هو تأويل .
و أيضاً فليس فيه نص الإمتناع ، و إنما جاءت في حق موس ، و حيث تتطرق التأويلات و تتسلط الإحتمالات ، فليس للقطع إليه سبيل .
و قوله : تبت إليك ، أي من سؤالي ما لم يقدره لي .
و قد قال أبو بكر الهذلي ـ في قوله : لن تراني ، أي ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلي في الدنيا ، و أنه من نظر إلي مات .
و قد رأيت لبعض السلف و المتأخرين ما معناه : إن رؤية تعالى في الدنيا ممتعة ، لضعف تركيب أهل الدنيا ، و قواهم ، و كونها متغيرة غرضاً للأفات و الفناء ، فلم تكن لهم قوة على الرؤية ، فإذا كان في الأخرة و ركبوا تركيباً أخر ، و رزقوا قوى ثابتة باقية ، و أتم أنوار أبصارهم و قلوبهم قووا بها على الرؤية .
و قد رأيت نحو هذا لمالك بن أنس رحمه الله ، قال : لم ير في الدنيا ، لأنه باق ، و لا يرى الباقي بالفاني ، فإذا كان في الأخرة و رزقوا أبصاراً باقية رئى الباقي بالباقي .
و هذا كلام حسن مليح ، و ليس فيه دليل على الإستحالة إلا من حيث ضعف القدرة ، فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده ، و أقدره على حمل أعباء الرؤية لم تمتنع في حقه .
و قد تقدم ما ذكر في قوة بصر موسى و محمد عليهما الصلاة و السلام ، و نفوذ إدراكها بقوة إلهية منحاها لإدراك ما أدركاه ، و رؤية ما رأياه . و الله أعلم .
و قد ذكر القاضي أبو بكر ـ في أثناء أجوبته عن الآيتين ـ ما معناه : إن موسى عليه السلام رأى الله ، فلذلك خر صعقاً ، و إن الجبل رأى ربه فصار دكاً بإدراك خلقه الله له واستنبط ذلك ، و الله أعلم ، من قوله : ولكن انظر إلى ال جبل فإن استقر مكانه فسوف تراني [
سورة الأعراف /7 ، الآية : 143 ] .
ثم قال : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا .
و تجليه للجبل هو ظهوره له حتى رآه ـ على هذا القول .
و قال جعقر بن محمد : شغله بالجبل حتى تجلى ، و لولا ذلك لمات صعقاً بلا إفاقة .
و قوله هذا يدل على أن موس رآه .
و قد و قع لبعض المفسرين ـ في الجبل ـ أنه رآه ، و برؤية الجبل له استدل من قال برؤية محمد نبينا له ، إذ جعله دليلاً على الجواز .
و لا مرية في الجواز ، إذ ليس في الآيات نص بالمنع .
و أما وجوبه لنبينا صلى الله عليه و سلم ، و القول بأنه رآه بعينه ـ فليس فيه قاطع أيضاً و لا نص ، إذ المعول فيه على آيتي [ النجم ] ، و التنازع فيهما مأثور ، و الإحتمال لهما ممكن ، و لا أثر قاطع متواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم بذلك .
و حديث ابن عباس خبر عن اعتقاده لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، فيجب العمل باعتفاد مضمنه .
و مثله حديث أبي ذر في تفسير الآية .
و حديث معاذ محتمل للتأويل ، و هو مضطرب الإسناد و المتن .
و حديث أبي ذر مختلف محتمل مشكل . فروي : [ نور أني أراه ] .
و حكى بعض شيوخنا أنه روي [ نوراني أراه ] .
و في حديثه الآخر : سألته ، فقال : [ رأيت نوراً ] ، و ليس يمكن الاحتجاج بواحد منها على صحة الرؤية ، فإن كان الصحيح رأيت نوراً فهو قد أخبر أنه لم ير الله ، و إنما رأى نوراً منعه و حجبه عن رؤية الله .
و إلى هذا يرجع قوله : [ نور أنى أراه ] أي كيف أراه مع حجاب النور المغشي للبصر ، و هذا مثل [ 167 ] ما في الحديث الآخر : حجابه النور .
و في الحديث الآخر : لم أره بعيني ، و لكن رأيته بقلبي مرتين ، و تلا : ثم دنا فتدلى و الله قادر على خلق الإدراك الذي في البصر في القلب ، أو كيف شاء ، لا إله غيره .
فإن ورد حديث نص بين في الباب اعتقد و وجب المصير إليه ، إذ لا استحالة فيه ، و لا مانع قطعي يرده ، و الله الموفق .

 

فصل
فيما ورد في قصة الإسراء من مناجاته ربه

 

و أما ما ورد في هذه القصة من مناجاته لله تعالى و كلامه معه بقوله : فأوحى إلى عبده ما أوحى ـ إلى ما تضمنته الأحاديث ـ فأكثر المفسرين على أن الموحي الله عز و جل إلى جبريل ، و جبريل إلى محمد صلى الله عليه و سلم إلا شذوذاً منهم ، فذكر عن جعفر بن محمد الصادق ، قال : أوحى إليه بلا واسطة ، و نحوه عن الواسطي ، و إلى هذا ذهب بعض المتكلمين ـ أن محمداً كلم ربه في الإسراء .
و حكي عن الأشعري ، و حكي عن ابن مسعود و ابن عباس ، و أنكروه آخرون .
و ذكر النقاش ، عن ابن عباس ـ في قصة الإسراء ، عنه صلى الله عليه و سلم في قوله : دنا فتدلى ـ قال : فارقني جبريل ، و انقطعت الأصوات عني ، فسمعت كلام ربي و هو : يقول ليهدأ روعك يا محمد ، ادن ، ادن .
و في حديث أنس في الإسراء نحو منه .
و قد احتجوا في هذا بقوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ، فقالوا : هي ثلاثة أقسام : من وراء حجاب كتكليم موسى ، و بإرسال الملائكة كحال جميع الأنبياء و أكثر أحوال نبين ا صلى الله عليه و سلم . الثالث : قوله : وحياً ، و لم يبق من تقسيم الكلام إلا المشافهة مع المشاهدة .
و قد قيل : الوحي هنا : هو ما يلقيه في قلب النبي دون واسطة .
و قد ذكر أبو بكر البزار ، عن علي في حديث الإسراء ما هو أوضح في سماع النبي صلى الله عليه و سلم لكلام الله من الآية : فذكر فيه : فقال الملك : الله أكبر . الله أكبر ـ فقيل لي من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا أكبر ، أنا أكبر . و قال في سائر كلمات الآذان مثل ذلك .
و يجيء الكلام في مشكل هذين الحديثين في الفصل بعد هذا مع ما يشبهه . و في أول فصل من الباب منه .
و كلام الله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم و من اختصه من أنبيائه ، جائز غير ممتنع عقلاً ، و لا ورد في الشرع قاطع يمنعه ، فإن صح في ذلك خبر احتمل عليه ، و كلامه تعالى لموسى كائن حق مقطوع به ، نص ذلك في الكتاب ، و أكده بالمصدر دلالة على الحقيقة ، ورفع مكانه على ما ورد في الحديث : في السماء السابعة بسبب كلامه . و رفع محمداً فوق هذا كله حتى بلغ مستوى ، و سمع صريف الأقلام ، فكيف يستحيل في حق هذا أو يبعد سماع الكلام ، فسبحان من خص من شاء بما شاء ، و جعل بعضهم فوق بعض د رجات ! .

 

فصل
فيما ورد في الحديث الإسراء من الدنو والقرب

 

وأما ما ورد في حديث الإسراء وظاهرة الآية : من الدنو و القرب من قوله : دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى - و أكثر المفسرين أن الدنو و التدلي منقسم ما بين محمد وجبريل عليه السلام ، أو مختص بأحدهما من الآخر ، أو من السدرة المنتهى.
قال الرازي : و قال ابن عباس : هو محمد دنا فتدلى من ربه .
وقيل : معنى [ 68 ] دنا قرب ، و تدلى زاد في القرب . و قيل : هما بمعنى واحد ، أي قرب .
وحكى مكي ، و الماوردي - عن ابن عباس : هو الرب دنا محمد ، فتدلى إليه ، أي أمره وحكمه .
وحكى النقاش عن الحسن ، قال : دنا من عبده محمد صلى الله عليه و سلم ، فتدلى ، فقرب منه ، فأراه ما شاء أن يريه من قدرته وعظمته .
قال : وقال ابن عباس : هو مقدم ومؤخر : تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه و سلم ليلة المعراج ، فجلس عليه ، ثم رفع فدنا من ربه .
قال : فارقني جبريل ، وانقطعت عني الأصوات ، وسمعت كلام ربي عز وجل .
وعن أنس في الصحيح : عرج بي جبريل إلى سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة ، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إليه بما شاء و أوحى إليه خمسين صلاة . . . وذكر حديث الإسراء .
وعن محمد بن كعب : هو محمد دنا من ربه ، فكان كقاب قوسين .
قال : و قال جعفر بن محمد : أدناه ربه منه حتى كان منه كقاب قوسين .
و قال جعفر بن محمد : والدنو من الله لا حد له ، ومن العباد بالحدود .
و قال أيضاً : انقطعت الكيفية عن الدنو ، ألا ترى كيف حجب جبريل عن دنوه ، ودنا محمد صلى الله عليه و سلم إلى ما أودع قلبه من المعرفة والإيمان ، فتدلى بسكون قلبه إلى ما أدناه ، وزال عن قلبه الشك والإرتياب .
قال القاضي أبو الفضل - : اعلم أن ماوقع من إضافة الدنو والقرب هنا من الله ، أو إلى الله - فليس بدنو مكان ، ولا قرب مدى ، بل كما ذكرناه - عن جعفر الصادق : ليس بدنو حد ، وإنما دنو النبي صلى الله عليه و سلم من ربه وقربه منه إبانة عظيم منزلته ، وتشريف رتبته ،
وإشراق أنوار معرفته ، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته ، ومن الله تعالى له مبرة وتأنيس ، وبسط ، وإكرام ، و يتأول فيه ما يتأول في قوله : ينزل ربنا إلى السماء الدنيا على أحد الوجوه : نزول إفضال وإجمال ، وقبول وإحسان .
قال الواسطي : من ت وهم أنه بنفسه دنا جعل ثم مسافة ، بل كلما دنا بنفسه من الحق تدلى بعداً يعني عن درك حقيقته ، إذ لا دنو للحق ولا بعد .
وقوله : قاب قوسين أو أدنى فمن جعل الضمير عائداً إلى الله ، لا إلى جبريل على هذا كان عبارة عن نهاية القرب ، ولطف المحل ، وإيضاح المعرفة ، والإشراف على الحقيقة عن محمد صلى الله عليه و سلم ، وعبارةً عن إجابة الرغبة ، وقضاء المطالب ، وإظهار التحفي ، وإنافة المنزل والمرتبة من الله له .
ويتأول فيه ما يتأول في قوله : من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً ، قرب بالأجابة والقبول ، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول .

 

فصل
في ذكر تفضيله يوم القيامة بخصوص الكرامة

 

حدثنا [ القاضي ] ، أبو علي ، حدثنا أبو الفضل ، وأبو الحسين ، قالا : حدثنا أبو يعلى السنجي ، حدثنا ابن محبوب ، حدثنا الترمذي ، حدثنا الحسين بن يزيد الكوفي ، حدثنا عبدالسلام بن حرب ، عن ليث ، عن الربيع بن أنس ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ 69 ] : أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا مبشرهم إذا أيسوا ، لواء الحمد بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر .
وفي رواية ابن زحر ، عن الربيع بن أنس - في لفظ هذا الحديث : أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، وأنا قائدهم إذا وفدوا ، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا شفيعهم إذا حبسوا و أنا مبشرهم إذا أبلسوا ، لواء الكرم بيدي ، و أنا أكرم ولد آدم على ربي و لا فخر و يطوف علي ألف خادم كأنهم لؤلؤ مكنون .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : و أكسى حلةً من حلل الجنة ، ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري .
وعن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، و بيدي ل واء الحمد و لا فخر ، و ما نبي يومئذ ، آدم فمن سواه ، إلا تحت لوائي ، و أنا أول من تنشق عنه الأرض و لا فخر .
و عن أبي هريرة ، عنه صلى الله عليه و سلم : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، و أول من ينشق عنه القبر ، و أول شافع ، و أول مشفع .
و عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنا حامل لواء الحمد يوم القيامة و لا فخر ، و أنا أول شافع ، و أنا أول مشفع ،و لا فخر ، و أنا أول من يحرك حلق الجنة ، فيفتح لي فأدخلها و معي فقراء المؤمنين و لا فخر ، و أنا أكرم الأولين و الأخرين و لا فخر .
و عن أنس : أنا أول الناس يشفع في الجنة ، و أنا أكثر الناس تبعاً .
و عن أنس رضي الله عنه ، قال النبي صلى الله عليه و سلم : أنا سيد الناس يوم القيامة ، و تدرون بم ذلك ؟ يجمع الله الأولين و الأخرين ـ و ذكر حديث الشفاعة .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أنه صلى الله عليه و سلم قال : أطمع أكون أعظم الأنبياء أجراً يوم القيامة .
و في حديث آخر : أما ترضون أن يكون إبراهيم و عيسى فيكم يوم القيامة ثم قال إنهما في أمتي يوم القيامة ، أما إبراهيم فيقول : أنت دعوتي و ذريتي ، فاجعلني من أ متك . و أما عيسى فالأنبياء إخوة بنو علات ، أمهاتهم شتى ، و إن عيسى أخي ليس بيني و بينه نبي ، و أنا أولى الناس به .
قوله : أنا سيد الناس يوم القيامة : هو سيدهم في الدنيا ، و يوم القيامة . و لكن أشار صلى الله عليه و سلم لإنفراده فيه بالسؤدد و الشفاعة دون غيره ، إذ لجأ الناس إليه في ذلك ، فلم يجدوا سواه .
و السيد : هو الذي يلجأ الناس إليه في حوائجهم ، فكان حينئذ سيداً منفرداً من بين البشر ، لم يزاحمه أحد في ذلك ، و لا ادعاه ، كما قال تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ سورة غافر / 40 ، الآية : 16 ] .
و الملك له تعالى في الدنيا و الآخرة ، لكن في الآخرة انقطعت دعوى المدعي لذلك في الدنيا .
و كذلك لجأ إلى محمد صلى الله عليه و سلم جميع الناس في الشفاعة ، فكان سيدهم في الأخرى دون دعوى .
و عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : آتي باب الجنة يوم القيامة ، فأستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد . فيقول : بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك .
و عن عبد الله بن عمرو : قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حوضي مسيرة شهر ، و زواياه سواء [ 70 ] ، و ماؤه أبيض من الورق ، و ريحه أطيب من المسك ، و كيزانه كنجوم السماء ، من شرب منه لم يظمأ أبداً .
و عن أبي ذر نحوه ، و قال : [ طوله ما بين عمان إلى أيلة ، يشخب فيه ميزابان من الجنة ] .
و عن ثوبان مثله ، و قال : أحدهما من ذهب ، و الآخر من ورق .
و في رواية حارثة بن وهب : كما بين المدينة و صنعاء .
و قال أنس : أيلة و صنعاء .
و قال ابن عمر : كما بين الكوفة و الحجر الأسود .
و روى حديث الحوض أيضاً أنس ، و جابر ، و سمرة ، و ابن عمر ، و عقبة بن عامر ، و حارثة بن وهب الخزاعي ، و المستورد ، و أبو برزة الأسلمي ، و حذيفة بن اليمان ، و أبو أمامة ، و زيد بن أرقم ، و ابن مسعود ، و عبد الله بن زيد ، و سهل بن سعد ، و سويد بن جبلة ، و أبو بكر ، و عمر بن الخطاب ، و ابن بريدة ، و أبو سعيد الخدري ، و عبد الله الصنابجي ، و أبو هريرة ، و البراء ، و جندب ، و عائشة ، و أسماء بنت أبي بكر ، و أبو بكرة ، و خولة بنت قيس ، و غيرهم .


فصل
في تفضيله بالمحبة و الخلة

 

جاءت بذلك الأثار الصحيحة ، و اختص على ألسنة المسلمين بحبيب الله ، أخبرنا أبو القاسم بن إبراهيم الخطيب و غيره ، عن كريمة بنت أحمد ، حدثنا أبو الهيثم ، و حدثنا حسين بن محمد الحافظ سماعاً عليه ، حدثنا القاضي أبو الوليد ، حدثنا عبد بن أحمد ، حدثنا أبو الهيثم ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد بن محمد ، حدثنا أبو عامر ، حدثنا فليح ، حدثنا أبو النضر ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ـ أنه قال : لو كنت متخذا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر .
و في حديث آخر و إن صاحبكم خليل الله .
و من طريق عبد الله بن مسعود : و قد اتخذ الله صاحبكم خليلاً .
و عن ابن عباس ، قال : جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ينتظرونه ، قال : فخرج و عن ابن عباس ، قال : جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ينتظرونه ، قال : فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون ، فسمع حديثهم ، فقال بعضهم : عجباً ! إن الله اتخذ من خلقه خليلاً ، اتخذ إبراهيم خليلاً .
و قال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى ، كلمه الل ه تكليماً .
و قال آخر : فعيسى كلمه الله و روحه .
و قال آخر : و آدم اصطفاه الله .
فخرج عليهم فسلم ، و قال : قد سمعت كلامكم و عجبكم ، أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً ، و هو كذلك ، و موسى نجي الله و هو كذلك ، و موسى نجي الله ، و هو كذلك ، و عيسى روح الله ، و هو كذلك ، و آدم اصطفاه الله ، و هو كذلك ، ألا و أنا حبيب الله و لا فخر ، و أنا أول شافع و أول مشفع و لا فخر ، و أما من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها و معي فقراء المؤمنين و لا فخر ، و أنا أكرم الأولين و الآخرين ولا فخر .
و في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : إني اتخذتك خليلاً ، فهو مكتوب في التوراة : أنت حبيب الرحمن .
قال القاضي أبو الفضل : اختلف في تفسير الخلة ، و اصل اشتقاقها ، فقيل : الخليل : المنقطع إلى الله الذي ليس في انقطاعه إليه و محبته له اختلال .
و قيل : الخليل المختص ، و اختار هذا القول غير واحد .
و قال بعضهم : أصل الخلة الاستصفاء : و سمي إبراهيم [ 71 ] خليل الله ، لأنه يوالي فيه و يعادي فيه ، و خلة الله له نصره ، و جعله إماماً لمن بعده .
و قيل : ال خليل : أصله الفقير المحتاج المنقطع ، مأخوذ من الخلة و هي الحاجة ، فسمي بها إبراهيم ، لأنه قصر حاجته على ربه ، و انقطع إليه بهمه ، و لم يجعله قبل غيره ، و إذا جاءه جبريل و هو في المنجنيق ، ليرمى به في النار ، فقال : ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا .
و قال أبو بكر بن فورك : الخلة : صفاء المودة التي توجب الاختصاص بتخلل الأسرار .
و قال بعضهم : أصل الخلة المحبة ، و معناها الإسعاف ، و الإلطاف ، و الترفيع ، و التشفيع ، و قد بين ذلك في كتابه تعالى بقوله : وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 18 ] .
فأو جب للمحبوب ألا يؤاخذ بذنوبه .
قال : هذا ، و الخلة أقوى من النبوة ، لأن النبوة قد تكون فيها العداوة ، كما قال تعالى : إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم [ سورة التغابن /64 ، الآية : 14] .
و لا يصح أن تكون عداوة مع خلة ، فإذاً تسمية إبراهيم و محمد عليهما السلام بالخلة إما بانقطاعهما إلى الله و وقف حوائجهما عليه ، و الانقطاع عمن دونه ، و الإضراب عن الوسائط و الأسباب ، أو لزيادة الإختصاص منه تعالى لهما ، و خفي ألطافه عندهما ، و ما خالل بواطنهما من أسرار إلهيته ، و مكنون غيوبه و معرفته ، أو لاستصفائه لهما ، و استصفاء قلوبهما عمن سواه ، حتى لم يخاللهما حب لغيره ، و لهذا قال بعضهم : الخليل من لايتسع قلبه لسواه و هو عندهم معنى قوله صلى الله عليه و سلم : و لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ، لكن أخوة الإسلام .
و اختلف العلماء و أرباب القلوب : أيهما أرفع درجة : الخلة أو درجة المحبة ؟
فجعلهما بعضهم سواء فلا يكون الحبيب إلا خليلا ، و لا الخليل إلا حبيباً لكنه خص إبراهيم بالخلة ، و محمداً بالمحبة .
و بعضهم قال : درجة الخلة أرفع ، و احتج بقوله صلى الله عليه و سلم : لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي عز و جل فلم يتخذه .
و قد أطلق المحبة لفاطمة ، و ابنيها ، و أسامة و غيرهم .
و أكثرهم جعل المحبة أرفع من الخلة ، لأن درجة الحبيب نبينا أرفع من درجة الخليل إبراهيم .
و أصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحب ، و لكن هذا في حق من يصح الميل منه و الإنتف اع بالوفق ، و هي درجة المخلوق ، فأما الخالق ـ جل جلاله ـ فمنزه عن الأغراض ، فمحبته لعبده تمكينه من سعادته ، و عصمته و توفيقه و تهيئة أسباب القرب ، و إفاضة رحمته عليه ، و قصواها كشف الحجب عن قلبه حتى يراه بقلبه ، و ينظر إليه ببصيرته ، فيكون كما قال في الحديث : فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، و بصره الذي يبصر به ، و لسانه الذي ينطق به .
و لا ينبغي أن يفهم من هذا سوى التجرد لله ، و الإنقطاع إلى الله ، و الإعراض عن غير الله ، و صفاء القلب لله ، و إخلاص الحركات لله ، كما قالت عائشة رضي الله عنه : كان خلقه القرآن ، برضاه يرضى ، و بسخطه يسخط ، و من هذا عبر بعضهم عن الخلة بقوله :
قد تخللت مسلك الروح مني      و بذا سمي الخليل خليلا
فإذا ما نطقت كنت حديثي       و إذا ما سكت كنت الغيلا
فإذا [ 72 ] مزية الخلة و خصوصية المحبة حاصلة لنبينا صلى الله عليه و سلم بما دلت عليه الآثار الصحيحة المنتشرة ، المتلقاة بالقبول من الأمة ، و كفى بقوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم .
حكى أهل التفسير أن هذه الآية لما نزلت قا ل الكفار : إنما يريد محمد أن نتخذه حناناً كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم ، فأنزل الله ـ غيظاً لهم و رغماً على مقالتهم هذه الآية : قل أطيعوا الله والرسول ، فزاده شرفاً بأمرهم بطاعته ، و قرنها بطاعته ، ثم توعدهم على التولي عنه بقوله : فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين .
و قد نقل الإمام أبو بكر بن فورك عن بعض المتكلمين كلاماً في الفرق بين المحبة و الخلة يطول ، جملة اشارته إلى تفضيل مقام المحبة على الخلة ، و نحن نذكر منه طرفاً يهدي إلى ما بعده .
فمن ذلك قولهم : الخليل يصل بالواسطة ، من قوله تعالى : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين [ سورة الأنعام / 6 ، الآية : 75 ] .
و الحبيب يصل لحبيبه به ، من قوله : فكان قاب قوسين أو أدنى .
و قيل : الخليل : الذي تكون مغفرته في حد الطمع ، من قوله : والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين [ سورة الشعراء / 26 ، الآية : 82 ] .
و الحبيب الذي مغفرته في حد اليقين ، من قوله : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 2 ] .
و الخليل قال : ولا تخزني يوم يبعثون [ سورة الشعراء / 26 ، الآية : 87 ] .
و الحبيب قيل له : يوم لا يخزي الله النبي ، فابتدىء بالبشارة قبل السؤال .
و الخليل قال في المحنة : حسبي الله [ سورة الزمر / 39 ، الآية : 38 ] .
و الحبيب قيل له : يا أيها النبي حسبك الله [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 64 ] .
و الخليل قال : اجعل لي لسان صدق في الآخرين [ سورة الشعراء / 26 ، الآية : 84 ] . و الحبيب قيل له : ورفعنا لك ذكرك ، أعطي بلا سؤال .
و الخليل قال : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ سورة إبراهيم / 14 ، الآية : 35 ] .
و الحبيب قيل له : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
و فيما ذكرناه تنبيه على مقصد أصحاب هذا المقال من تفضيل المقامات و الأحوال ، و كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا [ سورة الإسراء / 17 ، الآية : 84 ] .

 

فصل
في تفصيله بالشفاعة و المقام المحمود

 

قال الله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [سورة الإسراء / 17 ، الآية : 79 ] .
أخبرنا الشيخ أبو علي الغساني الجياني فيما كتب إلي بخطه ، حدثنا سراج بن عبد الله القاضي ، حدثنا أبو محمد الأصيلي ، حدثنا أبو زيد ، و أبو أحمد ، قالا : حدثنا محمد بن يوسف ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبان ، حدثنا أبو الأحوص ، عن آدم بن علي ، قال : سمعت ابن عمر يقول : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثى ، كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان ، اشفع لنا ، يا فلان اشفع لنا ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود .
و عن أبي هريرة : سئل عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ يعني قوله : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ، فقال : هي الشفاعة .
و روى كعب بن مالك ، عنه صلى الله عليه و سلم : يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا و أمتي على تل و يكسوني ربي حلة خضراء ، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود .
و عن ابن عمر [ 73 ] رضي الله عنه ـ و ذكر حديث الشفاعة ـ قال : فيمشي حتى يأخذ بحلقة الجنة ، فيومئذ يبعثه الله المقام المحمود الذي وعده .
و عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه و سلم أنه قيامه عن يمين العرش مقاماً لا يقومه غيره ، يغبطه فيه الأولون و الآخرون .
و نحوه عن كعب والحسن .
و في رواية : هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه .
عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لقائم المقام المحمود . قيل : و ما هو ؟ قال : ذلك يوم ينزل الله تبارك و تعالى [ على كرسيه ] . . الحديث .
و عن أبي موسى رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه و سلم : خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة ، لأنها أعم ، أترونها للمتقين ؟ لا ، و لكنها للمذنبين الخطائين .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، ماذا ورد عليك في الشفاعة ؟ فقال : شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً ، يصدق لسانه قلبه .
و عن أم حبيبة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أريت ما تلقى من بعدي ، و سفك بعضهم دماء بعض ، و سبق لم من الله ما سبق للأمم قبلهم ، فسألت الله أن يؤتيني شفاعة يوم القيامة فيهم ، ففعل .
و قال حذيفة : يجمع الله الناس ، في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي ، و ينفذهم البصر ، حفاة عراة كما خلقوا ، سكوتاً لا تكلم نفس إلا بإذنه ، فينادى محمد فيقول : لبيك و سعديك ، و الخير في يديك ، و الشر ليس إليك ، و المهتدي من هديت ، و عبدك بين يديك ، و لك و إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، تباركت و تعاليت ، سبحانك رب البيت ـ قال : فذلك المقام المحمود الذي ذكر الله .
و قال ابن عباس رضي الله عنه : إذا دخل أهل النار النار ، و أهل الجنة الجنة ، فتبقى آخر زمرة من الجنة و آخر زمرة من النار ، فتقول زمرة النار لزمرة الجنة : ما نفعكم إيمانكم ، فيدعون ربهم ويضجون ، فيسمعهم أهل الجنة فيسلون آدم وغيره بعده في الشفاعة لهم ، فكل يعتذر حتى يأتوا محمداً صلى الله عليه و سلم ، فيشفع لهم ، فذلك المقام المحمود .
و نحوه عن ابن مسعود أيضاً ، و مجاهد .
و ذكر علي بن الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم .
و قال جابر بن عبد الله ليزيد الفقير : سمعت بمقام محمد ـ يعني الذي بعثه الله فيه ؟
قلت : نعم . قال : فإنه مقام محمد المحمود الذي يخر ج الله به من يخرج ـ يعني من النار ـ و ذكر حديث الشفاعة في إخراج الجهنميين .
و عن أنس نحوه ، و قال : فهذا المقام المحمود الذي وعده .
[ و عن سلمان : المقام المحمود هو الشفاعة في أمته يوم القيامة .
و مثله عن أبي هريرة رضي الله عنه .
و قال قتادة : كان أهل العلم يرون المقام المحمود هو شفاعته يوم القيامة ، وعلى أن المقام المحمود مقامه عليه الصلاة و السلام للشفاعة مذاهب السلف من الصحابة و التابعين و عامة أئمة المسلمين .
و بذلك جاءت الشفاعة مفسرةً في صحيح الأخبار عنه عليه الصلاة والسلام : وجاءت مقالة في تفسيرها شاذةً عن بعض السلف ، يجب ألا تثبت ، إذا لم يعضدها صحيح أثر ، ولا سند نظر .
ولو صحت لكان لها تأويل غير مستنكر ، لكن ما فسره النبي صلى الله عليه و سلم في صحيح الآثار برده ، فلا يجب أن يلتفت إليه ، مع أنه لم يأت في كتاب ولا سنة ، و لا اتفق على المقال أمة ، وفي إطلاق ظاهره منكر من القول وشنعة ] .
و في رواية أنس و أبو هريرة وغيرهما ، دخل حديث بعضهم في حديث بعض : قال صلى الله عليه و سلم : يجمع الله الأولين و الآخرين يوم القيامة فيهتمون ـ أو قال : فيلهمون فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا .
و من طريق آخر ، عنه : [ ماج الناس بعضهم في بعض ] .
و عن أبي هريرة : وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغم ما لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقولون : ألا تنظرون من يشفع لكم ، فيأتون آدم فيقولون ، زاد بعضهم : أنت آدم أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، و اسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا ، ألا ترى [ 74 ] ما نحن فيه ؟ .
فيقول : إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، ونهائي عن الشجرة فعصيت ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح .
فيأتون نوحاً فيقولون : أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبداً شكوراً ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما بلغنا ‍‍‍‍‍‍‍! ألا تشفع لنا إلى ربك ؟ فيقول : إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، نفسي ! نفسي !
قال ـ في رواية أنس : ويذكر خطيئته التي أصاب : سؤاله ربه بغير علم .
وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه : وقد كانت لي دعوة دعوتها على قومي ، اذهبوا إلى غيري . اذهبوا إلى إبراهيم ، فإنه خليل الله .
فيأتون إبراهيم ، فيقولون : أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟
فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضباً . . . فذكر مثله ، ويذكر ثلاث كلمات كذبهن . نفسي ، نفسي ، لست لها ، ولكن عليكم بموسى ، فإنه كليم الله .
وفي رواية : فإنه عبد آتاه الله التوراة ، وكلمه وقربه نجياً .
قال : فيأتون موسى ، فيقول : لست لها ، ويذكر خطيئته التي أصاب ، وقتله النفس ، نفسي ، نفسي ، ولكن عليكم بعيسى ، فإنه روح الله وكلمته .
فيأتون عيسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمد ، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
فأوتى ، فأقول : أنا لها .
فأنطلق فأستاذن على ربي ، فيؤذن لي ، فإذا رأيته وقعت ساجداً .
وفي رواية : فآتي تحت العرش ، فأخر ساجداً .
وفي رواية : فأقوم بين يديه ، فأحمد بمحامد لا أقدر عليها إلا أن يلهمنيها الله .
وفي رواية : فيفتح الله علي من محامده ، وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي .
قال ـ في رواية أبي هريرة : فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، سل ، تعطه ، و اشفع تشفع ، فأرفع رأسي ، فأقول : يا رب ، أمتي ، يا رب ، أمتي . في قول : أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، و هم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب .
و لم يذكر في رواية أنس هذا الفصل ، و قال ـ مكانه : ثم أخر ساجداً ، فيقال لي : يا محمد ، ارفع رأسك ، و قل يسمع لك ، و اشفع تشفع ، و سل تعطه . فأقول : يا رب ، أمتي ، أمتي . فيقال : انطلق ، فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه ، فأنطلق فأفعل .
ثم أرجع إلى ربي ، فأحمده بتلك المحامد و ذكر مثل الأول ، و قال فيه : مثقال حبة من خردل . قال : فأفعل ، ثم أرجع ... و ذكر مثل ما تقدم ، و قال فيه : من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل ، فأفعل .
و ذكر في المرة الرابعة : فيقال لي : ارفع رأسك ، و قل يسمع ، و اشفع تشفع ، و سل تعطه .
فأقول : يا رب ، ائذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله . قال : ليس ذلك إليك .
و لكن و عزتي و كبريائي و عظمتي و جبريائي لأخرجن من النار من قال : لا إله إلا الله .
و من رواية قتادة عنه ، قال : فأقول يا رب ، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ، أي وجب عليه الخلود .
و عن أبي بكر ، و عقبة بن عامر ، و أبي سعيد ، و حذيفة مثله ، قال : فيأتون [ 75 ] محمداً فيؤذن له ، و تأتي الأمانة و الرحم فتقومان جنبتي الصراط .
وذكر في رواية أبي مالك ، عن حذيفة : فيأتون محمداً فيشفع ، فيضرب الصراط فيمرون : أولهم كالبرق ، ثم كالريح ، و الطير ، و شد الرجال ، و نبيكم صلى الله عليه و سلم على الصراط يقول : اللهم سلم سلم ،حتى يجتاز الناس . و ذكر آخرهم جوازاً . . . الحديث .
و في رواية أبي هريرة : فأكون أول من يجيز .
و عن ابن عباس ، عنه صلى الله عليه و سلم : يوضع للأنبياء منابر يجلسون عليها ، ويبقى منبري لا أجلس عيله قائماً ، بين يدي ربي منتصباً ، فيقول الله تبارك و تعالى : ما تريد بأمتك ؟ فأقول : يا رب ، عجل حسابهم ، فيدعى بهم ، فيحاسبون .
فمنهم من يدخل برحمته ، و منهم من يدخل الجنة بشفاعتي ، و لا أزال أشفع حتى أعطى صكاكاً برجال قد أمر بهم إلى النار ، حتى إن خازن النار ليقول : يا محمد ، ما تركت لغضب ربك في أمتك من نقمة .
ومن طريق زياد النميري ، عن أنس ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أنا أول من تنفلق الأرض عن جمجمته و لا فخر ، و أنا سيد الناس يوم القيا مة و لا فخر ، و معي لواء الحمد يوم القيامة ، و أنا أول من تفتح له الجنة و لا فخر ، فآتي فآخذ بحلقة الجنة ، فيقال : من هذا ؟ فأقول : محمد ، فيفتح لي ، فيستقبلني الجبار تعالى ، فأخر له ساجداً . . . و ذكر نحو ما تقدم .
و من رواية أنس : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: لأشفعن يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر وشجر .
فقد اجتمع من اختلاف ألفاظ هذه الآثار أن شفاعته ـ صلى الله عليه و سلم ، و مقامه المحمود من أول الشفاعات إلى آخرها ، من حين يجتمع الناس للحشر ، و تضيق بهم الحناجر ، و يبلغ منهم العرق و الشمس و الوقوف مبلغه ، و ذلك قبل الحساب ، فيشفع حينئذ لإراحة الناس من الموقف ، ثم يوضع الصراط ، و يحاسب الناس ، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة و حذيفة .
و هذا الحديث أتقن ، فيشفع في تعجيل من لا حساب عليه من أمته إلى الجنة ـ كما تقدم في الحديث ـ ثم يشفع فيمن وجب عليه العذاب ، و دخل النار منهم حسب ما تقضيه الأحاديث الصحيحة ، ثم فيمن قال : لا إله إلا الله . و ليس هذا لسواه صلى الله عليه و سلم .
و في الحديث المنتشر الصحيح : لكل نبي دعوة يدعو بها ، و اختبأت دعوتي شفاعةً لأ متي يوم القيامة .
قال أهل العلم : معناه دعوة أعلم أنها تستجاب لهم ، و يبلغ فيها مرغوبهم ، و إلا فكم لكل نبي منهم من دعوة مستجابة ، و لنبينا صلى الله عليه و سلم منها ما لا يعد ، لكن حالهم عند الدعاء بها بين الرجاء و الخوف ، و ضمنت لهم إجابة دعوة فيما شاءوه يدعون بها على يقين من الإجابة .
و قد قال محمد بن زياد ، و أبو صالح ، عن أبي هريرة في هذا الحديث : لكل نبي دعوة دعا بها في أمته ، فاستجيب له ، و أنا أريد أن أدخر ، دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة .
و قي رواية أبو صالح : لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته .
و نحوه في رواية أبي زرعة عن أبي هريرة [ 76 ] .
و عن أنس مثل رواية ابن زياد ، عن أبي هريرة .
فتكون هذه الدعوة المذكورة مخصوصةً بالأمة مضمونة الإجابة ، و الإ فقد أخبر صلى الله عليه و سلم أنه سأل لأمته أشياء من أمور الدين والدنيا و أعطي بعضها ، و منع بعضها ، وادخر لهم هذه الدعوة ليوم الفاقة ، و خاتمة المحن ، و عظيم الشؤال و الرغبة .
جزاه الله أحسن ما جزى نبياً عن أمته ، و صلى الله عليه و سلم كثيراً .

 

فصل
في تفضيله في الجنة بالوسيلة و الدرجة الرفعية و الكوثر و الفضيلة

 

حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى التيمي ، و الفقيه أبو الوليد هشام بن أحمد ، بقراءتي عليهما ، قالا : حدثنا أبو علي الغساني ، حدثنا النمري ، حدثنا ابن عبد المؤمن ، حدثنا أبو بكر التمار ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن سلمة ، حدثنا ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، و حيوة ، و سعيد بن أبي أيوب ، عن كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقول : إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ، فإنه من صل علي مرة صلى الله عليه عشراً ، ثم سلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، و أرجو أن أكون أنا هو . فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة .
و في حديث آخر ـ عن أبي هريرة : الوسيلة أعلىدرجة في الجنة .
و عن أنس : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ .
قلت لجبريل : ما هذا ! قال : هذا الكوثر الذي أعطاكه الله . قال : ثم ضرب بيده إلى طينه ، ف استخرج مسكاً .
و عن عائشة و عبد الله بن عمرو مثله ، قال : [ و مجراه على الدر و الياقوت ، و ماؤه أحلى من العسل ، و أبيض من الثلج ] .
و في رواية ـ عنه : [ فإذا هو يجري ، و لم يشق شقاً ، عليه حوض ترد عليه أمتي . . . ] و ذكر حديث الحوض .
و نحوه عن ابن عباس .
و عن [ ابن عباس أيضاً ، قال : الكوثر الخير الذي أعطاه الله إياه .
و قال سعيد بن جبير : و النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله .
و عن حذيفة ـ فيما ذكر صلى الله عليه و سلم عن ربه : وأعطاني الكوثر ، و هو نهر في الجنة ، يسيل في حوضي .
و عن ابن عباس : في قوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى ، قال : ألف قصر من لؤلؤ ترابهن المسك ، و فيه ما يصلحهن .
و في رواية أخرى : وفيه ما ينبغي له من الأزواج و الخدم .

 

فصل
في بيان شبهة ترد على ما تقدم

 

فإن قلت : إذا تقرر من دليل القرآن ، و صحيح الأثر ، و إجماع الأمة ـ كونه أكرم البشر ، و أفضل الأنبياء ـ فما معنى الأحاديث الواردة بنهيه عن التفضيل ؟ كقوله ـ فيما حدثنا الأسدي ، قال : حدثنا السمرقندي ، حدثنا الفارسي ، حدثنا الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم ، حدثنا ابن مثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة : سمعت أبا العالية يقول : حدثني ابن عم نبيكم صلى الله عليه و سلم ـ يعني ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : ما ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى .
و في غير هذا الطريق عن أبي هريرة [ 77 ] قال ـ يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما ينبغي لعبد ... الحديث .
و في حديث أبي هريرة ـ في اليهودي الذي قال : و الذي اصطفى موسى على البشر ، فلطمه رجل من الأنصار ، و قال : تقول ذلك و رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أظهرنا .
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : لا تفضلوا بين الأنبياء .
و في رواية : لا تخبرني على موسى فذكر الحديث .
و فيه : و لا أقول : إن أحداً أفضل من يونس بن متى .
رواية عن أبي هريرة : [ من قال : أنا خير من يونس بن متى فقد كذب ] .
رواية عن ابن مسعود : [ لا يقولون أحدكم أنا خير من يونس بن متى ] .
و في حديثه الآخر : فجاءه صلى الله عليه و سلم رجل ، فقال له : يا خير البرية ، فقال : ذاك إبراهيم . . . .
فاعلم أن للعلماء في هذه الأحاديث تأويلات :
أحدها : أن نهيه عن التفضيل كان قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم ، فنهى عن التفضيل ، إذ يحتاج إلى توقيف ، و أن من فضل بلا علم فقد كذب .
و كذلك قوله : لا أقول إن أحداً أفضل منه ـ لا يقتضي تفضيله هو ، وإنما هو في الظاهر كف عن التفضيل .
الوجه الثاني : أنه قاله صلى الله عليه و سلم على طريق التواضع ، ونفى التكبر والعجب ، وهذا لا يسلم من الإعتراض .
الوجه الثالث : ألا يفضل بينهم تفضيلاً يؤدي إلى تنقص بعضهم ، أو الغض منه ، لا سيما في جهة يونس عليه السلام ، إذ أخبر الله عنه بما أخبر لئلا يقع في نفس من لا يعلم منه بذلك غضاضة وانحطاط من رتبته الرفيعة ، إذ قال تعالى عنه : إذ أبق إلى الفلك المشحون . إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه ـ فربما يخيل لمن لا علم عنده حطيطته ، بذلك .
الوجه الرابع : منع التفضيل في حق النبوة و الرسالة ، فإن الأنبياء فيها على حد واحد ، إذ هي شيء واحد لا يتفاضل ، و إنما التفاضل في زيادة الأحوال و الخصوص ، و الكرامات ، و
الرتب ، و الألطاف ، و أما النبوة في نفسها فلا تتفاضل ، و إنما التفاضل بأمور أخر زائدة عليها ، و لذلك منهم رسل ، و منهم أولو عزم من الرسل ، و منهم من رفع مكاناً علياً ، و منهم من أوتي الحكم صبياً ، و أوتي بعضهم الزبر ، وبعضهم البينات ، ومنهم من كلم الله ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ، قال الله تعالى : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا [ سورة الإسراء / 17 ، الآية : 55 ] .
و قال : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 253 ] .
قال بعض أهل العلم : و التفضيل المراد لهم هنا في الدنيا ، و ذلك بثلاثة أحوال :
أن تكون آياته ومعجزاته أبهر ، و أشهر ، أو تكون أمته أزكى و أكثر ، أو يكون في ذاته أفضل و أطهر ، و فضله في ذاته راجع إلى ما خصه الله به من كرامته ، و اختصاصه من كلام أو خلة او رؤية أو ما شاء الله من ألطافه ، و تحف ولايته و اختصاصه .
و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن للنبوة أثقالاً ، و إن ي ونس تفسخ منها تفسخ الربع فحفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم موضع الفتنة ، من أوهام من يسبق إليه بسببها حرج في نبوته ، أو قدح في اصطفائه ، و حط عن رتبته ، و وهن في عصمته ، شفقة منه صلى الله عليه و سلم على أمته .
وقد يتوجه على هذا الترتيب ، وجه [ 78 ] خامس ، و هو أن يكون [ أنا ] راجعاً إلى القائل نفسه ، أي لا يظن أحد ـ و إن بلغ من الذكاء و العصمة و الطهارة ، ما بلغ ـ أنه خير من يونس ، لأجل ما حكى الله عنه ، فإن درجة النبوة أفضل وأعلى ، وإن تلك الأقدار لم تحطه ، عنها حبة خردل و لا أدنى .
و سنزيد في القسم الثالث في هذا بياناً إن شاء الله تعالى .
فقد بان لك الغرض ، وسقط بما حررناه شبهة المعترض ، [ و بالله التوفيق ، و هو المستعان لا إله إلا هو ] .

 

فصل
في أسمائه : صلى الله عليه و سلم و ما تضمنته من فضيلته

 

حدثنا أبو عمران موسى بن أبي تليد الفقيه ، قال : حدثنا أبو عمر الحافظ ، حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا يحيى ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لي خمسة أسماء : أنا محمد ، و أنا أحمد ، و أنا الماحي ، الذي يمحو الله بي الكفر ،
و أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، و أنا العاقب .
و قد سماه الله تعالى في كتابه محمداً ، وأحمد .
فمن خصائصه تعالى له أن ضمن أسماءه ثناءه ، وطوى أثناء ذكره عظيم شكره .
فأما اسمه أحمد فأفعل مبالغةً من صفة الحمد .
ومحمد : مفعل ، مبالغة من كثرة الحمد ، فهو ـ صلى الله عليه و سلم ـ أجل من حمد ، و أفضل من حمد ، و أكثر الناس حمداً ، فهو أحمد المحمودين ، و أحمد الحامدين ، و معه لواء الحمد يوم القيامة ليتم له كمال الحمد ، ويتشهر في تلك العرصات بصفة الحمد ، ويبعثه ربه هناك مقاماً محموداً كما وعده ، يحمده فيه الأولون والآخرون بشفاعته لهم ، ويفتح عليه فيه من المحامد ـ كما قال صلى الله عليه و سل م ـ ما لم يعط غيره ، وسمى أمته في كتب أنبيائه بالحمادين ، فحقيق أن يسمى محمداً وأحمد .
ثم في هذين الاسمين من عجائب خصائصه ، وبدائع آياته ـ فن آخر ، و هو أن الله جل اسمه حمى أن يسمى بهما أحد قبل زمانه .
أما أحمد الذي أتى في الكتب وبشرت به الأنبياء فمنع الله تعالى بحكمته أن يسمى به أحد غيره ، ولا يدعى به مدعو قبله حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب أو شك .
و كذلك محمد أيضاً لم يسم به أحد من العرب و لاغيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده صلى الله عليه و سلم و ميلاده أن نبياً يبعث اسمه محمد ، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك ، رجاء أن يكون أحدهم هو . و الله أعلم حيث يجمل رسالاته ، وهم : محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي ، و محمد بن مسلمة الأنصاري ، و محمد بن براء البكري ، و محمد بن سفيان بن مجاشع ، و محمد بن حمران الجعفي ، و محمد بن خراعي السلمي ، لا سابع لهم .
ويقال : أول من تسمى بمحمد محمد بن سفيان . واليمن تقول : بل محمد بن اليحمد من الأزد .
ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها أحد له ، او يظهر عليه سبب يشك أحداً في أمره حتى تحققت السمتان له صلى الله عليه و سلم ، ولم ينازع فيهما .
وأما قوله صلى الله عليه و سلم : و أنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ففسر في الحديث : و يكون محو الكفر إما من مكة و بلاد العرب ، و ما زوي له من الأرض ، و وعد أنه يبلغه ملك أمته ، أو يكون المحو عاماً ، بمعنى الظهور والغلبة ، كما [ 79 ] قال تعالى : ليظهره على الدين كله [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 33 ] .
[ و قد ورد تفسيره في الحديث أنه الذي محيت به سيئات من اتبعه ] .
و قوله : و أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي أي على زماني و عهدي ، أي ليس بعدي نبي ، كما قال : و خاتم النبيين .
وسمي عاقباً ، لأنه عقب غيره من الأنبياء .
[ و في الصحيح : انا العاقب الذي ليس بعدي نبي ] .
و قيل : معنى على قدمي ، أي يحشر الناس بمشاهدتي ، كما قال تعالى : لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 143 ] .
[ و قيل على قدمي : على سابقتي ، قال الله تعالى : أن لهم قدم صدق عند ربهم [ سورة يونس / 10 ، الآية : 2 ] .
و قيل : على قدمي : أي قدامي ، وحولي ، أي يجتمعون إلي يوم القيامة .
و قيل على قدمي : على سنتي ] .
ومعنى قوله : لي خمسة أسماء : قيل : إنها موجودة في الكتب المتقدمة ، وعند أولى العلم من الأمم السالفة ، [ و الله أعلم ] .
و قد روي عنه صلى الله عليه و سلم : لي عشرة أسماء و ذكر منها : طه ، و يس ، حكاه مكي .
و قد قيل في بعض تفسير طه : إنه ياطاهر ياهادي . وفي يس : يا سيد ، حكاه السلمي عن الواسطي ، وجعفر بن محمد .
و ذكر غيره : لي عشرة أسماء فذكر الخمسة التي في الحديث الأول ، قال : و أنا رسول الرحمة و رسول الراحة ، و رسول الملآحم ، وأنا المقتفي ، قفيت النبيين .
و أنا قيم ، و القيم : الجامع الكامل ، كذا و جدته ، و لم أروه .
و أرى أن صوابه قثم ـ بالثاء كما ذكرناه بعد عن الحربي ، و هو أشبه بالتفسير .
و قد وقع أيضاً في كتب الأنبياء : قال داود عليه السلام : اللهم ابعث لنا محمد اًمقيم السنة بعد الفترة ، فقد يكون القيم بمعناه .
وروى النقاش عنه صلى الله عليه و سلم : لي في القرآن سبعة أسماء : محمد ، و أحمد و يس ، و طه ، و المدثر ، و المزمل ، و عبد الل .
[ و في حديث ـ عن جبير بن مطعم رضي الله عنه : هي ست : محمد ، و أحمد ، و خاتم ، و عاقب ، و حاشر ، و ماح ] .
و في حديث أبي مو سى الأشعري ـ أنه كان صلى الله عليه و سلم يسمي لنا نفسه أسماء ،فيقول : أنا محمد و أحمد ،و المقفي ، و نبي التوبة ، و نبي الملحمة ، و نبي الرحمة .
و يروى : المرحمة ، و الراحة .
و كل صحيح إن شاء الله .
و معنى المقفي معنى القالب .
و أما نبي الرحمة و التوبة ، و المرحمة و الراحة ـ فقال تعال : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، و كما و صفه بأنه يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة . و يهديهم إلى صراط مستقيم . و بالمؤمنين رؤوف رحيم [ سورة التوبة /9 ، الآية 128 ] .
و قال في صفة أمته : أنها أمة مرحومة .
و قال الله تعالى فيهم : وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ، أي يرحم بعضهم بعضاً ، فبعثه ربه تعالى رحمة لأمته و رحمة للعالمين ، و رحيماً بهم ، و مرتحماً و مستغفراً لهم ، و جعل أمته مرحومة ، و وصقها بالرحمة .
و أمرها صلى الله عليه و سلم بالتراحم ، فقال و أثنى عليه فقال : إن الله يحب من عباده الرحماء .
و قال : الراحمون يرحمهم الرحمن . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء .
و أما رواية نبي الملحمة فإشارة إلى ما بعث به من القتال و السيف ـ صلى الله عليه و سلم ، و هي صحيح ة .
و روى حذيفة مثل حديث أبي موسى ، و نبي الرحمة ، و نبي الملاحم .
و رو ي الحربي في حديثه صلى الله عليه و سلم أنه قال : أتاني ملك فقال لي : أنت قثم أي مجتمع . قال : و القثم : الجامع للخير ، و هذا اسم هو في أهل بيته معلوم .
و قد جاءت من ألقابة ـ صلى الله عليه و سلم و سماته في القرآن عدة كثيرة سوى ما ذكرناه ، كالنور ، و السراج المنير ، و المنذرو النذير ، و المبشر و البشير ، و الشاهد ،و الشهيد ، و الحق المبين ، و خاتم النبيين ،و الرؤوف الرحيم ، و الأمين ، و قدم الصدق [80] ، و رحمة للعالمين ،و نعمة الله و العروة الوثقى ، و الصراط المستقيم ، و النجم الثاقب و الكريم ، و النبي الأمي ، و داعي الله ـ في أوصاف كثيرة ، و سمات جليلة .
و جرى منها في كتب الله المتقدمة ، و كتب أنبيائه ، و أحاديث رسوله ، و إطلاق الأمة جملة شافية ، كتسميته بالمصطفى ، و المجتبى ، و أبي القاسم ، و الحبيب ،و رسول رب العالمين، و الشفيع المشفع ، و المتقي ، و المصلح ، و الطاهر ، و المهين و الصادق ، و المصدوق ، و الهادي ، و سيد و لد آدم ، و سيد المرسلين ، و إمام المتقين ،و قائدالغر المحجلين ، و حبيب الله ،و خلي ل الرحمن ،و صاحب الحوض المورود ، و الشفاعة ،و المقام المحمود ، و صاحب الوسيلة و الفضيلة و الدرجة الرفيعة ، و صاحب التاج ، و المعراج ، و اللواء ، و القضيب ، و راكب البراق ، و الناقة ، و النجيب ، و صاحب الحجة و السلطان ، و الخاتم ، و العلامة و البرهان ، و صاحب الهراوة و النعلين .
و من أسمائه في الكتب : المتوكل ، و المختار ، و مقيم السنة ، و المقدس . [ وروح القدس ] ، و روح الحق ، و هو معنى البارقليط في الإنجيل .
و قال ثعلب : البارقليط : الذي يفرق بين الحق و الباطل .
و من أسمائه في الكتب السالفة ، ماذ ماذ ، و معناه طيب ، طيب ، و حمطايا ،و الخاتم ، و الحاتم ، حكاه الأحبار .
قال ثعلب : فالخاتم الذي ختم [ الله به ] الأنبياء . و الحاتم : أحسن الأنبياء خلقاً و خلقاً .
و يسمى بالسريانية : مشفع و المنحمنا ، و اسمه في التوراة أحيد ـ روي ذلك عن ابن سيرين .
و معنى صاحب القضيب ، أي السيف ، و قع ذلك مفسراً في الإنجيل ، قال : معه قضيب من حديد يقاتل به ، و أمته كذلك .
و قد يحمل على أنه القضيب الممشوق الذي كان يمسكه صلى الله عليه و سلم ، و هو الآن عند الخلفاء .
و أما الهراوة التي وصف بها فه ي في اللغة العصا ، و أراها ـ و الله أعلم ـ العصا المذكورة في حديث الحوض : أذود الناس عنه بعصايـى ـ لأهل اليمن .
و أما التاج فالمراد به العمامة ، و لم تكن حينئذ إلا للعرب ، و العمائم تيجان العرب .
و أوصافه و ألقابه ، و سماته في الكتب كثيرة ، و فيها ذكرناه منها مقنع إن شاء الله .
[و كانت كنيهة المشهورة أبا القاسم .
و روي عن أنس أنه لما ولد إبراهيم جاءه جبريل فقال له : السلام عليك يا أبا إبراهيم ] .

 

فصل
في أسمائه : صلى الله عليه و سلم و ما تضمنته من فضيلته

 

حدثنا أبو عمران موسى بن أبي تليد الفقيه ، قال : حدثنا أبو عمر الحافظ ، حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا يحيى ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لي خمسة أسماء : أنا محمد ، و أنا أحمد ، و أنا الماحي ، الذي يمحو الله بي الكفر ،
و أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، و أنا العاقب .
و قد سماه الله تعالى في كتابه محمداً ، وأحمد .
فمن خصائصه تعالى له أن ضمن أسماءه ثناءه ، وطوى أثناء ذكره عظيم شكره .
فأما اسمه أحمد فأفعل مبالغةً من صفة الحمد .
ومحمد : مفعل ، مبالغة من كثرة الحمد ، فهو ـ صلى الله عليه و سلم ـ أجل من حمد ، و أفضل من حمد ، و أكثر الناس حمداً ، فهو أحمد المحمودين ، و أحمد الحامدين ، و معه لواء الحمد يوم القيامة ليتم له كمال الحمد ، ويتشهر في تلك العرصات بصفة الحمد ، ويبعثه ربه هناك مقاماً محموداً كما وعده ، يحمده فيه الأولون والآخرون بشفاعته لهم ، ويفتح عليه فيه من المحامد ـ كما قال صلى الله عليه و سل م ـ ما لم يعط غيره ، وسمى أمته في كتب أنبيائه بالحمادين ، فحقيق أن يسمى محمداً وأحمد .
ثم في هذين الاسمين من عجائب خصائصه ، وبدائع آياته ـ فن آخر ، و هو ان الله جل اسمه حمى أن يسمى بهما أحد قبل زمانه .
أما أحمد الذي أتى في الكتب وبشرت به الأنبياء فمنع الله تعالى بحكمته أن يسمى به أحد غيره ، ولا يدعى به مدعو قبله حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب أو شك .
و كذلك محمد أيضاً لم يسم به أحد من العرب و لاغيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده صلى الله عليه و سلم وميلاده أن نبياً يبعث اسمه محمد ، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك ، رجاء أن يكون أحدهم هو . و الله أعلم حيث يجمل رسالاته ، وهم : محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي ، و محمد بن مسلمة الأنصاري ، و محمد بن براء البكري ، و محمد بن سفيان بن مجاشع ، و محمد بن حمران الجعفي ، و محمد بن خراعي السلمي ، لا سابع لهم .
ويقال : أول من تسمى بمحمد محمد بن سفيان . واليمن تقول : بل محمد بن اليحمد من الأزد .
ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها أحد له ، او يظهر عليه سبب يشك أحداً في أمره حتى تحققت السمتان له صلى الله عليه و سلم ، ولم ينازع فيهما .
وأما قوله صلى الله عليه و سلم : و أنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ففسر في الحديث : و يكون محو الكفر إما من مكة و بلاد العرب ، و ما زوي له من الأرض ، و وعد أنه يبلغه ملك أمته ، أو يكون المحو عاماً ، بمعنى الظهور والغلبة ، كما [ 79 ] قال تعالى : ليظهره على الدين كله [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 33 ] .
[ و قد ورد تفسيره في الحديث أنه الذي محيت به سيئات من اتبعه ] .
و قوله : و أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي اي على زماني و عهدي ، أي ليس بعدي نبي ، كما قال : و خاتم النبيين .
وسمي عاقباً ، لأنه عقب غيره من الأنبياء .
[ و في الصحيح : انا العاقب الذي ليس بعدي نبي ] .
و قيل : معنى على قدمي ، أي يحشر الناس بمشاهدتي ، كما قال تعالى : لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 143 ] .
[ و قيل : على قدمي : على سابقتي ، قال الله تعالى : أن لهم قدم صدق عند ربهم [ يونس / 10 ، الآية : 2 ] .
و قيل : على قدمي : أي قدامي ، وحولي ، أي يجتمعون إلي يوم القيامة .
و قيل على قدمي : على سنتي ] .
ومعنى قوله : لي خمسة أسماء : قيل : إنها موجودة في الكتب المتقدمة ، وعند أولى العلم من الأمم السالفة ، [ و الله أعلم ] .
و قد روي عنه صلى الله عليه و سلم : لي عشرة أسماء و ذكر منها : طه ، و يس ، حكاه محكي .
و قد قيل في بعض تفسير طه : إنه ياطاهر ياهادي . وفي يس : يا سيد ، حكته السلمي عن الواسطي ، وجعفر بن محمد .
و ذكر غيره : لي عشرة أسماء فذكر الخمسة التي في الحديث الأول ، قال : و أنا رسول الرحمة و رسول الراحة ، و رسول الملآحم ، وأنا المقتفي ، قفيت النبيين .
و أنا قيم ، و القيم : الجامع الكامل ، كذا و جدته ، و لم أروه .
و أرى أن صوابه قثم ـ بالثاء كما ذكرناه بعد عن الحربي ، و هو أشبه بالتفسير .
و قد وقع أيضاً في كتب الأنبياء : قال داود عليه السلام : اللهم ابعث لنا محمد اًمقيم السنة بعد الفترة ، فقد يكون القيم بمعناه .
وروى النقاش عنه صلى الله عليه و سلم : لي في القرآن سبعة أسماء : محمد ، و أحمد و يس ، و طه ، و المدثر ، و المزمل ، و عبد الله .
[ و في حديث ـ عن جبير بن مطعم رضي الله عنه : هي ست : محمد ، و أحمد ، و خاتم ، و عاقب ، و حاشر ، و مالح ] .
و في حديث أبي موسى الأشعري ـ أنه ك ان صلى الله عليه و سلم يسمي لنا نفسه أسماء ،فيقول : أنا محمد و أحمد ،و المقفي ، و نبي التوبة ، و نبي الملحمة ، و نبي الرحمة .
و كل صحيح إن شاء الله .
و معنى المقفي معنى القالب .
و أما نبي الرحمة و التوبة ، و المرحمة و الراحة ـ فقال تعال : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، و كما و صفه بأنه يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة . و يهديهم إلى صراط مستقيم . و بالمؤمنين رؤوف رحيم [ سورة التوبة /9 ، الآية 128 ] .
و قال في صفة أمته :أنها أمة مرحومة .
و قال الله تعاى فيهم : وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ، أي يرحم بعضهم بعضاً ، فبعثه ربه تعالى رحمة لأمته و رحمة للعالمين ،و رحيماً بهم ، و مرتحماً و مستغفراً لهم ، و جعل أمته مرحومة ، و وصقها بالرحمة .
و أمرها الله بالتراحم ، فقال و أثنى عليه فقال : إن الله يحب من عباده الرحماء
. و قال الراحمون يرحمهم الرحمن . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
و أما رواية نبي الملحمة فإشارة إلى عليه السلاما بعث به من القتال و السيف ـص ، و هي صحيحة .
و روى حذيفة مثل حيث أبي موسى ، و نبي الرحمة ، و نبي الملاحم .
و رو ي الحربي في حديثه صلى الله عليه و سلم أنه قال : أتاني ملك فقال لي : أنت قثم أي مجتمع . قال : و القثم :الجامع للخير ، و هذا اسم هو في أهل بيته معلوم .
و قد جاءت من ألقابة ـ صلى الله عليه و سلم و سماته في القرآن عدة كثيرة سوى ما ذكرناه ، كالنور ، و السراج المنير ، و المنذرو النذير ، و المبشر و البشير ، و الشاهد ،و الشهيد ، و الحق المبين ، و خاتم النبيين ،و الرؤوف الرحيم ، و الأمين ، و قدم الصدق [80] ، و رحمة للعالمين ،و نعمة الله و العروة الوثقى ، و الصراط المستقيم ، و النجم الثاقب و الكريم،و النبي الأمي ،و الداعي الله ـ في أوصاف كثيرة ،و سمات جميلت .
و جرى منها في كتب الله المتقدمة ، و كتب أنبيائه ، و أحاديث رسوله ، و إطلاق الأمة جملةشافية، كتسمية بالمصطفى ، و المجتبى ،و أبي القاسم ، و الحبيب ،و رسول رب العالمين، و الشفيع المشفع ، و المتقي ،و المصلح ، و الطاهر ، و المهين ن و الصادق ،و المصدوق ، و الهادي ن و سيد و لد آدم ، و سيد المرسلين ، و إمام المتقين ،و قائدالغر المحجلين ، و حبيب الله ،و خليل الرحمن ،و صاحب الحوض المورود ، و الشقاعة ،و المقام المحمود ، و صاحب الوسيلة و الفضيلة و الدر جة الرفيعة ، و صاحب التاج ن و المعراج ، و اللواء ، و القضيب ، و راكب البراق ، و الناقة ، و النجيب ، و صاحب الحجة و السلطان ، و الخاتم ، و العلامة و البرهان ، و صاحب الهراوةو النعلين .
و من أسمائه في الكتب : المتوكل ، و المختار ، و مقيمالسنة ، و المقدس . [ وروح القدس ] ، وروح الحق ، و هو معنى البارقليط في الإنجيل .
و قال ثعلب : البارقليط : الذي يفرق بين الحق و الباطل .
و من أسمائه في الكتب السالفة ، ماذ ماذ ، و معناه طيب ، طيب ، و حمطايا ،و الحاتم ، و الحاتم ، حكاه الأحبار .
قال ثعلب : فالخاتم الذي ختم [= به ]الأنبياء . و الحاتم : أحسن الأنبياء خلقاً و خلقاً .
و يسمى بالسريانية : مشفع و المنحمنا ، و اسمه في التوراة أحيدـ روي ذلك عن ابن سيرين . و معنى صاحب القضيب ، أي السيف ، و قع ذلك مفسراً في الإنجيل ، قال : معه قضيب من حديد يقاتل به ، و أمته كذلك .
و قد يحمل على أنه القضيب الممشوق الذي كان يمسكه صلى الله عليه و سلم ، و هو اللآن عند الخلفاء .
و أما الهراوة التي وصف بها فهي في اللغة العصا ، و أراها ـ و الله أعلم ـ العصا المذكورة في حديث الحوض : أذود الناس عنه بعصايـى ـ لأهل اليمن .
و أما التاج فالمراد به العمامة ، و لم تكن حينئذ إلا للعرب ، و العمائ تيجان العرب .
و أوصافه و ألقابه ، و سماته في الكتب كثيرة ، و فيها ذكرناه منها مقنع إن شاء الله
[و كانت كنيتة المشهورة أبا القاسم .
وروي عن أنس أنه لما ولد إبراهيم جاءه جبريل فقال له : السلام عليك ياأبا إبراهيم ].

 

فصل
في تشريف الله تعالى له بما سماه من أسمائه الحسنى و وصفه به من صفاتة العلا

 

قال القاضي أبو الفضل وفقه الله تعالى : ما أحرى هذا الفصل بفصول الباب الأول ، لانخراطه في سلك مضمونها ، و امتزاجه بعذب معينها ، لكن لم يشرح الله الصدر للهداية إلى استنباطه ، و لا أنار الفكر لا ستخراج جوهره و التقاطه إلا عند الخوض في الفصل الذي قبله ، فرأينا أن نضيفه إليه ، و نجمع به شمله .
فاعلم أن الله تعالىخص كثيراً من الأنبياء بكرامة خلعها عليهم من أسمائه ، كتسمية إسحاق ، و إسماعيل بعليم ، و حليم ، و إبراهيم بحليم ، و نوح بشكور ، و عيسى و يحيى ببر موسى بكريم ، و قوى ، و يوسف بحفيظ عليم ، وأيوب بصابر ، و إسماعيل بصادق الوعد ، كما [ 81 ] الكتاب العزيز من مواضع ذكرهم .
و فضل محمداً صلى الله عليه و سلم : بأن حلاه منها في كتابه العزيز ، و على ألسنة أنبيائه بعدة كثيرة اجتمع لنا منها جملة بعد إعمال الفكر ، وإحضار الذكر ، إذ لم نجد من جمع منها فوق اسمين ، و لا من تفرغ فيها لتأليف فصلين .
و حررنا منها في هذا الفصل نحو ثلاثين اسماً ، و لعل الله تعالى ـ كما ألهم إلى ما علم منها و حققه ـ يتم النعمة بإبانة ما لم يظهره لنا الآن ، ويفتح غلقه .
فمن أسمائه تعالى : الحميد ، و معناه المحمود ، لأنه حمد نفسه ، و حمده عباده ، و يكون أيضاً بمعنى الحامد لنفسه و لأعمال الطاعات .
و سمى الله تعالى النبي صلى الله عليه و سلم محمداً ، و أحمد ، فمحمد بمعنى محمود ، و كذا وقع اسمه في زبور داود .
و أحمد بمعنى أكبر من حمد ، و أجل من حمد ، و أشار إلى نحو هذا حسان بقوله :
و شق له من اسمه ليجله      فذو العرش محمود و هذا محمد
و من أسمائه : الرؤوف الرحيم ، و هما بمعنى متقارب .
و قد سماه في كتابه بذلك ، فقال : بالمؤمنين رؤوف رحيم .
و من أسمائه تعالى الحق المبين . و معنى الحق : الموجود ، و المتحقق أمره ، و كذلك المبين ، أي البين أمره و إلهيته .
بان ، و أبان بمعنى واحد . و يكون بمعنى المبين لعباده أمر دينهم و معادهم .
و سمى النبي ـ صلى الله عليه و سلم بذلك في كتابه ، فقال : حتى جاءهم الحق ورسول مبين [ سورة الزخرف / 43 ، الآية : 29 ] .
و قال تعالى : وقل إني أنا النذير المبين [ سورة الحجر / 15 ، الآية : 89 ] .
و قال تعالى : قد جاءكم الحق من ربكم [ سورة يونس / 10 ، الآي ة : 108 ] .
و قال : فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ، قيل : محمد . و قيل القرآن . و معناه هنا ضد الباطل ، و المتحقق صدقه و أمره ـ و هو بمعنى الأول .
و المبين : البين أمره و رسالته ، أو المبين عن الله ما بعثه به ، كما قال تعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم [ سورة النحل / 16 ، الآية : 44 ] .
و من أسمائه تعالى : النور، و معناه ذو النور ، أي خالقه ، أو منور السموات و الأرض بالأنوار ، ومنور قلوب المؤمنين بالهداية .
وسماه نور اً ، فقال : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ، قيل محمد . و قيل القرآن .
و قال فيه : وسراجا منيرا ، سمي بذلك لوضوح أمره ، و بيان نبوته ، و تنوير قلوب المؤمنينو العارفين بما جاء به .
و من أسمائه تعالى : الشهيد ، و معناه العالم . و قيل : الشاهد على عباده يوم القيامة .
وسماه شهيداً وشاهداً ، فقال : إنا أرسلناك شاهدا .
و قال تعالى : ويكون الرسول عليكم شهيدا ، و هو بمعنى الأول .
و من أسمائه تعالى : الكريم ، و معناه الكثير الخير .
و قيل : المفضل . و قيل العفو و قيل : العلي .
و في الحديث المروي في أسمائه تعالى : الأكرم .
وسماه تعالى كريماً بق وله : إنه لقول رسول كريم ، قيل : محمد . و قيل : جبريل .
و قال صلى الله عليه و سلم : أنا أكرم ولد آدم .
و معاني الاسم صحيحة في حقه صلى الله عليه و سلم .
و من أسمائه تعالى : العظيم ، و معناه الجليل الشأن ، الذي كل شيء دونه .
و قال في النبي صلى الله عليه و سلم : وإنك لعلى خلق عظيم [ سورة القلم / 68 ، الآية : 4 ] .
و وقع في أول سفر من التوراة ـ عن إسماعيل : وستلد عظيماً لأمة [ 82 ] عظيمة ، فهو عظيم و على خلق عظيم .
و من أسمائه تعالى : الجبار ، و معناه المصلح ، و قيل القاهر . و قيل العلي العظيم الشأن . و قيل المتكبر .
وسمي النبي صلى الله عليه و سلم في كتاب داود بجبار ، فقال : تقلد أيها الجبار سيفك ، فإن ناموسك و شرائعك مقرونة بهيبة يمينك .
و معناه في حق النبي صلى الله عليه و سلم : إما لإصلاحه الأمة بالهداية و التعليم ، أو لقهره أعداءه ، أو لعلو منزلته على البشر ، و عظيم خطره .
و نفى عنه تعالى ـ في القرآن ـ جبرية التكبر التي لا تليق به ، فقال : وما أنت عليهم بجبار [ سورة ق /50 ، الآية : 45 ] .
و من أسمائه تعالى : الخبير ، و معناه المطلع بكنه الشيء ، العالم بحقيقته . و قيل معناه المخبر .
و قال الله تعالى : الرحمن فاسأل به خبيرا [ سورة الفرقان / 25 ، الآية : 59 ] .
و قال القاضي بكر بن العلاء : المأمور بالسؤال غير النبي صلى الله عليه و سلم . و المسؤول الخبير هو النبي صلى الله عليه و سلم .
و قال غيره : بل السائل النبي صلى الله عليه و سلم . و المسؤول هو الله تعالى ، فالنبي خبير بالوجهين المذكورين ، قيل : لأنه عالم على غاية من العلم بما أعلمه الله من مكنون علمه ، و عظيم معرفته ، مخبر لأمته بما أذن له في إعلامهم به .
و من أسمائه تعالى : الفتاح ، و معناه الحاكم بين عباده ، أو فاتح أبواب الرزق و الرحمة ، و المنغلق من أمورهم عليهم ، أو يفتح قلوبهم و بصائرهم لمعرفة الحق ، و يكون أيضاً بمعنى الناصر ، كقوله تعالى : إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ، أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر ، و قيل : معناه مبتدئ الفتح و النصر .
و سمى الله تعالى محمداً صلى الله عليه و سلم بالفاتح في حديث الإسراء الطويل من رواية الربيع ابن أنس ، عن أبي العالية و غيره ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، و فيه : من قول الله تعالى : [ وجعلتك فاتحاً وخاتماً ] .
و فيه من قول النبي صلى الله عليه و سلم في ثنائه على ربه ، و تعديد مراتبه : [ و رفع لي ذكري ، و جعلني فاتحاً و خاتماً ] ، فيكون الفاتح هنا بمعنى الحاكم ، أو الفاتح لأبواب الرحمة على أمته ، أو الفاتح لبصائرهم لمعرفة الحق و الإيمان بالله ، أو الناصر للحق ، أو المبتديء بهداية الأمة ، أو المبدأ المقدم في الأنبياء و الخاتم لهم ، كما قال صلى الله عليه و سلم : كنت أول الأنبياء في الخلق ، و آخرهم في البعث .
و من أسمائه تعالى في الحديث : الشكور ، و معناه المثيب على العمل القليل . و قيل المثني على المطيعين ، و وصف بذلك نبيه نوحاً عليه السلام فقال : إنه كان عبدا شكورا [ سورة الإسراء / 17 ، الآية : 3 ] .
و قد وصف النبي صلى الله عليه و سلم نفسه بذلك ، فقال : أفلا أكون عبداً شكوراً أي معترفاً بنعيم ربي ، عارفاً بقدر ذلك ، مثنياً عليه ، مجهداً نفسي في الزيادة من ذلك ، لقوله تعالى : لئن شكرتم لأزيدنكم [ سورة إبراهيم / 14 ، الآية : 7 ] .
و من أسمائه تعالى : العليم ، و العلام . و عالم الغيب و الشهادة .
و وصفه نبيه صلى الله عليه و سلم بالعلم ، و خصه بمزية منه ، فقال تعالى : وع لمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [ سورة النساء 4 ، الآية : 113 ] .
و قال : ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون .
و من أسمائه تعالى : الأول ، و الآخر ، و معناهما السابق [ 83 ] للأشياء قبل و جودها ، و الباقي بعد فنائها .
و تحقيقه أنه ليس له أول و لا آخر .
و قال صلى الله عليه و سلم : كنت أول الأنبياء في الخلق ، و آخرهم في البعث . و فسر بهذا قوله تعالى : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ، فقدم محمداً صلى الله عليه و سلم .
و قد أشار إلى نحو منه عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
و منه قوله : ىنحن الآخرون السابقون .
و قوله : أنا أول من تنشق عنه الأرض ، و أول من يدخل الجنة ، و أول شافع ، و أول مشفع و هو خاتم النبيين ، و آخر الرسل صلى الله عليه و سلم .
و من أسمائه تعالى : القوي . و ذو القوة المتين ، و معناه : القادر .
و قد وصفه الله تعالى بذلك ، فقال : ذي قوة عند ذي العرش مكين ، قيل محمد . و قيل جبريل .
و من أسمائه تعالى : الصادق ، في الحديث المأثور .
و ورد في الحديث أيضاً اسمه صلى الله عليه و سلم بالصادق و المصد وق .
و من أسمائه تعالى : الولي ، و المولى ، و معناهما الناصر ، و قد قال الله تعالى : إنما وليكم الله ورسوله [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 55 ] .
و قال صلى الله عليه و سلم : أنا ولي كل مؤمن .
و قال الله تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 6 ] .
و قال صلى الله عليه و سلم : من كنت مولاه فعلي مولاه .
و من أسمائه تعالى : العفو ، و معناه الصفوح .
و قد وصف الله تعالى بهذا نبيه في القرآن ، و التوراة ، و أمره بالعفو ، فقال تعالى : خذ العفو [ سورة الأعراف / 7 ، الآية : 199 ] .
و قال : فاعف عنهم واصفح [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 12 ] .
و قال له جبريل ـ و قد سأله عن قوله : خذ العفو ، قال : أن تعفو عمن ظلمك .
و قال في التوراة و الإنجيل في الحديث المشهور ، في صفته : ليس بفظ و لا غليظ ، و لكن يعفو و يصفح .
و من أسمائه تعالى : الهادي ، و هو بمعنى توفيق الله لمن أراد من عباده ، و بمعنى الدلالة و الدعاء . قال الله تعالى : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . و أصل الجميع من الميل . و قيل : من ال تقديم .
و قيل في تفسير طه إنه يا طاهر ، يا هادي ، يعني النبي صلى الله عليه و سلم . و قال الله تعالى له : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ سورة الشورى / 42 ، الآية : 52 ] .
و قال فيه : وداعيا إلى الله بإذنه [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 46 ] .
فالله تعالى مختص بالمعنى الأول ، قال تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ سورة القصص / 28 ، الآية : 56 ] .
و بمعنى الدلالة ينطلق على غيه تعالى .
و من أسمائه تعالى : المؤمن المهيمن ، قيل : هما بمعنى واحد ، فمعنى المؤمن في حقه تعالى : المصدق وعده عباده ، و المصدق قوله الحق ، و المصدق لعباده المؤمنين ورسله . و قيل : الموحد نفسه . و قيل : المؤمن عباده في الدنيامن ظلمه ، و المؤمنين في الآخرة من عذابه .
و قيل : المهيمن بمعنى الأمين ، مصغر منه ، فقلبت الهمزة هاء .
و قد قيل : إن قولهم في الدعاء : آمين ـ إنه اسم من أسماء الله تعالى ، و معناه معنى المؤمن .
و قيل : المهيمن بمعنى الشاهد و الحافظ .
و النبي صلى الله عليه و سلم أمين ، و مهيمن ، و مؤمن ، و قد سماه الله تعالى أميناً ، فقال : مطاع ثم أمين [ سورة الت كوير/ 81 ، الآية : 21 ] .
و كان ـ صلى الله عليه و سلم ـ يعرف بالأمين ، و شهر به قبل النبوة و بعدها ، و سماه العباس ، في شعره مهيمناً في قوله [ 84 ] :
ثم احتوى بيتك المهيمن من      خندف علياء تحتها النطق
قيل : المراد : يأيها المهيمن ، قاله القتيبي ، و الإمام أبو القاسم القشيري .
و قال تعالى : يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ، أي يصدق .
و قال صلى الله عليه و سلم : أنا أمنة لأصحابي ، فهذا بمعنى المؤمن .
و من أسمائه تعالى : القدوس ، و معناه المنزه عن النقائص المطهر من سمات الحدث ، و سمي بيت المقدس ، لأنه يتطهر فيه من الذنوب ، و منه ، الوادي المقدس ، وروح القدس .
و وقع في كتب الأنبياء في أسمائه صلى الله عليه و سلم : المقدس ، أي المطهر من الذنوب ، كما قال تعالى : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 1 ] .
أو الذي يتطهر به من الذنوب ، و يتنزه باتباعه عنه ، كما قال : ويزكيهم .
و قال تعالى : ويخرجهم من الظلمات إلى النور [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 16 ] .
أو يكون مقدساً بمعنى مطهراً ، من الأخلاق الذميمة و الأوصاف ا لدنية .
و من أسمائه تعالى : العزيز ، و معناه : الممتنع الغالب ، أو الذي لا نظير له ، أو المعز لغيره ، و قال تعالى : ولله العزة ولرسوله ، أي الامتناع و جلالة القدر .
و قد وصف الله تعالى نفسه بالبشارة و النذارة ، فقال : يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 21 ] .
و قال : أن الله يبشرك بيحيى : و بكلمة منه [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 45 ] .
و سماه الله تعالى مبشراً، و نذيراً : أي مبشراً لأهل طاعته ، و نذيراً لأهل معصيته .
و من أسمائه تعالى فيما ذكره بعض المفسرين : طه ، و يس . و قد ذكر بعضهم أيضاً أنهما من أسماء محمد صلى الله عليه و سلم و شرف و كرم .


فصل
في بيان أن الله تعالى لا يشبه شيئاً من مخلوقاته

 

قال القاضي أبو الفضل : وفقه الله ، و هأنا أذكرنكتةً أذيل بها هذا الفصل ، و أختم بها هذا القسم ، و أزيح الإشكال بها فيما تقدم عن كل ضعيف الوهم ، سقيم الفهم ، تخلصه من مهاوي التشبيه ، و تزحزحه عن شبه التمويه ، و هو أن يعتقد أن الله تعالى جل اسمه في عظمته و كبريائه و ملكوته ، و حسنى أسمائه ، و علي صفاته ، لا يشبه شيئاً من مخلوقاته ، و لا يشبه به ، و أن ما جاء مما أطلقه الشرع على الخالق و على المخلوق ، فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي ، إذ صفات القديم بخلاف صفات المخلوق ، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات كذلك صفاته لا تشبه صفات المخلوقين ، إذ صفاتهم لا تنفك عن الأعراض و الأغراض ، و هو تعالى ـ منزه عن ذلك ، بل لم يزل بصفاته و أسمائه ، و كفى في هذا قوله : ليس كمثله شيء [ سورة الشورى / 42 ، الآية : 11 ] .
و لله در من قال من العلماء العارفين المحققين : التوحيد إثبات ذات غير مشبهة للذوات و لا معطة عن الصفات .
و زاد هذه النكتة الواسطي ـ رحمه الله ـ بياناً ، و هي مقصودنا ، فقال : ليس كذاته ذات ، و لا كأسمه اسم ، و لا كفعله فعل ، و لا كصفته صفة ، إلا من جهة موافقة اللفظ اللفظ ، و جلت الذات القديمة أن تكون لها صفة حديثة ، كما استحال أن تكون للذات المحدثة صفة قديمة .
و هذا كله مذهب أهل الحق و السنة و الجماعة رضي الله عنهم .
و قد فسر الإمام أبو القاسم القشيري رحمه الله ـ قوله [ 85 ] هذا ، ليزيد بياناً ، فقال : هذه الحكاية تشتمل على جوامع مسائل التوحيد ، و كيف تشبه ذاته ذات المحدثات ، و هي بوجودها مستغنية ، و كيف يشبه فعله فعل الخلق ، و هو لغير جلب أنس ، أو دفع نقص حصل ، و لا لخواطر و أغراض وجد ، و لا بمباشرة و معالجة ظهر ، و فعل الخلق لا يخرج عن هذه الوجوه .
و قال آخر ـ من مشايخنا : ما توهمتموه بأوهامكم ، أو أدركتموه بعقولكم فهو محدث مثلكم .
و قال الإمام أبو المعالي الجويني : من اطمأن إلى موجود انتهى إليه فكره ، فهو مشبه ، و من اطمأن إلى النفي المحض فهو معطل و إن قطع بموجود اعتراف بالعجز عن درك حقيقته فهو موحد .
و ما أحسن قول ذي النون المصري : حقيقة التوحيد أن تعلم أن قدرة الله تعالى في الأشياء بلا علاج ، وصنعه لها بلا مزاج ، وعلة كل شيء صنعه ، و لا علة لصنعه ، و ما تصور في      و همك فالله بخلاف ه .
و هذا كلام عجيب نفيس محقق ، و الفصل الآخر ، تفسير لقوله : ليس كمثله شيء [ سورة الشورى / 42 ، الآية : 11 ] .      
و الثاني، تفسير لقوله : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون و الثالث ، تفسير لقوله : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [ سورة النحل / 16 ، الآية : 40 ] .
ثبتنا الله و إياك على التوحيد و الإثبات ، و التنزيه ، و جنبنا طرفي الضلالة و الغواية من التعطيل و التشبيه بمنه ورحمته .




الباب الرابع
فيما أظهره الله تعالى على يديه من المعجزات و شرفه به من الخصائص و الكرامات

 


قال القاضي أبو الفضل : حسب المتأمل أن يحقق أن كتابنا هذا لم نجمعه لمنكر نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم ، و لا لطاعن في معجزاته ، فنحتاج إلى نصب البراهين عليها ، وتحصين حوزتها ، حتى لا يتوصل المطاعن إليها ، و نذكر شروط المعجز و التحدي و حده ، و فساد قول من أبطل نسخ الشرائع ، ورده ، بل ألفناه لأهل ملته ، الملبين لدعوته ، المصدقين لنبوته ، ليكون تأكيداً في محبتهم له ، و منماةً لأعمالهم ، و ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم .
و بنيتنا أن نثبت في هذا الباب أمهات معجزاته ، و مشاهير آياته ، لتدل ، على عظيم قدره عند ربه . و أتينا منها بالمحقق و الصحيح الإسناد ، و أكثره مما بلغ القطع ، أو كاد ، و أضفنا إليها بعض ما وقع في مشاهير كتب الأئمة .
و إذا تأمل المتأمل المنصف ما قدمناه من جميل أثره ، و حميد سيره ، و براعة علمه ، ورجاحة عقله و حلمه ، و جملة كماله ، و جميع خصاله ، و شاهد حاله ، و صواب مقاله ـ لم يمتر في صحة نبوته ، و صدق دعوته .
و قد كفى هذا غير واحد في إسلامه و الإيمان به .
فروينا عن الترمذي ، و ابن قانع وغيرهما بأسانيدهم ـ أن عبد الله بن سلام ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة جئته لأنظر إليه ، فلما استبنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب .
حدثنا به القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله ، قال : حدثنا أبو الحسين الصيرفي ، و أبو الفضل بن خيرون ، عن أبي يعلى البغدادي ، عن أبي علي [ 86 ] السنجي ، عن ابن محبوب ، عن الترمذي ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، و محمد بن جعفر ، و ابن أبي عدي ، و يحيى بن سعيد ، عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي ، عن زرارة ابن أوفى ، عن عبد الله بن سلام . . . الحديث .
و عن أبي رمثة التيمي : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم ، و معي ابن لي ، فأريته ، فلما رأيته قلت : هذا نبي الله .
و روى مسلم و غيره أن ضماداً لما وفد عليه ، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أن محمداً عبده ورسوله قال له : أعد علي كلماتك هؤلاء ، فلقد بلغن قاموس البحر هات يدك أبايعك .
و قال جامع بن شداد : كا ن رجل منا يقال له طارق ، فأخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم بالمدينة ، فقال : هل معكم شيء تبيعونه ؟ قلنا : هذا البعير . قال : بكم ؟ قلنا : بكذا و كذا و سقاً من تمر ، فأخذ بخطامه ، و سار إلى المدينة ، فقلنا : بعنا من رجل لا ندري من هو ، و معنا ظعينة ، فقالت : أنا ضامنة لثمن البعير ، رأيت وجه رجل مثل القمر ليلة البدر لا يخيس فيكم .
فأصبحنا ، فجاء رجل بتمر فقال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم إليكم ، يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر ، و تكتالوا حتى تستوفوا . ففعلنا .
و في خبر الجلندى ملك عمان ـ لما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعوه إلى الإسلام ـ قال الجلندى : و الله ، لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ، و لا ينهي عن شيء إلا كان أول تارك له ، و أنه يغلب فلا يبطر و يغلب فلا يضجر ، و يفي بالعهد ، و ينجر الموعود ، و أشهد أنه نبي .
و قال نفطويه ـ في قوله تعالى : يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار : هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم ، يقول : يكاد منظره يدل على نبوته و إن لم يتل قرآناً كما قال ابن رواح ة :
       لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
و قد آن أن نأخذ في ذكر النبوة و الوحي و الرسالة ، و بعده في معجزة القرآن ، و ما فيه من برهان و دلالة .

 

فصل
في أن الله قادر على خلق المعرفة في قلوب عباده

 

اعلم أن الله جل اسمه قادر على خلق المعرفة في قلوب عباده ، و العلم بذاته و أسمائه و صفاته و جميع تكليفاته ابتداء دون واسطة لو شاء ، كما حكي عن سنته في بعض الأنبياء ، و ذكره بعض أهل التفسير في قوله : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا [ سورة الشورى / 42 ، الآية : 51 ] .
و جائز أن يوصل إليهم جميع ذلك بواسطة تبلغهم كلامه ، و تكون تلك الواسطة ، إما من غير البشر ، كالملائكة مع الأنبياء أو من جنسهم ، كالأنبياء مع الأمم ، و لا مانع لهذا من دليل العقل .
و إذا جاز هذا و لم يستحل ، و جاءت الرسل بما دل على صدقهم من معجزاته وجب تصديقهم في جميع ما أتوا به ، لأن المعجزة مع التحدي من النبي صلى الله عليه و سلم قائم مقام قول الله : صدق عبدي فأطيعوه و اتبعوه ، و شاهد على صدقه فيما يقوله ، و هذا كاف .
و التطويل فيه خارج عن العرض [ 87 ] ، فمن أراد تتبعه وجده مستوفي في مصنفات أئمتنا رحمهم الله .
فالنبوة في لغة من همز مأخوذة من النبأ ، و هو الخبر ، و قد لا تهمز على هذا التأويل تسهيلاً
.
و المعنى أن الله تعالى أطلعه على غيبه ، و أعلمه أنه نب يه ، فيكون نبي منبأ فعيل بمعنى مفعول ، أو يكون مخبراً عما بعثه الله تعالى به ، و منبئاً بما أطلعه الله عليه فعيل بمعنى فاعل ، و يكون عند من لم يهمزه من النبوة ، و هو ما ارتفع من الأرض ، و معناه أن له رتبة شريفة ، و مكانة نبيهة عند مولاه منيفة ، فالوصفان في حقه مؤتلفان .
و أما الرسول فهو المرسل ، و لم يأت فعول بمعنى مفعل في اللغة إلا نادراً . و إرساله أمر الله بالإبلاغ إلى من أرسله إليه ، و اشتقاقه من التتابع ، و منه قولهم : جاء الناس أرسالاً ، إذا اتبع بعضهم بعضاً ، فكأنه ألزم تكرير التبليغ ، أو ألزمت الأمة اتباعه .
و اختلف العلماء : هل النبي و الرسول بمعنى ، أو بمعنيين ؟ فقيل : هما سواء ، و أصله من الإنباء و هو الإعلام ، و استدلوا بقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ، فقد أثبت لهما معاً الإرسال ، قال : و لا يكون النبي إلا رسولاً ، و لا الرسول إلا نبياً .
و قيل : هما مفترقان من وجه ، إذ قد اجتمعا في النبوة التي هي الاطلاع على الغيب و الإعلام بخواص النبوة أو الرفعة لمعرفة ذلك ، و حوز درجتها ، و افترقا في زيادة الرسالة للرسول ، و هو الأمر بالإنذار و الإعلام كما قل نا .
و حجتهم من الآية نفسها التفريق بين الإسمين ، و لو كانا شيئاً واحداً لما حسن تكرارهما في الكلام البليغ ، قالوا : و المعنى : ما أرسلنا من رسول إلى أمة أو نبي ليس بمرسل إلى أحد .
و قد ذهب بعضهم إلى أن الرسول من جاء بشرع مبتدإ ، و من لم يأت به نبي غير رسول ، و إن أمر بالإبلاغ و الإنذار .
و الصحيح ، و الذي عليه الجماء الغفير ، أن كل رسول نبي ، و ليس كل نبي رسولاً .
و أول الرسل آدم ، و آخرهم محمد صلى الله عليه و سلم .
و في حديث أبي ذر رضي الله عنه : إن الأنبياء مائة ألف و أربعة و عشرون ألف نبي .
و ذكر أن الرسل ، منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر ، أولهم آدم عليه السلام .
فقد بان لك معنى النبوة و الرسالة ، و ليستا عند المحققين ذاتاً للنبي ، و لا وصف ذات ، خلافاً للكرامية ، و في تطويل لهم ، و تهويل ، ليس عليه تعويل .
و أما الوحي فأصله الإسراع ، فلما كان النبي يتلقى ما يأتيه من ربه بعجل سمي وحياً ، و سميت أنواع الإلهامات وحياً ، تشبيهاً بالوحي إلى النبي ، و سمي الخط وحياً ، لسرعة حركة يد كاتبه ، و وحي الحاجب و اللحظ سرعة إشارتهما و منه قوله تعالى : فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ، أي أومأ و رمز . و قيل : كتب ، و منه قولهم : الوحا ، الوحا ، أي السرعة .
و قيل أصل الوحي السر و لإخفاء ، و منه سمي الإلهام وحياً ، و منه : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ، أي يوسوسون في صدروهم ، و منه قوله : وأوحينا إلى أم موسى ، أي ألقي في قلبها .
و قد قيل ذلك في قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا [ 88 ] ، أي ما يلقيه في قلبه دون واسطة .

 

فصل
في معنى تسمية من جاءت به الأنبياء معجزة

 

اعلم أن تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة ، هو أن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها ، و هي على ضربين : ضرب هو من نوع قدره البشر ، فعجزوا عنه ، فتعجيزهم عنه فعل لله دل على صدق نبيه ، كصرفهم عن تمني الموت . و تعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن على رأي بعضهم ، و نحوه .
و ضرب هو خارج عن قدرته ، فلم يقدروا على الإتيان بمثله ، كإحياء الموتى ، و قلب العصا حية ، و إخراج ناقة من صخرة ،و كلام شجرة ، و نبع الماء من الأصابع ، و انشقاق القمر ، مما لا يمكن أن يفعله أحد ، إلا الله ، فكون ذلك على يد النبي صلى الله عليه و سلم من فعل الله تعالى و تحديه من يكذبه أن يأتي بمثله تعجيز له .
و اعلم أن المعجزات التي ظهرت على يد نبينا صلى الله عليه و سلم دلا ئل نبوته و براهين صدقه ـ من هذين النوعين معاً ـ و هو أكثر الرسل معجرةً ، و أبهرهم آيةً، و أظهرهم برهاناً ، كما سنبينه ، و هي ـ في كثرتها ـ لا يحيط بها ضبط ، فإن واحداً منها ـ و هو القرآن ـ لا يحصى عدد معجزاته بألف و لا ألفين ، و لا أكثر ، لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد تحدى بسورة منه فعجز عنها .
قال أهل العلم : إنا أعطيناك الكوثر . فكل آية أو آيات منه بعددها و قدرها معجزة ، ثم فيها نفسها معجزات على ما سنفصله فيما انطوى عليه من المعجزات .
ثم معجزاته صلى الله عليه و سلم على قسمين : قسم منها علم قطعاً ، و نقل إلينا متواتراً كالقرآن ، فلا مرية ، و لا خلاف ، بمجيء النبي به ، و ظهوره من قبله ، و استدلاله بحجته ، و إن أنكر هذا معاند جاحد ، فهو كإنكاره وجود محمد صلى الله عليه و سلم في الدنيا .
و إنما جاء اعتراض الجاحدين في الحجة به ، فهو في نفسه و جميع ما تضمنه من معجز معلوم ضرورة .
و وجه إعجازه معلوم ضرورةً و نظراً ، كما سنشرحه .
قال بعض أئمتنا : و يجري هذا المجرى على الجملة أنه قد جرى على يديه صلى الله عليه و سلم آيات و خوارق عادات إن لم يبلغ واحد منها معيناً القطع فيبلغه جميعها ، فلا مرية في جريان معانيها على يديه ، و لا يختلف مؤمن و لا كافر ـ أنه جرت على يديه عجائب ، و إنما خلاف المعاند في كونها من قبل الله .
و قد قدمنا كونها من قبل الله ، و أن ذلك بمثابة قوله : صدقت .
فقد علم وقوع مثل هذا أيضاً من نبينا ضرورةً لاتفاق معانيها ، كما يعلم ضرورة جود حاتم ، و شجاعة عنترة ، و حلم أحنف ، لاتفاق الأخبار الواردة عن كل واحد منهم على كرم هذا، و شجاعة هذا ، و حلم هذا ، و إن كان كل خبر بنفسه لا يوجب العلم ، و لا يقطع بصحته .
و القسم الثاني ما لم يبلغ مبلغ الضرورة و القطع ، و هو على نوعين : نوع مشتهر منتشر ، رواه العدد ، و شاع الخبر به عند المحدثين و الرواة و نقلة السير و الأخبار ، كنبع الماء من بين الأصابع ، و تكثير الطعام .
و نوع منه اختص به الواحد و الإثنان ، و رواه العدد اليسير ، و لم يشتهر اشتهار غيره ، لكنه إذا جمع إلى مثله اتفقا في المعنى ، و اجتمعا على الإتيان بالمعجز ، كما قدمناه .
قال القاضي أبو الفضل [ 89 ] : و أنا أقول صدعاً بالحق : إن كثيراً من هذه لآيات المأثورة عنه صلى الله عليه و سلم معلومة بالقطع :
أما انشقاق القمر فالقرآن نص بوقوعه ، و أخبرعن و جوده ، و لا يعدل عن ظاهر إلا بدليل ، و جاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة ، و لا يوهن عزمنا خلاف أخرق منحل عرى الدين ، و لا يلتفت إلى سخافة مبتدع يلقي الشك على قلوب ضعفاء المؤمنين ، بل نرغم بهذا أنفه ، و ننبذ بالعراء سخفه .
و كذلك قصة نبع الماء ، و تكثير الطعام ـ رواها الثقات و العدد الكثير عن ا لجماء الغفير ، عن العدد الكثير من الصحابة .
و منها ما رواه الكافة عن الكافة متصلاً عمن حدث با من جملة الصحابة و إخبارهم أن ذلك كان في موطن اجتماع الكثير منهم في يوم الخندق ، و في غزوة بواط ، و عمرة الحديبية ، و غزوة تبوك ، و أمثالها من محافل المسلمين و مجمع العساكر ، و لم يؤثر عن أحد من الصحابة مخالفة للراوي فيما حكاه ، و لا إنكار لما ذكر عنهم أنهم رأوه كما رآه ، فسكوت الساكت منهم كنطق الناطق ، إذ هم المنزهون عن السكوت على باطل ، و المداهنة في كذب ، و ليس هناك رغبة و لا رهبةتمنعهم ، ولو كان ما سمعوه منكراً عندهم و غير معروف لديهم لأنكره ، كما أنكر بعضهم على بعض أشياء رواها من السنن و السير و حروف القرآن . و خطأ بعضهم بعضاً ، و وهمه في ذلك ، مما هو معلوم ، فهذا النوع كله يلحق بالقطعي من معجزاته لما بيناه .
و أيضاً فإن أمثال الأخبار التي لا أصل لها ، و بنيت على باطل ، لا بد بعد مرور الأزمان و تداول الناس و أهل البحث من انكشاف ضعفها ، و خمول ذكرها ، كما يشاهد في كثير من الأخبار الكاذبة ، و الأراجيف الطارئة . و أعلام نبينا هذه الواردة من طريق الأحاد لا تزداد مع مرور الزمان إلا ظهوراً ، و مع تداول الفرق ، و كثرة طعن العدو ، و حرصه على توهينها ، و تضعيف أصلها ، و اجتهاد الملحد على إطفاء نورها إلا قوة و قبولاً ، و للطاعنين عليها إلا حسرة و غليلاً .
و كذلك إخباره عن الغيوب ، و إنباؤه بما يكون و كان معلوم من آياته على الجملة بالضرورة .
و هذا حق لا غطاء عليه ، و قد قال به من أئمتنا القاضي ، و الأستاذ أبو بكر و غيرهما ، رحمهم الله ، و ما عندي أوجب قول القائل : إن هذه القصص المشهورة من باب خبر الواحد إلا قلة مطالعته للأخبار و روايتها ، و شغله بغير ذلك من المعارف ، و إلا فمن اعتنى بطرق النقل ، و طالع الأحاديث و السير لم يرتب في صحة هذه القصص المشهورة على الوجه الذي ذكرناه .
و لا يبعد أن يحصل العلم يالتواتر عند واحد و لا يحصل عند آخر ، فإن أكثر الناس يعلمون ـ بالخبر ـ كون بغداد موجودة ً ، و أنها مدينة عظيمة ، و دار الإمامة و الخلافة ، و آحاد من الناس لا يعلمون اسمها ، فضلاً عن وصفها ، و هكذا يعلم الفقهاء من أصحاب مالك بالضرورة و تواتر النقل عنه ـ أن مذهبه إيجاب قراءة [ 90 ] أم القرآن في الصلاة للمنفرد و الإمام ، وإجزاء النية في أول ليلة من رمضان عما سواه ، و أن الشافعي يرى ت جديد النية كل ليلة ، و الاقتصار في المسح على بعض الرأس ، و أن مذهبهما القصاص في القتل بالمحدد و غيره ، و إيجاب النية في الوضوء ، واشتراط الولي في النكاح ، و أن أبا حنيفة يخالفهما في هذه المسائل ، وغيرهم ممن لم يشتغل بمذاهبهم و لا روى أقوالهم لا يعرف هذا من مذاهبهم فضلاً عمن سواه .
و عند ذكرنا آحاد هذه المعجزات نزيد الكلام فيها بياناً إن شاء الله تعالى .


فصل
في إعجاز القرآن ـ الوجه الأول

 

[ قال القاضي أبو الفضل رحمه الله ]
اعلم ـ وفقنا الله و إياك ـ أن كتاب الله العزيز منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة ، و تحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه :
أولها : حسن تأليفة ، و التئام كلمه ، و فصاحته ، و وجوه إيجازه ، و بلاغته الخارقة عادة العرب ، و ذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن ، و فرسان الكلام ، قد خصوا من البلاغة و الحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم ، و أوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان ، و من فضل الخطاب ما يقيد الألباب جعل الله لهم ذلك طبعاً و خلقة ، و فيهم غريزة و قوة ، يأتون منه على البديهة بالعجب ، و يدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون بديهاً في المقامات ، و
شديد الخطب ، و يرتجزون به بين الطعن و الضرب ، و يمدحون و يقدحون ، و يتوسلون و يتوصلون ، و يرفعون و يضعون ، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال ، و يطوقون من أوصافهم أجمل من سمط اللآل ، فيخدعون الألباب ، و يذللون الصعاب ، و يذهبون الإحن ، و يهيجون الدمن ، و يجرئون الجبان ، و يبسطون يد الجعد البنان ، و يصيرون الناقص كاملاً و يتركون النبيه خاملاً .
منهم البدوي ذو اللفظ الجزل ، و الق ول الفصل ، والكلام الفخم ، و الطبع الجوهري ، و المنزع القوي .
و منهم الحضري ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، و الكلمات الجامعة ، و الطبع السهل ، و التصرف في القول القليل الكفلة ، الكثير الرونق ، الرقيق الحاشية .
و كلا البابين لهما في البلاغة الحجة البالغة ، و القوة الدامغة ، و القدح الفالج ،و المهيع الناهج ، ، لايشكون أن الكلام طوع مزادهم ، و البلاغةملك قيادهم ، قد حووا فنونها واستنبطوا عيونها ، و دخلوا من كل باب من أبوابها ، و علوا صرحاً لبلوغ أسبابها ، فقالوا في الخطير و المهين ، و تفننوا في الغث و السمين ، و تقاولوا في القل و الكثر ، و تساجلوا في النظم و النثر ، فما راعهم إلا رسول كريم ، بكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، أحمكت آياته ، و فصلت كلماته ، و بهرت بلاغته العقول ، و ظهرت فصاحته على كل مقول ، و تظافر إيجازه و إعجازه ، و تظاهرت حقيقته و مجازه ، و تبارت في الحسن مطالعه و مقاطعه [ 91 ] ، و حوت كل البيان جوامعه و بدائعه ، و اعتدل مع إيجازه حسن نظمه ، و انطبق على كثرة فوائده مختار لفظه ، وهم أفسح ما كانوا في الباب مجالاً ، و أشهر في الخطابة رجالاً ، و أكثر في السجع و الشعر سجالاً ، و أوسع في الغريب و اللغة مقالاً ، بلغتهم التي بها يتحاورون ، و منازعهم التي عنها يتناضلون ، صارخاً بهم في كل حين ، و مقرعاً لهم بضعاً و عشرين عاماً على رؤوس الملأ أجمعين : أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [ سورة يونس / 10 ، الآية : 38 ] .
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا . [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 23 ، 24 ] .
و قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ سورة الإسراء / 17 ، الآية : 88 ] .
و قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات . و ذلك أن المفتري أسهل و وضع الباطل و المختلق على الاختيار أقرب ، و اللفظ إذا تبع المعنى الصحيح كان أصعب ، و لهذا قيل : فلان يكتب كما يقال له ، و فلا يكتب كما يريد .
و للأول على الثاني فضل ، و بينهما شأو بعيد .
فلم يزل يقرعهم صلى الله عليه و سلم أشد التقريع ، و يوبخهم غاية التوبيخ ، و يسفه أحلامهم ، و يحط أعلامهم ، و يشتت نظامهم ، و يذم آلهتهم و آباءهم ، و يستبيح إرضهم و ديارهم و أموالهم ، و هم في كل هذا ناكصون عن معارضتيه ، محجمون عن مماثلته ، يخادعون أنفسهم بالتشغيب و التكذيب ، و الإغراء بالإفتراء ، و قولهم : إن هذا إلا سحر يؤثر ، و سحر مستمر ، و إفك افتراه ، و أساطير الأولين ، و المباهتة و الرضا بالدنية ، كقولهم : قلوبنا غلف [ سورة البقرة / 2 ، الآية : ( 88 ) . و سورة النساء / 4 ، الآية : 155 ] .
و في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب .
و لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون [ سورة فصلت / 41 ، الآية : 26 ] .
و الادعاء مع العجز بقولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 31 ] .
و قد قال لهم الله : و لن تفعلوا ، فما فعلوا و لا قدروا . و من تعاطى ذلك من سخفائهم ـ كمسيلمة ـ كشف عواره جميعهم ، و سلبهم الله ما ألفوه ، من فصيح كلامهم ، و إلا فلم يخف على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم ، و لا جنس بلاغتهم ، بل و لوا عنه مدبرين ، و أتوا مذعنين من بين مهتد و بين مفتون .
و لهذا لما سمع ال وليد بن مغيرة من النبي صلى الله عليه و سلم :
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [ سورة النحل / 16 ، الآية : 90 ] .
قال : و الله ، إن له لحلاوة ، و إن عليه لطلاوةً ، و إن أسفله لمغدق ، و إن أعلاه لمثمر ، ما يقول هذا بشر .
و ذكر أبو عبيد أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ :
فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين فسجد ، و قال : سجدت لفصاحته .
و سمع آخر رجلاً يقرأ :
فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا [ سورة يوسف / 12 ، الآية : 80 ] .
فقال : أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام .
و حكي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يوماً نائماً في المسجد فإذا هو بقائم على رأسه يتشهد شهادة الحق ، و استخبره ، فأعلمه أنه من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب و غيرها ، و أنه سمع رجلاً من أسرى المسلمين [ 92 ] يقرأ آية من كتابكم فتأملتها ، فإذا [ هي ] قد جمع فيها ما أنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا و الآخرة ، و هي قوله تعالى : ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [ سورة النور / 24 ، الآية : 52 ] .
و حكى الأصمعي أنه سمع كلام جارية ، فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك ! فقالت : أو يعد هذا فصاحةً بعد قول الله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ، فجمع في آية واحدة بين أمرين و نهيين ، و خبرين ، و بشارتين .
فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته ، غير مضاف إلى غيره على التحقيق و الصحيح من القولين .
و كون القرآن من قبل النبي صلى الله عليه و سلم ، و أنه أتى به ـ معلوم ضرورة ، و كونه ـ عليه السلام ـ متحدياً بع معلوم ضرورة ، و عجز العرب عن الإتيان بع معلوم ضرورة ، و كونه في فصاحته خارقاً للعادة معلوم ضرورة للعالمين بالفصاحة و وجوه البلاغة ، و سبيل من ليس من أهلها علم ذلك بعجز المفكرين من أهلها عن معارضته و اعتراف المفسرين بإعجاز بلاغته .
و أنت إذا تأملت قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 179 ] .
و قوله : ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب .
و قوله : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم .
و قوله : وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين [ سورة هود / 11 ، الآية : 44 ] .
و قوله : فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا [ سورة العنكبوت / 29 ، الآية : 40 ] .
و أشباهها من الآي ، بل أكثر القرآن حققت ما بينته من إيجار ألفاظها ، و كثرة معانيه ، و ديباجة عبارتها ، و حسن تأليف حروفها ، و تلاؤم كلمها ، و أن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة ، و فصولاً جمة ، و علوماً زواخر ، ملئت الدواوين من بعض ما استفيد منها ، و كثرت المقالات في المستنبطات عنها .
ثم هو في سرده القصص الطوال ، و أخبار القرون السوالف ، التي يضعف في عادة الفصحاء عندها الكلام ، و يذهب ماء البيان ـ آية لمتأمله ، من ربط الكلام بعضه ببعض ، و التئام سرده ، و تناصف وجوهه ، كقصة يوسف على طولها .
ثم إذا ترددت قصصه اختلفت العبارات عنها على كثرة ترددها حتى تكاد كل واحدة تنسي في البيان صاحبتها ، و تناصف في الحسن وجه مقابلتها ، و لا نفور للنفوس من ترديدها ، و لا معاداة لمعادها .

 

فصل
في إعجاز القرآن ـ الوجه الثاني

 

الوجه الثاني من إعجازه صورة نظمه العجيب ، و الأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب و مناهج نظمها و نثرها الذي جاء عليه ، و وقفت مقاطع آية ، و انتهت فواصل كلماته إليه ، و لم يوجد قبله و لا بعده نظير له ، و لا استطاع أحد مماثلة شيء منه ، بل حارت فيه عقولهم ، و تدلهت دونه أحلامهم ، و لم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم ، أو سجع أو رجز ، أو شعر .
و لما سمع كلامه صلى الله عليه و سلم الوليد بن المغيرة ، و قرأ عليه القرآن ـ رق ، فجاءه أبو جهل منكراً عليه [ 93 ] ـ قال : و الله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني ، و الله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا .
و في خبره الآخر ـ حين جمع قريشً عند حضور الموسم ، و قال : إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه رأياً ، لا يكذب بعضكم بعضاً ، فقالوا : نقول كاهن . قال : و الله ما هو بكاهن . ما هو بزمزمته و لا سجعه .
قالوا : مجنون : قال : ما ههو بمجنون ، و لا بخنقه و لا وسوسته .
قالوا : فنقول شاعر . قال : ماهو بشاعر . قد عرفنا الشعر كله ، رجزه ، و هزجه ، و قريضه ، و مبسوطه ، و مقبوضه ، ما هو بشاعر .
قالوا : فنقول ساحر . قال : ما هو بساحر ، و لا نفثه و لا عقده .
قالوا : فما نقول : قال : ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً ، إلا و أنا أعرف أنه باطل ، و إن أقرب القول أنه ساحر ، فإنه سحر يفرق بين المرء و ابنه ، و المرء و أخيه ، و المرء وزوجه ، و المرء و عشيرته .
فتفرقوا و جلسوا على السبل يحذرون الناس ، فأنزل الله تعالى في الوليد : ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر [ سورة المدثر / 74 ، الآية 11 ، 24 ] .
و قال عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن : يا قوم ، قد علمتم أني لم أترك شيئاً إلا و قد علمته و قرأته و قلته ، و الله لقد سمعت قولاً و الله ما سمعت مثله قط ، ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، و لا بالكهانة .
و قال النضر بن الحارث نحوه .
و في حديث إسلام أبو ذر و وصف أخاه أنيساً ، فقال : و الله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس ، لقد ناقض اثني عشر شاعراً في الجاهلية ، أنا أحدهم ، و إنه انطلق إلى مكة ، و جاء إ لى أبي ذر بخبر النبي صلى الله عليه و سلم . قلت : فما يقول الناس ؟ قال : يقولون : شاعر : كاهن ، ساحر ، لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، و لقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم ، و ما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر ، و إنه لصادق ، و إنهم لكاذبون .
و الأخبار في هذا صحيحة كثيرة .
و الإعجاز بكل واحد من النوعين : الإيجاز و البلاغة بذاتها ، أو الأسلوب الغريب بذاته ، كل واحد منهما نوع إعجازه على التحقيق ، لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما ، إذا كل واحد خارج عن قدرتها ، مباين لفصاحتها و كلامها ، و إلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين .
و ذهب بعض [ المحققين ] المقتدي بهم إلى أن الإعجاز في مجموع البلاغة و الأسلوب ، و أتى على ذلك بقول تمجه الأسماع ، و تنفر منه القلوب .
و الصحيح ما قدمناه ، و العلم بهذا كله ضرورة قطعاً .
و من تفنن في علوم البلاغة ، و أرهف خاطره و لسانه أدب هذه الصناعة لم يخف عليه ما قلناه .
و قد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه ، فأكثرهم يقول : إنه ما جمع في قوة جزالته ، و نصاعة ألفاظه ، و حسن نظمه ، و إيجازه ، و بديع تأليفه و أسلوبه لا يصح أن يكون في مقدور البش ر ، و أنه من باب الخوارق الممتنعة عن إقدار الخلق عليها ، كإحياء الموتى ، و قلب العصا ، و تسبيح الحصى .
و ذهب الشيخ أبو الحسن إلى أن مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ، و يقدرهم الله عليه ، و لكنه لم يكن هذا و لا يكون ، فمنهم الله هذ1 [ 94 ] ، و عجزهم عنه .
و قال به جماعة من أصحابه .
و على الطريقين فعجز العرب عنه ثابت ، و إقامة الحجة عليهم بما يصح أن يكون في مقدور البشر ، و تحديهم بأن يأتوا بمثله ـ قاطع ، و هو أبلغ في التعجيز ، و أحرى بالتقريع ، و الإحتجاج بمجيء بشر مثلهم بشيء ليس من قدرة البشر لا زم ، و هو أبهر آية ، و أقمع دلالة .
و على كل حال فما أتوا في ذلك بمقال ، بل صبروا على الجلاء ، و القتل ، و تجرعوا كاسات الصغار و الذل ، و كانوا من شموخ الآنف ، و إباية الضيم ، بحيث لا يؤثرون ذلك اختياراً ، و لا يرضونه إلا اضطراراً ، و إلا فالمعارضة لو كانت من قدرهم ، الشغل بها أهون عليهم و أسرع بالنجح و قطع العذر و إفحام الخصم لديهم ، و هم ممن لهم قدرة على الكلام ، و قدوة في المعرفة به لجميع الأنام ، و ما منهم إلا من جهد جهده ، و استنفد ما عنده في إخفاء ظهوره ، و إطفاء نوره ، فما جلوا في ذلك خبيئةً من بنات شفاههم ، و لا أتوا بنطفة من معين مياههم ، مع طول الأمد ، و كثرة العدد ، و تظاهر الوالد و ما ولد ، بل أبلسوا فما نبسوا ، و منعوا فانقطعوا ، فهذان نوعان من إعجازه .

 

فصل
في إعجاز القرآن ـ الوجه الثالث

 

الوجه الثالث من الإعجاز ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات ، و ما لم يكن و لم يقع ، فوجد ، كما ورد ، و على الوجه الذي أخبر به ، كقوله تعالى : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 27 ] .
و قوله تعالى : وهم من بعد غلبهم سيغلبون [ سورة الروم / 30 ، الآية : 3 ] .
و قوله : ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 33 ] .
و قوله : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [ سورة النور / 24 ، الآية : 55 ] .
و قوله : إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [ سورة النصر / 110 ، الآية : 1 ، 3 ] .
فكان جميع هذا ، كما قال ، فغلبت الروم فارس في بضع سنين ، و دخل الناس في الإسلام أفواجاً ، فما مات صلى الله عليه و سلم و في بلاد العرب كلها موضع لم يدخ له الإسلام .
و استخلف الله المؤمنين في الأرض ، و مكن فيها دينهم ، و ملكهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب ، كما قال عليه السلام : زويت إلى الأرض ، فأريت مشارقها و مغاربها ، و سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها .
و قوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، فكان كذلك ، لا يكاد يعد من سعى في تغييره و تبديل محكمه من الملحدة و المعطلة ، لا سيما القرامطة ، فأجمعوا كيدهم و حولهم و قوتهم ، اليوم نيفاً على خمسمائة عام ، فما قدروا على إطفاء شيء من نوره ، و لا تغيير كلمة من كلامه ، و لا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه ، و الحمد لله .
و منه قوله : سيهزم الجمع ويولون الدبر [ سورة القمر / 54 ، الآية : 45 ] .
و قوله : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 14 ] .
و قوله : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 33 ] .      
0و قوله: لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . فكان كل ذلك .
و ما فيه من كشف أسرار المنافقين و اليهود ، و مقالهم و كذبهم في حلفهم ، و تقريعهم بذلك ، كقوله : ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول .
و قوله : يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور .
و قوله ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ سورة المائدة / 5 الآية : 41 ] .
و قوله : من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين [95] [ سورة النساء / 4 ، الآية : 46 ] .
و قد قال مبدياً ، ما قدره الله واعتقده المؤمنين يوم بدر : وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم سورة الأنفال /8 ، الآية : 7 ] .
و منه قوله تعالى : إنا كفيناك المستهزئين [ سورة الحجر / 15 ، الآية : 95 ] .
و لما نزلت بشر النبي صلى الله عليه و سلم نذلك أصحابه بأن الله كفاه إياهم ، و كان المستهزئون نفراً بمكة ينفرون الناس عنه و يؤذونه فهلكوا .
و قوله والله يعصمك من الناس ، فكان كذلك على كثرة من رام ضره ، و قصد قتله ، و الأخبار بذلك معروفة صحيحة .

 

فصل
في إعجاز القرآن ـ الوجه الرابع

 

الوجه الرابع ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ، و الأمم البائدة ، و الشرائع الداثرة ، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أخبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك ، فيورده النبي صلى الله عليه و سلم على وجهه ، و يأتي به على نصه ، فيعترف العالم بذلك بصحته و صدقه ، و أن مثله لم ينله بتعليم .
و قد علموا أنه صلى الله عليه و سلم أمي لا يقرأ و لا يكتب ، و لا اشتغل بمدارسة و لا مثافنة ، و لم يغب عنهم ، و لا جهل حاله أحد منهم .
و قدكان أهل الكتاب كثيراًما يسألونه ـ صلى الله عليه و سلم ـ عن هذا ، فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكراً ، كقصص الأنبياء مع قومهم ، و خبر موسى و الخضر ، و يوسف و إخوته ، و أصحاب الكهف ، و ذي القرنين، و لقمان و ابنه ، و أشباه ذلك من الأنبياء [و القصص] ، و بدء الخلق و ما في التوراة ، و الإنجيل ، و الزبور ، و صحف إبراهيم و موسى ، مما صدقه فيه العلماء بها ، و لم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها ، بل أذعنوا لذلك ، فمن موفق آمن بما سبق له من خير ، و من شقي معاند حاسد ، و مع هذا لم يحك عن واحد من النصارى و اليهود على شدة عداوتهم له ، و حرصهم على تكذيبه ، و طول احتجاجه عليهم بما في كتبهم ، و تقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم ، و كثرة سؤالهم له صلى الله عليه و سلم ، و تعنيتهم إياه ـ عن أخبار أنبيائهم ، و أسرار علومهم ، و مستودعات سيرهم ، و إعلامه لهم بمكتوم شرائعهم و مضمنات كتبهم ، مثل سؤالهم عن الروح ، و ذي القرنين ، و أصحاب الكهف ، و عيسى ، و حكم الرجم و ما حرم إسرائيل على نفسه ، و ما حرم عليهم من الأنعام ، و من طيبات أحلت لهم فحرمت عليهم ببغيهم .
و قوله : ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 29 ] .
و غير ذلك من أمورهم التي نزل فيها القرآن ، فأجابهم و عرفهم بما أوحى إليه من ذلك أنه أنكر ذلك أو كذبه ، بل أكثرهم صرح بصحة نبوته ، و صدق مقالته ، و اعترف بعناده و حسدهم إياه ، كأهل بجران ، و ابن صوريا ، و ابني أخطب و غيرهم .
و من باهت في ذلك بعض المباهتة ، و ادعى أن فيما عندهم من ذلك لما حكاه مخالفةً ـ دعي إلى إقامة حجته ، و كشف دعوته ، فقيل له : قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين * فم ن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون .
فقرع و وبخ ، و دعا إلى إحضار ممكن غير ممتنع ، فمن معترف بما جحده ، و متواقح يلقي على فضيحته من كتابه يده .
و لم يؤثر أن واحداً منهم أظهر خلاف قوله من كتبه ، و لا أبدى صحيحاً و لا سقيماً من صفحه ، قال الله تعالى : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 15 ، 16 ] .

 

فصل
هذه الوجوه الأربعة من الإعجاز لا نزاع فيها و لا مرية

 

هذه الوجوه الأربعة من إعجازه بينة لا نزاع فيها و لا مرية .
و من الوجوه البينة في إعجازه من غير هذه الوجوه آي وردت بتعجيز قوم في قضايا ، و إعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا و لا قدروا على ذلك ، كقوله لليهود : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 94 ، 95 ] .
قال أبو إسحاق الزجاج : في هذه الآية أعظم حجة و أظهر دلالة على صحة الرسالة ، لأنه قال : فتمنوا الموت ، و أعلمهم أنهم لن يتمنوه أبداً ، فلم يتمنه واحداً منهم .
و عن النبي صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه يعني يموت مكانه .
فصرفهم الله عن تمنيه و جزعهم ، ليظهر صدق رسوله ، و صحة ما أوحي إليه ، إذا لم يتمنه أحد منهم ، و كانوا على تكذيبه أحرص لو قدروا ، و لكن الله يفعل ما يريد ، فظهرت بذلك معجزته ، و بانت حجته .
قال أبو محمد الأصيلي : من أعجب أمرهم أنه لا يوجد منهم جماعة ، و لا واحد ، من يوم أمر الله بذلك نبيه ـ يقدم عليه ، و لا يجيب إليه .
و هذا موجود مشاهد لمن أراد أن يمتحنه منهم .
و كذلك آية المباهلة من هذا المعنى ، حيث وفد عليه أساقفة نجران و أبوا الإسلام ، فأنزل الله تعالى عليه آية المباهلة بقوله : فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 61 ] .
فامتنعوا منها ، و رضوا بأداء الجزية ، و ذلك أن [ العاقب ] عظيمهم قال لهم : قد علمتم أنه نبي ، و أنه ما لاعن قوماً نبي قط فبقي كبيرهم و لا صغيرهم .
و مثله قوله : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا .
فأخبرهم أنهم لا يفعلون ، كما كان .
و هذه الآية أدخل في باب الإخبار عن الغيب ، و لكن فيها من التعجيز ما في التي قبلها .

 

فصل
من موجه الإعجاز : الروعة التي تلحق قلوب سامعي القرآن

 

و منها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه و أسماعهم عند سماعه ، و الهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله ، و إنافة خطره ، و هي على المكذبين به أعظم ، حتى كانوا يستثقلون سماعه ، و يزيدهم نفوراً ، كما قال تعالى ، و يودون انقطاعه لكراهتهم له .
و لهذا قال صلى الله عليه و سلم : إن القرآن صعب مستصعب على من كرهه ، و هو الحكم ، و أما المؤمن فلا تزال روعته به ، و هيبته إياه ، مع تلاوته ـ توليه انجذاباً ، و تكسبه هشاشة ، لميل قلبه إليه ، و تصديقه به ، قال تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ سورة الزمر / 39 ، الآية : 23 ] .
و قال : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ سورة الحشر / 59 ، الآية : 21 ] .
و يدل على أن هذا شيء خص به ـ أنه يعتري من لا يفهم معانيه ، و لا يعلم تفاسيره ، كما روي عن نصراني ـ أنه مر بقارئ ـ فوقف يبكي ، فقيل له : مم بكيت ؟ قال : للشجا و النظم .
و هذه الروعة قد اعترت جماعةً قبل الإسلام و بعده ، ف منهم من أسلم لها لأول و هلة و آمن به ، و منهم من كفر .
فحكي في الصحيح ، عن جبير بن مطعم ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآية : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ـ كاد قلبي أن يطير للإسلام .
و في رواية : و ذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي .
و عن عتبية بن ربيعة أنه كلم النبي صلى الله عليه و سلم فيما جاء به من خلاف قومه ، فتلا عليهم : حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون * قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون * قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم * فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [ سورة فصلت / 41 ، الآية : 1 ، 13 ] .
فامسك عتبة بيده على في النبي صلى الله عليه و سلم ، و ناشده الرحم أن يكف .
و في رواية : فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ و عتبة مصغ ملق يديه خلف ظهره ، معتمد عليهما ، حتى انتهى إلى السجدة ، فسجد النبي صلى الله عليه و سلم ، و قام عتبة لا يدري بما يراجعه ، و رجع إلى أهله ، و لم يخرج إلى قومه حتى أتوه ، فاعتذر لهم ، و قال : و الله لقد كلمني بكلام و الله ما سمعت أذناي بمثله قط فما دريت ما أقول له .
و قد حكي عن غير واحد ممن رام معارضته أنه اعترته روعة و هيبة كف بها عن ذلك .
فحكي أن ابن المقفع طلب ذلك و رامه ، و شرع فيه ، فمر بصبي يقرأ : وقيل يا أرض ابلعي ماءك ـ فرجع فمحا ما عمل ، و قال : أشهد أن هذا لا يعارض ، و ما هو من كلام البشر ، و كان من أفصح أهل وقته .
و كان يحيى بن حكم الغزال بليغ الأندلس في زمنه ، فحكي أنه رام شيئاً من هذا فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها ، و ينسج ـ بزعمه ـ على منوالها ـ قال : فاعترتني خشية ورقة حملتني على التوبة و الإنابة .

 

فصل
في وجهوه أخرى للإعجاز

 

و من وجوه إعجازه المعدودة كونه آيةً باقيةً لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه ، فقال : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ سورة الحجر / 15 ، الآية : 9 ] .
و قال : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .
و سائر معجزات الأنبياء انقضت بانقضاء أوقاتها ، فلم يبق إلا خبرها ، و القرآن العزيز ، الباهرة آياته ، الظاهرة معجزاته على ما كان عليه اليوم ـ مدة خمسمائة عام و خمس و ثلاثين سنةً لأول نزوله إلى و قتنا هذا ـ حجته قاهرة ، و معارضته ممتنعة ، و الأعصار كلها طافحة بأهل البيان ، و حملة علم اللسان ، و أئمة البلاغة ، و فرسان الكلام ، و جهابذة البراعة ، و الملحد فيهم كثير ، و المعادي للشرع عتيد ، فما منهم من أتى بشيء يؤثر في معارضته ، و لا ألف كلمتين في مناقضته ، و لا قدر فيه على مطعن صحيح ، و لا قدح المتكلف من ذهنه في ذلك إلا بزند شحيح ، بل المأثور عن كل من رام ذلك إلقاؤه في العجز بيديه ، و النكوص على عقبيه .

 

فصل
في وجوه أخرى للإعجاز

 

و قد عد جماعةً من الأثمة و مقلدي الأمة في إعجازه وجوهاً كثيرةً ، منها أن قارئه لا يمله ، و سامعه لا يمجه ، بل الإكباب على [ 97 ] تلاوته يزيد حلاوةً ، و ترديده يوجب له محبةً ، لا يزال غضاً طرياً ، و غيره من الكلام ـ و لو بلغ في الحسن و البلاغة مبلغه ـ يمل مع الترديد ، و يعادى إذا أعيد ، و كتابنا يستلذ به في الخلوات ، و يونس بتلاوته في الأزمات ، و سواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك ، حتى أحدث أصحابها لحوناً و طرقاً يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها .
و لهذا و صف رسول الله صلى الله عليه و سلم القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد ، و لا تنقضي عبره ، و لا تفنى عجائبه ، هو الفصل ليس بالهزل ، لا يشبع منه العلماء ، و لا تزيغ به الأهواء ، و لا تلتبس به الألسنة ، هو الذي لم تنته الجن حين سمعته أن قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد [ سورة الجن / 72 ، الآية : 1 ، 2 ] .
و منها جمعه لعلوم و معارف لم تعهد العرب عامةً و لا محمد صلى الله عليه و سلم قبل نبوته خاصة ، بمعرفتها ، و لا القيام بها ، و لا يحيط بها أحد من علماء الأمم ، و لا يشتمل عليها كتاب من ك تبهم ، فجمع فيه من بيان علم الشرائع ، و التنبيه على طرق الحجج العقليات ، و الرد على فرق الأمم ، ببراهين قوية ، و أدلة بينة سهلة الألفاظ ، موجزة المقاصد ، رام المتخذلقون بعد ـ أن ينصبوا أدلةً مثلها فلم يقدروا عليها كقوله تعالى : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم [ سورة يس / 36 ، الآية : 81 ] .
و : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ سورة يس / 36 ، الآية : 79 ] .
و : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ سورة الأنبياء / 21 ، الآية : 22 ] .
إلى ما حواه من علوم السير ، و أنباء الأمم ، و المواعظ ، و الحكم ، و أخبار الدار الآخرة ، و محاسن الآداب و الشيم .
قال الله ـ جل اسمه ـ : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ سورة الأنعام / 6 ، الآية : 38 ] .
و : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ سورة النحل / 16 ، الآية : 89 ] .
و : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل [ سورة الورم / 30 ، الآية : 58 ] .
و قال ـ صلى الله عليه و سلم : إن الله أنزل هذا القرآن آمراً و زاجراً ، و سنةً خاليةً ، و مثلاً مضروباً ، فيه نبؤكم ، و خبر ما كان قبلكم ، و نبأ ما ب عدكم ، و حكم ما بينكم ، لا يخلقه طول الرد ، و لا تنقضي عجائبه ، هو الحق ليس بالهزل ، من قال به صدق ، و من حكم به عدل ، و من خاصم به فلج ، و من قسم به أقسط ، و من عمل به أجر ، و من تمسك به هدي إلى صراط مستقيم ، و من طلب الهدى من غيره أضله الله ، و من حكم بغيره قصمه الله ، هو الذكر الحكيم ، و النور المبين ، و الصراط المستقيم ، و حبل الله المتين ، و الشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به ، و نجاة لمن اتبعه ، لا يعوج فيقوم ، و لا يزيغ فيستعتب ، و لا تنقضي عجائبه ، و لا يخلق على كثرة الرد .
و نحوه عن ابن مسعود ، و قال فيه : و لا يختلف و لا يتشانا ، فيه نبأ الأولين و الآخرين .
و في الحديث : قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم :إني منزل عليك توراة حديثة ، تفتح بها أعيناً عمياً ، و آذاناً صماً ، و قلوباً غلفاً ، فيها ينابيع العلم ، و فهم الحكمة ، و ربيع القلوب .
و عن كعب : عليكم بالقرآن ، فإنه فهم العقول ،و نور الحكمة .
و قال الله تعالى : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون [ سورة النمل / 27 ، الآية : 76 ] .
و قال : هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمت قين [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 138 ] .
فجمع [98] فيه مع و جازة ألفاظه ، و جوامع كلمة أضعاف ما في الكتب قبله التي ألفاظها على الضعف منه مرات .
و منها جمعه فيه بين الدليل و مدلوله ، و ذلك أنه احتج بنظم القرآن ، و حسن رصفه و إيجازه و بلاغته ، و أثناء هذه البلاغة أمره و نهيه ، و وعده و وعيده ، فالتالي له يفهم موضع الحجة و التكليف معاً من كلام واحد و سورة منفردة .
و منها أن جعله في حيز المنظوم الذي لم يعهد ، و لم يكن في حيز المنشور ، لأن المنظوم أسهل على النفوس ، و أوعى للقلوب ، و أسمع في الآذان ، و احلى على الأفهام ، فالناس إليه أميل ، و الأهواء إليه أسرع .
و منها تيسيره تعالى حفظه لمتعلميه ، و تقريبه على متحفظيه ، قال الله تعالى : ولقد يسرنا القرآن للذكر [ سورة القمر / 54 ، الآية : 17 ] .
و سائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم ، فكيف الجماء على مرور السنين عليهم . و القرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة .
و منها مشاكلة بعض أجزائه بعضاً ، و حسن ائتلاف أنواعها ، و التئام أقسامها ، و حسن التخلص من قصة إلى أخرى ، و الخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه ، و انقسام السورة الواحدة إلى أمر و نهي ، و خبر واستخبار، و وعد و وعيد ، و إثبات نبوة ، و توحيد و تفريد ، و ترغيب و ترهيب ، إلى غير ذلك من فوائده ، دون خلل يتخلل فصوله .
و الكلام الفصيح إذا اعتروه مثل هذا ضعفت قوته ، و لانت جزالته ، و قل رونقه ، و تقلقت ألفاظه .
فتأمل أول [ص] ، و ما جمع فيها من أخبار الكفار و شقاقهم و تقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم ، و ما ذكرمن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه و سلم ، و تعجبهم مما أتى به ، و الخبر عن اجتماع ملئهم على الكفر و ما ظهر من الحسد في كلامهم ، و تعجيزهم و توهينهم ،و وعيدهم بخزي الدنيا و الأخرة ،و تكذيب الأمم قبلهم ،و إهلاك الله لهم ، و وعيد هؤلاء مثل مصابهم ، و تصبير النبي علىأذاهم و تسليته بكل ما تقدم ذكره ، ثم أخذ في ذكر داود و قصص الأنبياء ، كل هذا في أوجز كلام و أحسن نظام .
و منه الجملة الكثيرة التي انطوت عليها الكلمات القليلة ، و هذا كله و كثير مما ذكرنا أنه ذكر في إعجاز القرآن ، إلى و جوه كثيرة ذكرها الأئمة لم نذكرها ، إذ أكثرها داخل في باب بلاغته ، فلا يجب أن يعد فناً منفرداً في إعجازه ،إلا في باب تفضيل فنون البلاغة ، و كذلك كثير مما قدمنا ذكره عنهم يع د في خواصه و فضائله ، لا إعجازه .
و حقيقة الإعجاز الوجوه الأربعة التي ذكرنا ، فليعتمد عليها ، و ما بعدها من خواص القرآن و عجائبه التي لا تنقضي. و الله و لي التوفيق .

 

فصل
في انشقاق القمر و حبس الشمس

 

قال الله تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر [ سورة القمر / 54 ، الآية : 1 ، 2 ] .
أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي ، و إعراض الكفرة عن آياته ، و أجمع المفسرون و أهل السنة على وقوعه .
أخبرنا الحسين بن محمد [ 99 ] الحافظ من كتابه ، حدثنا القاضي سراج بن عبد الله ، حدثنا الأصيلي ، حدثنا المروزي ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحي ، عن شعبة ، و سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر، عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فرقتين : فرقة فوق الجبل ، و فرقة دونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اشهدوا .
و في رواية مجاهد :و نحن مع النبي صلى الله عليه و سلم .
و في بعض طرق الأعمش : و نحن بمنى .
و رواه أيضاً ـ عن ابن مسعود ـ الأسود ، و قال : حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر .
و رواه عنه مسروق ـ أنه كان بمكة ـ و زاد : فقال كفار قريش : سحركم ابن أبي كبشة !
فقال رجل منهم : إن محمداً إن كان سحر القمر فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض ، كلها ، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر : هل رأوا هذا ؟ فأتوا ، فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك .
و حكى السمرقندي عن الضحاك نحوه ، و قال : فقال أبو جهل : هذا سحر ، فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى تنظروا : أرأوا ذلك أم لا ؟
فأخبرأهل الآفاق أنهم رأوه منشقاً ، فقالوا ـ يعني الكفار : هذا سحر مستمر .
و رواه أيضاً ـ عن ابن مسعود ـ علقمة ، فهؤلاء أربعة عن عبد الله .
و قد رواه غير ابن مسعود ، كما رواه ابن مسعود ، منهم أنس ، و ابن عباس و ابن عمر ، و حذيفة ، و علي ، و جبير بن مطعم ، فقال علي ـ من رواية أبي حذيفة الأرحبي : انشق القمر و نحن مع النبي صلى الله عليه و سلم .
و عن أنس : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه و سلم أن يريهم آية ، فأراهم انشقاق القمر فرقتين حتى رأوا حراء بينهم .
رواه عن أنس قتادة .
و في رواية معمر و غيره ، عن قتادة ، عنه : أراهم القمر مرتين انشقاقه ، فنزلت : اقتربت الساعة وانشق القمر [ سورة القمر / 54 ، الآية : 1 ] .
و رواه عن جبير بن مطعم ابنه محمد و ابن ابنه جبير بن محمد .
و رواه عن ابن عباس عبيد الله بن عبد الله بن عتبة .
و رواه عن ا بن عمر مجاهد ، و رواه عن حذيفة أبو عبدالرحمن السلمي و مسلم بن أبي عمران الأزدي .
و أكثر طرق هذه اللأحاديث صحيحة ، و الآية مصرحة ، و لا يلتفت إلى اعتراض مخذول ، بأنه لو كان هذا لم يخف على أهل الأرض ، إذ هو شيء ظاهر لجميعهم ، إذ لم ينقل لنا عن أهل الأرض أنهم رصدوه تلك الليلة فلم يروه انشق ، و لو نقل إلينا عمن لا يجوز تمالؤهم ـ لكثرتهم ـ على الكذب ، لما كانت علينا به حجة ، إذ ليس القمر في حد واحد لجميع أهل الأرض ، فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على آخرين ، و قد يكون من قوم بضد ما هو من مقابليهم من أقطار الأرض ، أو يحول بين قوم و بينه سحاب أو جبال ، و لهذا نجد الكسوفات في بعض البلاد دون بعض ، و في بعضها جزئية ، و في بعضها كلية ، و في بعضها لا يعرفها إلا المدعوون لعلمها ، ذلك تقدير العزيز العليم .
و آية القمر كانت ليلاً ، و العادة من الناس بالليل الهدو و السكون و إيجاف الأبواب ، و قطع التصرف ، و لا يكاد يعرف من أمور [100] السماء شيئاً ، إلا من رصد ذلك ، واهتبل به
و لذلك ما يكون الكسوف القمري كثيراًفي البلاد ، و أكثرهم لا يعلم به حتى ينجز ، و كثيراً ما يحدث الثقات بعجائب يشاهدونها من أنوار و نجوم طوالع عظام تظهر في الأحيان بالليل في السماء ، و لا علم عند أحد منها .
و خرج الطحاوي ـ في مشكل الحديث ، عن أسماء بنت عميس من طريقين ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوحي إليه ، و رأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غربت الشمس ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أصليت ياعلي ؟ قال :لا .
فقال : اللهم إنه كان في طاعتك و طاعة رسولك فاردد عليه الشمس .
قالت أسماء : فرأيتها غربت ، ثم طلعت بعد ما غربت ، و وقفت على الجبال و الأرض ، و ذلك بالصهباء في خيبر .
قال و هذان الحديثان ثابتان و رواتهما ثقات .
و حكى الطحاوي أن أحمد بن صالح كان يقول : لا ينبغي لمن يكون سبيله العلم المتخلف عن حفظ حديث أسماء ، لأنه من علامات النبوة .
و روى يونس بن بكير في زيادة المغازي في روايته عن ابن إسحاق : اما أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أخبر قومه بالرفقة و العلامة التي في العير قالوا : متى تجيء ؟ قال : يوم الأربعاء ، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون و قد ولى النهار و لم تجيء ؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فزيد له في النهار ساعة ، و حبست عليه الشمس .

 

فصل
في نبع الماء من بين أصابعه و تكثيره بركة

 

[ قال المؤلف رحمه الله ] :
أما الأحاديث في هذا فكثيرة جداً .
روى حديث نبع الماء من أصابعه صلى الله عليه و سلم جماعة من الصحابة ، منهم أنس ، و جابر ، و ابن مسعود :
حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر الفقيه بقراءتي عليه ، حدثنا القاضي عيسى بن سهل ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ، حدثنا أبو عمر بن الفخار ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا يحيى ، حدثنا مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و حانت صلاة العصر ، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بوضوء ، فوضع رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك الإناء يده ، و أمر الناس أن يتوضئوا منه .
قال : فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه ، فتوضأ حتى توضئوا من عند آخرهم .
و رواه أيضاً ـ عن أنس ـ قتادة ، و قال : بإناء فيه ماء يغمر أصابعه أو لا يكاد يغمر .
قال : كم كنتم ؟ قال : كنا زهاء ثلاثمائة .
و في رواية عنه : و هم بالزوراء عند السوق .
و رواه أيضاً حميد ، و ثابت و الحسن ، عن أنس .
و في رواية حميد : قلت : كم كانوا ؟ قال : ثمانين .
و نحوه عن ثابت عنه .
و عنه أيضاً : و هم نحو من سبعين رجلاً .
و أما ابن مسعود ففي الصحيح من رواية علقمة : بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ليس معنا ماء ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم : اطلبوا من معه فضل ماء ، فأتى بماء فصبه في إناء ، ثم وضع كفه فيه ، فجعل الماء [ 101 ] ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و في الصحيح عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر رضي الله عنه : عطش الناس يوم الحديبية و رسول الله صلى الله عليه و سلم بين يديه ركوة ، فتوضأ منها ، و أقبل الناس نحوه ، و قالوا : ليس عندنا ماء إلا ما في ركوتك ، فوضع النبي صلى الله عليه و سلم يده في الركوة ، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون .
و فيه : فقلت : كم كنتم ؟ قالوا : لو كنا مائة ألف لكفانا ، كنا خمس عشرة مائة .
و روي مثله عن أنس ، عن جابر ، و فيه أنه كان بالحديبية .
و في رواية الوليد بن عبادة الصامت عنه ، في حديث مسلم الطويل في ذكر غزوة بواط قال :
قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا جابر ، ناد ، الوضوء . . . و ذكر الحدي ث بطوله ، و أنه لم يجد إلا قطرة في عزلاء شجب ، فأتي به النبي صلى الله عليه و سلم ، فغمزه و تكلم بشيء لا أدري ما هو ، و قال : ناد بجفنة الركب ، فأتيت بها ، فوضعتها بين يديه ، و ذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم بسط يده في الجفنة ، و فرق أصابعه ، و صب جابر عليه ، و قال : بسم الله [ كما أمره صلى الله عليه و سلم ] ، قال : فرأيت الماء يفور من بين أصابعه ، ثم فارت الجفنة و استدارت حتى امتلأت ، و أمر الناس بالإستقاء ، فاستقوا حتى رووا .
فقلت : هل بقي أحد له حاجة ؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده من الجفنة و هي ملائ .
و عن الشعبي : أتي النبي صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره بإداوة ماء ، و قيل : ما معنا يا رسول الله ماء غيرها ، فسكبها في ركوة ، و وضع إصبعه و سطها ، و غمسها في الماء ، و جعل الناس يجيئون و يتوضئون ثم يقومون .
قال الترمذي و في الباب ، عن عمران بن حصين .
و مثل هذا في هذه المواطن الحفلة و الجموع الكثيرة لا تتطرق التهمة إلى المحدث به ، لأنهم كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه ، لما جبلت عليه النفوس من ذلك ، و لأنهم كانوا ممن لا يسكت على باطل ، فهؤلاء قد رووا هذا ، و أشاعوه ، و نسبوا حضور الجماء الغفير له ، و لم ينكر أحد من الناس عليهم ما حدثوا به عنهم أنهم فعلوا و شاهدوه ، فصار متصديق جميعهم له .

 

فصل
و مما يشبه هذا من معجزاته

 

و مما يشبه هذا من معجزاته تفجير الماء ببركته ، و انبعاثه بمسه و دعوته فيما روى مالك في الموطأ عن معاذ بن جبل في قصة غزوة تبوك ، و أنهم وردوا العين و هي تبض بشيء من ماء مثل الشراك ، فغرفوا من العين بأيديهم حتى اجتمع في شيء ، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه و جهه و يديه ، و أعادة فيها ، فجرت بماء كثير ، فاستقى الناس .
قال ـ في حديث ابن إسحاق : فانخرق من الماء ما له حس كحس الصواعق .
ثم قال : يوشك يا معاذ ، إن طالت بك حياة أن ترى ها هنا قد مليء جناناً .
و في حديث البراء ، و مسلمة بن الأكوع ـ و حديثه أتم ـ في قصة الحديبية ، و هم أربع عشرة مائة ، و بئرها لا تروي خمسين شاة ، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فقعد رسول الله صلى الله عليه و سلم على جباها .
قال البراء ، و أتي بدلو منها ، فبصق [ 102 ] فدعا .
و قال سلمة : فإما دعا ، و إما بصق فيها ، فجاشت ، فأرووا أنفسهم و ركابهم .
و في غير هذه الروايتين ـ في هذه القصة ـ من طريق ابن شهاب [ في الحديبية ] :
فأخرج سهماً من كنانته ، فو ضع في قعر قليب ليس فيه ماء ؟ فروي الناس حت ى ضربوا بعطن .
و عن أبي قتادة ـ و ذكر أن الناس شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم العطش في بعض أسفاره ، فدعا بالميضأة ، فجعلها في ضبنه ، ثم التقم فمها ، فالله أعلم ـ نفث فيها أم لا ، فشرب الناس حتى رووا و ملئوا كل إناء معهم ، فخيل إلي أنها كما أخذها مني ، و كانوا اثنين و سبعين رجلاً .
و روى مثله عمران بن حصين .
و ذكر الطبري حديث أبي قتادة على غير ما ذكره أهل الصحيح ـ و أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج بهم ممداً لأهل مؤتة عندما بلغه قتل الأمراء :
و ذكر حديثاً طويلاً فيه معجزات و آيات للنبي صلى الله عليه و سلم ، و فيه إعلامهم أنهم يفقدون الماء في غد .
و ذكر حديث الميضأة ، قال : و القوم زهاء ثلاثمائة .
و في كتاب مسلم أنه قال لأبي قتادة : احفظ علي ميضأتك ، فإنه سيكون لها نبأ .. و ذكر نحوه .
و من ذلك حديث عمران بن حصين حين أصاب النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه عطش في بعض أسفارهم ، فوجه رجلين من أصحابه ، و أعلمهما أنهما يجدان امرأةً بمكان كذا معها بعير عليه مزادتان . . . الحديث ، فوجداها و أتيا بها إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، فج عل في إناء من مزادتيها ، و قال فيه ما شاء الله أن يقول ، ثم أعاد الماء في المزادتين ، ثم فتحت عزاليهما ، و أمر الناس فملئوا أسقيتهم حتى لم يدعوا شيئاً إلا ملئوه .
قال عمران : و تخيل إلي أنهم لم تزدادا إلا امتلاءً ، ثم أمر فجمع للمرأة من الأزواد حتى ملأ ثوبها . و قال : اذهبي ، فإنا لم نأخذ من مائك شيئاً ، و لكن الله سقانا . . . الحديث بطوله .
و عن سلمة بن الأكوع : قال نبي الله صلى الله عليه و سلم : هل من وضوء ؟ فجاء رجل بإداوة فيها نطفة فأفرغها في قدح ، فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة أربع عشرة مائة . . . [ الحديث بطوله ] .
و في حديث عمر ـ في جيش العسرة : و ذكر ما أصابهم من العطش ، حتى إن الرجل لينحر بعيره ، فيعصر فرثه فيشربه ، فرغب أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه و سلم في الدعاء ، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فانسكبت ، فملئوا ما معهم من آنية ، و لم تجاوز العسكر .
و عن عمر بن شعيب ـ أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه و سلم ، و هو رديفه بذي المجاز : عطشت و ليس عندي ماء ، فنزل النبي صلى الله عليه و سلم ، و ضرب بقدمه الأرض ، فخرج الماء ، فقال : اشرب .
و الحديث في هذا الباب كثير ، و منه الإجابة بدعاء الاستسقاء و ما جانسه .


فصل
و من معجزاته تكثير الطعام و دعائه

 

حدثنا القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله ، حدثنا العذري ، حدثنا الرازي ، حدثنا الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا الحسن بن أعين ، حدثنا معقل ، عن أبي الزبير ، عن جابر ـ أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه و سلم [ 103 ] يستطعمه ، فأطعمه شطر وسق شعير ، فما زال يأكل منه و امرأته و ضيفه حتى كاله ، فأتى النبي صلى الله عليه و سلم ، فأخبره ، فقال : لو لم تكله لأكلتم منه و لقام بكم .
و من ذلك حديث أبي طلحة المشهور ، و إطعامه صلى الله عليه و سلم ثمانين أو سبعين رجلاً من أقراص من شعير جاء بها أنس تحت يده ، أي إبطه ، فأمر بها ففتت ، و قال فيهما ما شاء الله أن يقول .
و حديث جابر في إطعامه صلى الله عليه و سلم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير و عناق .
و قال جابر : فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه و انحرفوا ، و إن برمتنا لتغط كما هي ، و إن عجيننا ليخبز .
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بصق في العجين و البرمة ، و بارك .
رواه عن جابر سعيد بن ميناء ، و أيمن .
[ و عن ثابت مثله ، عن رجل من الأنصار و امر أته ، و لم يسمهما ، قال : و جيء بمثل الكف ، فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يبسطها في الإناء و يقول ما شاء الله ، فأكل منه من في البيت و الحجرة و الدار ، و كان ذلك قد امتلأ ممن قدم معه صلى الله عليه و سلم لذلك ، و بقي بعد ما شبعوا مثل ما كان في الإناء ] .
و حديث أبي أيوب أنه صنع لرسول الله صلى الله عليه و سلم و لأبي بكر من الطعام زهاء ما يكفيهما ، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ادع ثلاثين من أشراف الأنصار فدعاهم فأكلوا حتى تركوا ، ثم قال : ادع ستين فكان مثل ذلك ، ثم قال : ادع سبعين فأكلوا حتى تركوا ، و ما خرج منهم أحد حتى أسلم و بايع .
قال أبو أيوب : فأكل من طعامي مائة و ثمانون رجلاً .
و عن سمرة بن جندب : أتى النبي صلى الله عليه و سلم بقصعة فيها لحم ، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل ، يقوم قوم و يقعد آخرون .
و من ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي بكر : كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثين و مائة ، و ذكر في الحديث أنه عجن صاع من طعام ، و صنعت شاة ، فشوي سواد بطنها قال : و أيم الله ، ما من الثلاثين و مائة إلا وقد حز له حزةً من سواد بطنها ثم جعل منا قصعتين ، فأكل نا منها أجمعون ، و فضل في القصعتين ، فحملته على البعير .
و من ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، عن أبيه ، و مثله لسلمة بن الأكوع ، و أبي هريرة ، و عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فذكروا مخمصة أصابت الناس مع النبي صلى الله عليه و سلم في بعض مغازيه ، فدعا ببقية الأزواد ، فجاء الرجل بالحثية من الطعام ، و فوق ذلك ، و أعلاهم الذي أتى بالصاع من التمر ، فجمعه على نطع .
قال سلمة : فحزرته كربضة العنز ، ثم دعا الناس بأو عيتهم ، فما بقي في الجيش وعاء إلا ملئوه و بقي منه .
و عن أبي هريرة : أمرني النبي صلى الله عليه و سلم أن ادعو له أهل الصفة ، فتتبعتهم حتى جمعتهم ، فوضعت بين أيدينا صفحة ، فأكلنا ما شئنا ، و فرغنا و هي مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع .
و عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بني عبد المطلب ، و كانوا أربعين ، منهم قوم يأكلون الجذعة ، و يشربون الفرق ، فصنع لهم مداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا ، و بقي كما هو ، ثم دعا بعس ، فشربوا حتى رووا ، و بقي كأنه لم يشرب منه .
و قال أنس : إن النبي صلى الله عليه و سلم حين اب تنى بزينب أمره أن يدعو له قوماً سماهم ، و كل من لقيت ، حتى امتلأ البيت و الحجرة ، و قدم إليهم تورا ، فيه قدر [ 104 ] مد من تمر جعل حيساً ، فوضعه قدامه ، و غمس ثلاث أصابعه ، و جعل القوم يتغدون و يخرجون ، و بقي التور نحواً مما كان ، و كان القوم أحداً ، أو اثنين و سبعين .
و في رواية أخرى في هذه القصة أو مثلها ، إن القوم كانوا زهاء ثلاثمائة ، و أنهم أكلوا حتى شبعوا . و قال لي : ارفع ، فلا أدري حين وضعت كانت أكثر أم حين رفعت .
و في حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه ـ أن فاطمة طبخت قدراً لغذائها و وجهت علياً إلى النبي صلى الله عليه و سلم ليتغدى معهما ، فأمر فغرفت منها لجميع نسائه صفحةً صفحةً ، ثم له صلى الله عليه و سلم و لعلي ، ثم لها ، ثم رفعت القدر ، و إنها لتفيض ، قال : فأكلنا منها ما شاء الله .
و أمر عمر بن الخطاب أن يزود أربعمائة راكب من أحمس ، فقال : يا رسول الله ، ما هي إلا أصوع . قال : اذهب ، فذهب فزودهم منه ، و كان قدر الفصيل الرابض ، من التمر ، و بقي بحاله .
من ، رواية دكين الأحمسي ، و من رواية جرير .
و مثله من رواية النعمان بن مقرن الخبر بعينه ، إلا أنه قال : أربعمائة راكب من مزينة .
و من ذلك حديث جابر في دين أبيه بعد موته ، و قد كان بذل لغرماء أبيه أصل ماله ، فلم يقبلوه ، و لم يكن في تمرها سنين كفاف دينهم ، فجاءه النبي صلى الله عليه و سلم بعد أن أمره بجدها ، و جعلها بيادر في أصولها ، فمشى فيها ، و دعا ، فأوفى منه جابر غرماء أبيه ، و فضل مثل ما كانوا يجدون كل سنة .
و في رواية مثل ما أعطاهم ، قال : و كان الغرماء يهود ، فعجبوا من ذلك .
و قال أبو هريرة رضي الله عنه : أصاب الناس مخمصة . فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل من شيء قلت : نعم ، شيء من التمر في المزود . قال : فأتني به فأدخل يده فأخرج قبضة ، فبسطها و دعا بالبركة ، ثم قال : ادع عشرة فأكلوا حتى شبعوا ، ثم عشرة كذلك ، حتى أطعم الجيش كلهم و شبعوا . قال : خذ ما جئت به ، وأدخل يدك ، و اقبض منه و لا تكبه ، فقبضت على أكثر مما جئت به ، فأكلت منه و أطعمت حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أبي بكر ، و عمر ، إلى أن قتل عثمان ، فانتهب مني ، فذهب .
و في رواية: فقد حملت من ذلك التمر كذا و كذا من و سق في سبيل الله .
و ذكرت مثل هذه الحكاية في غزوة تبوك ، و أن التمر كان بضع عشرة تمرة .
و منه أيضاً حديث أبي هريرة حين أصابه الجوع ، فاستتبعه النبي صلى الله عليه و سلم ، فوجد لبناً في قدح قد أهدي إليه ، و أمره أن يدعو أهل الصفة .
قال : فقلت : ما هذا اللبن فيهم ؟ كنت أحق أن أصبي منه شربة أتقوى بها . فدعوتهم .
و ذكر أمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يسقيهم ، فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى ، ثم يأخذه الأخر حتى روي جميعهم .
قال : فأخذ النبي صلى الله عليه و سلم القدح ، و قال : بقيت أنا و أنت ، اقعد فاشرب فشربت ، ثم قال : اشرب و ما زال يقولها و أشرب حتى قلت : لا ، و الذي بعثك بالحق ، ما أجد له مسلكاً [ 105 ] ، فأخذ القدح فحمد الله و سمى و شرب الفضلة .
و في حديث خال بن عبد العزى أنه أجزر النبي صلى الله عليه و سلم شاةً ، و كان عيال خالد كثيراً يذبح الشاة فلا تبد عياله عظماً عظماً ، و إن النبي صلى الله عليه و سلم أكل من هذه الشاة و جعل فضلتها في دلو خالد ، و دعا له بالبركة ، فنثر ذلك لعياله ، فأكلوا و أفضلوا ـ ذكر خبره الدولابي .
و في حديث الآجري في إنكاح النبي صلى الله عليه و سلم لعلي فاطمة ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم أ مر بلالاً بقصعة من أربعة أمداد أو خمسة ، و يذبح جزوراً ليوليمتها ـ قال : فأتيته بذلك فطعن في رأسها ، ثم أدخل الناس رفقةً رفقةً يأكلون منها حتى فرغوا ، و بقيت منها فضلة ، فبرك فيها ، و أمر بحملها إلى أزواجه ، و قال : كلن و أطعمن من غشيكن .
و في حديث أنس : تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فصنعت أمي أم سليم حيساً ، فجعلته في تور ، فذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : ضعه ، و ادع لي فلاناً و فلاناً ، و من لقيت .
فدعوتهم ، و لم أدع أحداً لقيته إلا دعوته ، و ذكر أنهم كانوا زهاء ثلاثمائة حتى ملئوا الصفة و الحجرة ، فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم : تحلقوا عشرة عشرة ، و وضع النبي صلى الله عليه و سلم يده على الطعام ، فدعا فيه ، و قال ما شاء الله أن يقول ، فأكلوا حتى شبعوا كلهم ، فقال لي : ارفع فما أدري حين وضعت كانت أكثر أم حين رفعت .
و أكثر أحاديث هذه الفصول الثلاثة في الصحيح . و قد اجتمع على معنى حديث هذا الفصل بضعة عشر من الصحابة ، رواه عنهم أضعافهم من التابعين ، ثم من لا ينعد بعدهم .
و أكثرها في قصص مشهورة ، و مجامع مشهودة ، و لا يمكن التحدث عنها إ لا بالحق ، و لا يسكت الحاضر لها على ما أنكر منها .

 

فصل
في كلام الشجرة و شهادتها له بالنبوة و إجابتها دعوته

 

حدثنا أحمد بن محمد بن غلون الشيخ الصالح فيما أجاز فيه عن أبي عمر الطلمنكي ، عن أبي بكر بن المهندس ، عن أبي القاسم البغوي ، حدثنا أحمد بن عمران الأخنسي ، حدثنا أبو حيان التيمي ـ و كان صدوقاً ـ عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفره ، فدنا منه أعرابي ، فقال ، يا أعرابي ، أين تريد ؟ قال : إلى أهلي . قال : هل لك إلى خير ؟ قال : و ما هو ؟ قال : تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أن محمداً عبده و رسوله قال : من يشهد لك على ما تقول ؟ قال : هذه الشجرة السمرة ، و هي بشاطئ الوادي ، و ادعها فإنها تجيبك .
فأقبلت تخد الأرض حتى قامت بين يديه ، فاستشهدها ثلاثاً ، فشهدت أنه كما قال ، ثم رجعت إلى مكانها .
و عن بريدة : سأل أعرابي النبي صلى الله عليه و سلم آية ، فقال له : قل لتلك الشجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعوك .
قال : فمالت الشجرة عن يمينها و شمالها و بين يديها و خلفها ، فتقطعت عروقها ، ثم جاءت [ 106 ] تخد الأرض تجر مغبرةً حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقالت : السلام عليك يا رسول الله .
قال الأعرابي : مرها فلترجع إلى منبتها ، فرجعت ، فدلت عروقها فاستوت .
فقال الأعرابي : ائذن لي أسجد لك .
قال : لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها .
قال : فأذن لي أن أقبل يديك و رجليك ، فأذن له .
و في الصحيح أ في حديث جابر بن عبد الله الطويل : ذهب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقضي حاجته ، فلم ير شيئاً يستتر به ، فإذا بشجرتين في شاطىء الوادي ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى إحداهما ، فأخذ بغصن من أغصانها ، فقال : انقادي علي بإذن الله فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده .
و ذكر أنه فعل بالأخرى مثل ذلك ، حتى إذا كان بالمصنف بينهما قال : التئما علي بإذن الله فالتأمتا .
رواية أخرى : فقال : يا جابر ، قل لهذه الشجرة : يقول لك رسول الله صلى الله عليه و سلم : الحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما ففعلت ، فرجعت حتى لحقت بصاحبتها فجلس خلفهما ، فخرجت أحضر ، و جلست أحدث نفسي ، فالتفت فإذا برسول الله صلى الله عليه و سلم مقبلاً و الشجرتان قد افترقتا ، فقامت كل واحدة منهما على ساق ، فوق ف رسول الله صلى الله عليه و سلم و قفةً ، فقال برأسه هكذا يميناً و شمالاً .
و روى أسامة بن زيد نحوه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض مغازيه : هل تعني مكاناً لحاجة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقلت : إن الوادي ما فيه موضع بالناس . فقال : هل ترى من نخل أو حجارة ؟ قلت : أرى نخلات متقاربات . قال : انطلق و قل : لهن : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمركن أن تأتين لمخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و قل للحجارة مثل ذلك .
فقلت ذلك لهن ، فو الذي بعثه بالحق ، لقد رايت النخلات يتقاربن حتى اجتمعن ، و الحجارة يتعاقدن حتى صرن زكاماً خلقهن .
فلما قضى حاجته قال لي : قل لهن يفترقن ، فو الذي نفسي بيده لرأيتهن و الحجارة يفترقن حتى عدن إلى مواضعهن .
و قال يعلى بن سيابة : كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم في مسير . . . و ذكر نحواً من هذين الحديثين ، و ذكر : فأمر و ديتين فانضمتا . و في رواية : أشاءتين .
و عن غيلان بن سلمة الثقفي مثله : في شجرتين .
و عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله في غزاة حنين .
و عن يعلى بن مرة ـ و هو ابن سي ابة ـ أيضاً ، و ذكر أشياء رآها من رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فذكر أن طلحة أو سمرةً جاءت فأطافت به ، ثم رجعت إلى منبتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنها استأذنت أن تسلم علي .
و في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : آذنت النبي صلى الله عليه و سلم بالجن ليلة [ 107 ] استمعوا له ـ شجرة .
و عن مجاهد ، عن ابن مسعود في هذا الحديث : إن الجن قالوا : من يشهد لك ؟ قال : هذه الشجرة . تعالى يا شجرة ، فجاءت تجر عروقها لها قعاقع . . .
و ذكر مثل الحديث الأول أو نحوه .
قال القاضي أبو الفضل : فهذا ابن عمر ، و بريدة ، و جابر ، و ابن مسعود ، و يعلى بن مرة ، و أسامة بن زيد ، و أنس بن مالك ، و علي بن أبي طالب ، و ابن عباس ، و غيرهم ـ و قد اتفقوا على هذه القصة نفسها أو معناها .
و قد رواها عنهم من التابعين أضعافهم ، فصارت في انتشارها من القوة حيث هي .
و ذكر ابن فورك أنه صلى الله عليه و سلم سار في غزوة الطائف ليلاً ، و هو وسن ، فاعترضته سدرة ، فانفرجت له نصفين حتى جاز بينهما ، و بقيت على ساقين إلى وقتنا هذا ، و هي هناك معروفة معظمة .
و من ذلك حديث أنس رضي الله عنه ـ أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه و سلم ـ ورآه حزيناً : أتحب أن أريك آية ؟ قال : نعم فنظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى شجرة من وراء الوادي ، فقال : ادع تلك الشجرة ، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه .
قال : مرها فلترجع ، فعادت إلى مكانها .
و عن علي نحو هذا ، و لم يذكر فيها جبريل ، قال : اللهم أرني آية لا أبالي من كذبني بعدها فدعا شجرة ... و ذكر مثله .
و حزنه صلى الله عليه و سلم لتكذيب قومه و طلبه الآية لهم لا له .
و ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه و سلم أرى ركانة مثل هذه الآية في شجرة دعاها فأتت حتى وقفت بين يديه ، ثم قال : ارجعي ، فرجعت .
و عن الحسن أنه صلى الله عليه و سلم شكا إلى ربه من قومه و أنهم يخوفونه ، و سأله آية يعلم بها ألا مخافة عليه ، فأوحى إليه ائت وادي كذا فيه شجرة ، فادع غصنا منها يأتك . ففعل ، فجاء يخط الأرض خطا حتى انتصب بين يديه ، فحبسه ما شاء الله ، ثم قال له : [ ارجع كما جئت ] فرجع ، فقال : [ يا رب ، علمت أن لا مخافة علي ] .
و نحو منه عن عمر ، و قال فيه : أرني آية لا أبالي من كذبني بعدها ... و ذكر نحوه .
و عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه و سلم قال لأعرابي : [ أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله ؟ ] قال : نعم ، فدعاه فجعل ينقر حتى أتاه . فقال : ارجع فعاد إلى مكانه
و خرجه الترمذي ، و قال : هذا حديث صحيح .

 

فصل
في قصة حنين الجذع

 

و يعضد هذه الأخبار حديث أنين الجذع ، و هو في نفسه مشهور منتشر ، و الخبر به متواتر ، قد خرجه أهل الصحيح ، ورواه من الصحابة بضعة عشر ، منهم أبي بن كعب ، و جابر بن عبد الله ، و أنس بن مالك ، و عبد الله بن عمر ، و عبد الله بن عباس ، و سهل بن سعد ، و أبو سعيد الخدري و بريدة ، و أم سلمة ، و المطلب بن أبي وداعة ، كلهم يحدث بمعنى هذا الحديث .
قال الترمذي : و حديث أنس صحيح .
قال جابر بن عبد الله [ 108 ] : كان المسجد مسقوفاً على جذوع نخل ، فكان النبي صلى الله عليه و سلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها ، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار .
و في رواية أنس : حتى ارتج المسجد بخواره .
و في رواية سهل : وكثر بكاء الناس لما رأوا به .
و في رواية المطلب [و أبي ] : حتى تصدع وانشق ، حتى جاء النبي صلى الله عليه و سلم ، فوضع يده عليه فسكت .
زاد غيره : فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن هذا بكى لما فقد من الذكر .
و زاد غيره : والذي نفسي بيده : لو لم التزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة . تحزناً على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأمر به صلى الله عليه و سلم فدفن تحت المنبر .
كذا في حديث المطلب ، و سهل بن سعد ، و إسحاق ، عن أنس .
[ و في بعض الروايات عن سهل : فدفنت تحت منبره ، أو جعلت في السقف ] .
و في حديث أبي : فكان إذا صلى النبي صلى الله عليه و سلم إليه ، فلما هدم المسجد أخذه أبي ، فكان عنده إلى أن أكلته الأرض ، وعاد رفاتاً .
وذكر الإسفرايني أن النبي صلى الله عليه و سلم دعاه إلى نفسه ، فجاء يخرق الأرض ، فالتزمه ، ثم أمره فعاد إلى مكانه .
و في حديث بريده : فقال رسول الله النبي صلى الله عليه و سلم : إن شئت أدرك إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك ، و يكمل خلقك ، و يجدد لك خوص و ثمرة ، و إن شئت أغرسك في الجنة ، فيأكل أولياء الله من ثمرك . ثم أصغى له النبي صلى الله عليه و سلم يسمع ما يقول .
فقال : تغرسني في الجنة ، فيأكل مني أولياء الله ، و أكون في مكان لا أبلى فيه .
فسمعه من يليه .
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : قد فعلت ثم قال : اختار دار البقاء على دار الفناء .
فكان الحسن إذا حدث بهذا بكى ، و قال : يا عباد الله ، الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم شوقاً إليه لمكانه ، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه .
رواه ـ عن جابر ـ حفص بن عبيد الله و يقال : عبيد الله بن حفص ، و أيمن ، و أبو نضرة ، و ابن المسيب ، و سعيد بن أبي كرب ، و كريب ، و أبو صالح .
و رواه عن أنس بن مالك الحسن ، و ثابت ، و إسحاق بن أبي طلحة .
و رواه عن ابن عمر : نافع ، و أبو حية ، و رواه أبو نضرة ، و أبو الوداك ، عن أبي سعيد ، و عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس ، و أبو حازم ، و عباس بن سهل ، عن سهل بن سعد ، و كثير بن زيد عن المطلب ، و عبد الله بن بريدة عن أبيه ، و الطفيل بن أبي عن أبيه .
قال القاضي أبو الفضل : فهذا حديث كما تراه خرجه أهل الصحة ، و رواه من الصحابة من ذكرنا ، و غيرهم من التابعين ضعفهم ، إلى من لم نذكره ، و بمن دون هذا العدد يقع العلم لمن اعتنى بهذا الباب . و الله المثبت على الصواب .


فصل
و مثل هذا في سائر الجمادات

 

[ 109 ] حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى التميمي ، حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن المرابط ، حدثنا المهلب ، حدثنا أبو الحسن القابسي ، حدثنا المروزي ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم ،عن علقمة ، عن ابن مسعود ، قال : لقد كنا نسمع تسبيح الطعام و هو يؤكل .
و في غير هذه الرواية عن ابن مسعود : كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه و سلم الطعام و نحن نسمع تسبيحه .
و قال أنس : أخذ النبي صلى الله عليه و سلم كفا من حصى ، فسبحن في في يد رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى سمعنا التسبيح ، ثم صبهن في يد أبي بكر رضي الله عنه فسبحن ، ثم في أيدينا فما سبحن .
و روى مثله أبو ذر ، و ذكر أنهم سبحن في كف عمر و عثمان .
و قال علي كنا بمكة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فخرج إلى بعض نواحيها ما استقبله شجرة و لا جبل إلا قال له : السلام عليك يا رسول الله .
و عن جابر بن سمرة عنه صلى الله عليه و سلم : إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي . قيل : إنه الحجر الأسود .
و عن عائشة رضي الله عنها : لما استقبلني جبريل عليه السلام بالرسالة جعلت لا أمر بحجر و لا شجر إلا قال : السلام عليك يارسول الله .
و عن جابر بن عبد الله : لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يمر بحجر و لا شجر إلا سجد له .
و في حديث العباس ، إذا اشتمل عليه النبي صلى الله عليه و سلم و على بنيه ، بملاءة ، و دعالهم بالستر من النار كستره إياهم بملاءته ، فأمنت أسكفة الباب و حوائط البيت : آمين آمين.
و عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : مرض النبي صلى الله عليه و سلم فأتاه جبريل بطبق فيه رمان و عنب فأكل منه النبي صلى الله عليه و سلم ، فسبح .
و عن أنس : صعد النبي صلى الله عليه و سلم ، و أبو بكر ، و عمر ، و عثمان، أحداً ، فرجف بهم ، فقال : اثبت أحد ، فإنما عليك نبي و صديق ، و شهيدان .
و مثله عن أبي هريرة في حراء ، و زاد معه : علي و طلحة ، و الزبير ، و قال : فإنما عليك نبي ، أو صديق ،أو شهيد .
و الخبر في حراء أيضاً عن عثمان ، قال : و معه عشر من أصحابه أنا فيهم .
و زاد عبد الرحمن و سعداً ، قال : و نسيت الإثنين .
و في حديث سعيد بن زيد أيضاً مثله ، و زاد عشرة ، و زاد نفسه .
و قد روي أنه حين طلبته قريش قال له ثبير : اهبط يا رسول الله ، فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله .
فقال حراء : إلي يا رسول الله .
و روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ على المنبر : وما قدروا الله حق قدره ، ثم قال : يمجد الجبار نفسه ، أنا الجبار ، أنا الجبار ، أنا الكبير المتعال ، فرجف المنبر حتى قلنا : ليخرن عنه .
و عن ابن عباس : كان حول البيت ستون و ثلاثمائة صنم مثبته الأرجل بالرصاص بالحجارة ، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد عام الفتح جعل يشير بقضيب في يده إليها و لا يمسها و يقول : جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ، فما أشار إلى وجه صنم إلا وقع لقفاه ، و لا لقفاه إلا وقع لوجهه ، حتى ما بقي منها صنم .
و مثله في حديث ابن مسعود ، و قال : فجعل يطعنها و يقول : جاء الحق و ما يبدىء الباطل و ما يعيد .
و من ذلك حديثه مع الراهب في ابتداء أمره ، إذ خرج تاجراً مع عمه ، و كان الراهب لا يخرج لأحد ، فخرج يتخللهم ، حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : هذا سيد العالمين ، يبعثه الله رحمة للعالمين .
فقال له أشياخ من قريش : ما علمك ، فقال : إنه لم يبق شجر و لا حجر إلا خر ساجداً له ، و لا تسجد إلا لنبي ... و ذكر القصة ، ثم قال : فأقبل صلى الله عليه و سلم و عليه غمامة تظلله ، فلما دنا من القوم وجدهم سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلما جلس مال الفيء إليه .      

 

فصل
في الآيات في ضروب الحيوانات

 

حدثنا سراج بن عبد الملك ، حدثنا أبو الحسن الحاقظ ، حدثنا أبي ، حدثنا القاضي يونس ، قال : حدثنا أبو الفضل الصلقي ، حدثنا ثابت بن قاسم بن ثابت ، من أبيه و جده ، قالا حدثنا أبو العلاء أحمد بن عمران ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا يونس بن عمرو حدثنا مجاهد عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كان عندنا داجن ، فإذا كان عندنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قر و ثبت مكانه ، فلم يجيء و لم يذهب ،و إذا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم جاء و ذهب .
و روى عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي قد صاد ضباً ، فقال ، ما هذا ؟ قالوا : نبي الله . فقال : و اللات و العزى ، لا آمنت بك أو يؤمن هذا الضب ، و طرحه بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا ضب ، فأجابه بلسان مبين يسمعه القوم جميعاً : لبيك و سعديك يا زين من وافى القيامة .
قال : من تعبد ؟ قال : الذي في السماء عرشه ، و في الأرض سلطانه ، و في البحر سبيله ، و في الجنة رحمته ، و في النار عقابه .
قال : فمن أنا ؟ قال : رسول الله رب العالمين ، و خاتم النبيين ، و قد أفلح من صدقك ، و خاب من كذبك .
فأسلم الأعرابي .
و من ذلك قصة كلام الذئب المشهورة عن أبي سعيد الخذري :
بينا راع يرعى غنماً له عرض الذئب لشاة منها ، فأخذها الراعي منه ، فأقعى الذئب ، و قال للراعي : ألا تتقي الله ! حلت بيني و بين رزقي ! قال الراعي : العجب من ذئب يتكلم بكلام الإنس ! فقال الذئب : ألا أخبرك بأعجب من ذلك ؟ رسول الله بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق .
فأتى الراعي النبي الله فأخبره ، فقال النبي : قم فحدثهم ، ثم قال : صدق .
و الحديث فيه قصة ، و في بعضه طول .
و روي حديث الذئب عن أبي هريرة .
و في بعض الطرق عن ابي هريرة رضي الله عنه ، فقال الذئب : أنت أعجب ! و اقفاً على غنمك ، و تركت نبياً لم يبعث الله نبياً قط أعظم منه عنده [111] قدراً ، قد فتحت له أبواب الجنة ، و أشرف أهلها على أصحابه ، ينظرون قتالهم ، و ما بينك و بينه إ لا هذا الشعب ، فتصير من جنود الله .
قال الراعي : من لي بغنمي ؟ قال الذئب : أنا أرعاها حتى ترجع .
فأسلم الرجل إليه غنمه و مضى .
و ذكر قصته و إسلامه و وجوده النبي صلى الله عليه و سلم يقاتل ، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : عد إلى غنمك تجدها بوفرها .
فوجدها كذلك ، و ذبح الذئب شاة منها .
و عن أهبان بن أوس : و أنه كان صاحب القصة ، و المحدث بها و مكلم الذئب .
و عن سلمة بن عمرو بن الأكوع : و أنه كان صاحب هذه القصة أيضاً ، و سبب إسلامه بمثل حديث أبي سعيد.
و قد روى ابن وهب مثل أنه جرى لأبي سفيان بن حرب ، و صفوان بن أمية ، مع ذئب وجداه أخذ ظبياً ، فدخل الظبي الحرم ،فانصرف الذئب ، فعجبا من ذلك فقال الذئب : أعجب من ذلك من ذلك محمد بنعبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة و تدعونه إلى النار .
فقال أبو سفيان : و الات و العزى ، لئن ذكرت هذا بمكة لتتركنها خلوفاً
و قد روي مثل هذا الخبر ، و أنه جرى لأبي جهل و أصحابه .
و عن عباس بن مرداس لما تعجب من كلام ضمار صنمه ، و إنشاده الشعر الذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه و سلم ، فإذا طائر سقط ، فقال : ياعباس ، أتعجب من كلام ضمار ، و لا تعجب من نفسك ؟ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو إلى الإسلام و أنت جالس ، فكان سبب إسلامه .
و عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، عن رجل أتى النبي صلى الله عليه و سلم و آمن به و هو على بعض حصون خيبر ، و كان في غنم يرعاها لهم ، فقال يا رسول الله ، كيف بالغنم ؟
قال : احصب و جوهها ، فإن الله سيؤدي عنك أمانتك ، و يردها إلى أهلها .
ففعل ، فسارت شاة حتى دخلت إلى أهلها .
و عن أنس رضي الله عنه : دخل النبي صلى الله عليه و سلم حائط أنصاري و أبو بكر و عمر و رجل من الأنصار رضي الله عنهم ،و في الحائط غنم فسجدت له . فقال أبو بكر : نحن أحق بالسجود لك منها ... الحديث .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه :دخل النبي صلى الله عليه و سلم حائطاً ، فجاء بعير فسجد له ، و ذكر مثله .
و مثله في الجمل ، عن ثعلبة بن مالك ، و جابر بن عبد الله ، و يعلى بن مرة و عبد الله بن جعفر ، قال : و كان لايدخل أحد الحائط إلا شد عليه الجمل ، فلما دخل عليه النبي صلى الله عليه و سلم دعاه ، فوضع مشفره ، على الأرض ، وبرك بين يديه ، فخطمه ، و قال : ما بين السماء و الأرض شيء إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن و الإنس .
و مثله عن عبد الله بن أبي أوفى .
و في خبر آخر في حديث الجمل أن النبي صلى الله عليه و سلم سألهم عن شأنه ، فاخبروه أنهم أرادوا ذبحه .
و في رواية أن النبي صلى الله عليه و سل م قال لهم : إنه شكا كثرة العمل ، و قلة العلف من صغره فقالوا : نعم .
و قد روي في قصة العضباء و كلامها النبي صلى الله عليه و سلم ، و تعريفها له بنفسها ، و مبادرة العشب إليها في الرعي و تجنب الوحوش عنها ، و ندائهم لها : إنك لمحمد ، و إنها لم تأكل و لم تشرب بعد موته حين ماتت .
ذكره الإسفرايني .
و روى ابن و هب ، أن حمام مكة أظلت النبي صلى الله عليه و سلم يوم فتحها ، فدعا لها بالبركة .
و روي عن أنس ، و زيد بن أرقم ، و المغيرة بن شعبة ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ليلة الغار أمر الله شجرة ، فنبتت تجاه النبي صلى الله عليه و سلم فسترته ، و أمر حمامتين فوقفتا بفم الغار .
و في حديث آخر : وأن العنكبوت نسجت على بابه ، فلما أتى الطالبون له ، ورأوا ذلك قالوا : لو كان فيه أحد لم تكن الحمامتا ن ببابه و النبي صلى الله عليه و سلم يسمع كلامهم ، فانصرفوا .
و عن عبد الله بن قرط : قرب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بدنات خمس أو سبع ، لينحرها يوم عيد ، فازدلفن إليه بأيهن يبدأ .
و عن أم سلمة : كان النبي صلى الله عليه و سلم في صحراء ، فنادته ظبية ، يا رسول الله ، قال : ما حاجتك ؟ قالت : صادني هذا الأعرابي ، و لي خفشان في ذلك الجبل ، فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما و أرجع .
قال : و تفعلين ؟ قال : نعم . فأطلقها ، فذهبت و رجعت ، فأوثقها ، فانتبه الأعرابي و قال : يا رسول الله ، ألك حاجة ؟ قال : تطلق هذه الظبية فأطلقها فخرجت تعدو في الصحراء ، و تقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، و أنك رسول الله .
و من هذا الباب ماروي من تسخير الأسد لسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، إذا و جهه إلى معاذ باليمن فلقي الأسد فعرفه أنه مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم و معه كتابه ، فهمهم و تنحى عن الطريق ، و ذكر في منصرفه مثل ذلك .
و في رواية أخرى عنه ـ أن سفينة تكسرت به ، فخرج إلى جزيرة فإذا الأسد ، فقلت له : أنا مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فجعل يغمرني بمنكبه حتى أقامني على الطريق .
و أخذ ـ عليه السلام ـ بأذن شاة لقوم من عند القيس بين إصبعه ، ثم خلاها فصار لها ميسماً ، و بقي ذلك الأثر و في نسلها بعد .
و ما روي عن إبراهيم بن حماد بسنده من كلام الحمار الذي أصابه بخيبر ، و قال له : اسمي يزيد بن شهاب . .
فسماه النبي صل ى الله عليه و سلم يعفورا ، و أنه كان يوجهه إلى دور أصحابه ، فيضرب عليهم الباب برأسه ، و يستدعيهم ، و أن النبي صلى الله عليه و سلم لما مات تردى في بئر جزعاً و حزناً ، فمات .
و حديث الناقة التي شهدت عند النبي صلى الله عليه و سلم لصاحبها أنه ما سرقها ، و أنها ملكه .
و في العنز : التي أتت رسول الله صلى الله عليه و سلم في عسكره ، و قد أصابهم عطش ، و نزلوا على غير ماء ، و هم زهاء ثلاثمائة ، فحلبها رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأروى الجند ، ثم قال لرافع :
[ أملكها و ما أراك ] فربطها فوجدها قد انطلقت .
رواه ابن قانع و غيره ، و فيه : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الذي جاء بها هو الذي ذهب بها [ 113 ] .
و قال : لفرسه ـ عليه السلام ـ و قد قام إلى الصلاة في بعض أسفاره : لا تبرح ، بارك الله فيك حتى نفرغ من صلاتنا و جعله قبلته ، فما حرك عضواً حتى صلى صلى الله عليه و سلم .
[ و يلتحق بهذا ما رواه الواقدي ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما وجه رسله إلى الملوك ، فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد ، فأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم ] .
و الحدي ث في هذا الباب كثير ، و قد جئنا منه بالمشهور ، و ما وقع في كتب الأئمة .

 

فصل
في إحياء الموتى و كلامهم ، و كلام الصبيان و المراضع
و شهادتهم لهم بالنبوة صلى الله عليه و سلم

 

حدثنا أبو الوليد هشام بن أحمد الفقيه بقراءتي عليه ، القاضي أبو الوليد محمد بن رشد ، و القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى التميمي ، و غيره واحد سماعاً و إذاناً ، قالوا : حدثنا أبو علي الحافظ قال : حدثنا أبو عمر الحافظ ، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن يحي ، حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا ابن الأعرابي ...
حدثنا أبو داود ، حدثنا و هب بن بقية ، عن خالد ـ هو الطحان ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أن يهودية أهدت للنبي صلى الله عليه و سلم بخيبر شاة مصلية سمتها ، فأكل رسول الله صلى الله عليه و سلم منها ، و أكل القوم ، فقال : ارفعوا أيديكم ، فإنما أخبرتني أنها مسمومة .
فمات بشر بن البراء .
و قال لليهودية : ما حملك على ما صنعت ؟ قالت : إن كنت نبياً لم يضرك الذي صنعت ، و إن كنت ملكاً أرحت الناس منك .
قال : فأمربها فقتلت .
و قد روى هذا الحديث أنس ، و فيه : قالت : أردت قتلك . فقال : ماكان الله ليسلطك على ذلك .
فقالوا : نقتلها ؟
قال : لا
و كذالك رو ى عن أبي هريرة ـ من غير وهب ، قال : فما عرض لها .
و رواه أيضاً جابر بن عبد الله ، و فيه : أخبرني هذه الذراع قال : و لم يعاقبها .
و في رواية الحسن : أن فخذها تكلمني أنها مسمومة .
و في رواية أبي سلمة بن عبدالرحمن قالت : إني مسمومة .
و كذلك ذكر الخبر ابن إسحاق ، و قال فيه : فتجاوزعنها .
و في الحديث الآخر ، عن أنس ، قال : فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و في حديث أبي هريرة ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ـ في و جعه الذي مات فيه : ما زالت أكلة خيبر تعادني ، فالآن أوان قطعت أبهري .
و حكى ابن إسحاق : إن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة .
و قال ابن سحنون : أجمع أهل الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قتل اليهودية التي سمته .
و قد ذكرنا اختلاف الروايات في ذلك عن أبي هريرة ، و أنس ، و جابر .
و في رواية ابن عباس رضي الله عنهما ـ أنه دفعها لأولياء بشر بن البراء فقتلوها .
و كذلك قد اختلف في قتله للذي سحره ، قال الواقدي : و عفوه عنه أثبت عندها .
و روى الحديث البزار ، عن أبي سعيد ، فذكر مثله ، إلا أنه قال في آخره : فبسط يده و قال : كلوا بسم الله ، فأكلنا ، و ذكر اسم الله ، فلم تضر منا أحداً .
قال القاضي أبو الفيصل : و قد خرج حديث الشاة المسمومة أهل الصحيح ، و خرجه الأئمة ، و هو حديث مشهور .
و اختلف أئمة النظر في هذا الباب ، فمن قائل يقول : هو كلام يخلقه الله تعالى في الشاة [114] و يسمعها منها دون تغيير أشكالها ، و نقلهاعن هيئتها .
وهو مذهب الشيخ أبي الحسن ، و القاضي أبي بكر رحمهما الله .
و آخرون ذهبوا إلى إيجاد الحياة بها ، ثم الكلام بعده .
و حكي هذا أيضاً عن شيخنا أبي الحسن ، و كل محتمل ، و الله أعلم ، إذ لم نجعل الحياة شرطاً لوجود الحروف و الأصوات ، إذ لا يستحيل و جودها مع عدم الحياة بمجردها .
فأما إذا كانت عبارة عن الكلام النفسي فلا بد من شرط الحياة لها ، إذ لا يوجد كلام النفس إلا من حي ، خلافاً للجبائي من بين سائر متكلمي الفرق في إحالة و جود الكلام اللفظي و الحروف و الأصوات إلا من حي مركب على تركيب من يصح منه النطق بالحروف و الأصوات .
و التزم ذلك في الحصى ، و الجذع ، و الذراع ، و قال : إن الله خلق فيها حياة ، و خرق لها فماً ـ ولساناً ، وآلة أمكنها بها من الكلام .
و هذا لو كان لكان نقله و التهمم به آكد من التهمم بنقل تسبيحه أو حنينه ، و لم ينقل أحد من أهل السير و الرواية شيئاً من ذلك ، فدل على سقوط دعواه ، مع أنه لا ضرورة إليه في النظر ، و الموفق الله .
و روى وكيع ـ رفعه عن فهد بن عطية ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بصبي قد شب لم يتكلم قط ، فقال : من أنا ؟ فقال رسول الله .
و روي عن معرض بن معيقيب: رأيت من النبي صلى الله عليه و سلم عجباً ، جيء بصبي يوم ولد ... فذكر مثله .
و هو حديث مبارك اليمامة ، و يعرف بحديث شاصونه : اسم راوية ، و فيه : فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : صدقت بارك الله فيك .
ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها حتى شب ، فكان يسمى مبارك اليمامة .
و كانت هذه القصة بمكة في حجة الوداع .
و عن الحسن : أتى رجل النبي صلى الله عليه و سلم ، فذكر أنه طرح بنية له في وادي كذا ، فانطلق معه إلى الوادي ، و ناداها باسمها : يا فلانة ، أجيبي نإذن الله فخرجت و هي تقول : لبييك و سعديك ! فقال لها : إن أبويك قد أسلما ، فإن أحببت أن أدرك عليهما ؟ قالت : لا حاجة لي فيهما ، و جدت الله خيرا ً منهما .
و عن أنس أن شاباً من الأنصار توفي و له أم عجوز عمياء ، فسجيناه ، و عزيناه ، فقالت : مات ابني ؟ قلنا : نعم . قالت : اللهم إن كنت تعلم أني هاجرت إليك و إلى نبيك رجاء أن تعينني على كل شدة فلا تحملن علي هذه المصيبة .
فما برحنا أن كشف الثوب عن وجهه ، فطعم و طعمنا .
و روي عن عبد الله بن عبيد الله الأنصاري : كنت فيمن دفن ثابت بن قيس بن شماس ، و كان قتل باليمامة ، فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول : محمد رسول الله ، أبو بكر الصديق ، عمر الشهيد ، عثمان البر الرحيم ، فنظرنا فإذا هو ميت .
و ذكر عن النعمان بن بشير أن زيد بن خارجة خر ميتاً في بعض أزقة المدينة ، فرفع وسجي إذ سمعوه بين العشاءين و النساء يصرخن حوله يقول : أنصتوا ،أنصتوا ، فحسر عن و جهه ، فقال : محمد [115] رسول الله ، النبي الأمي ، و خاتم النبيين ، كان ذلك في الكتاب الأول ، ثم قال صدق ، صدق ، و ذكر أبا بكر ، وعمر ، و عثمان ، ثم قال : السلام عليك يا رسول الله ،ورحمة الله و بركاته ، ثم عاد ميتاً كما كان .

 

فصل
في إبراء المرضى و ذوي العاهات

 

أخبرنا أبو الحسن علي بن مشرف فيما أجازنيه و قرأته على غيره ، قال : حدثنا أبو إسحاق الحبال ، قال : حدثنا أبو محمد بن النحاس ، حدثنا ابن الورد ، عن البرقي ، عن ابن هشام ، عن زباد البكائي ، عن محمد بن إسحاق ، حدثنا ابن شهاب ، و عاصم بن عمر بن قتادة و جماعة ذكرهم بقضية أحد بطولها ، قال : و قالوا : قال سعد بن أبي وقاص : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليناولني السهم لا نصل له ، فيقول : ارم به و قد رمى رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ عن قوسه حتى اندقت، و أصيب يومئذ عين قتادة ـ يعني ابن النعمان ـ حتى و قعت على و جنته ، فردها رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فكانت أحسن عينيه .
و روى قصة قتادة عاصم بن عمر بن قتادة ، و يزيد بن عياض بن عمر بن قتادة .
و رواها أبو سعيد الخدري عن قتادة .
و بصق على أثر سهم في وجه أبي قتادة في يوم ذي قرد ، قال : فما ضرب علي و لا قاح .
و روى النسائي ، عن عثمان بن حنيف ـ أن أعمى قال : يا رسول الله ، ادعو الله أن يكشف لي عن بصري .
قال : [ فانطلق فتوضأ : ثم صلى ركعتين ، ثم قل ، اللهم إني أسألك و أتوجه إليك بنبي محمد نبي الرحمة ، يا محمد ، إني أتوجه بك إلى ربك أن يكشف عن بصري ، اللهم شفعه في ] .
قال : فرجع و قد كشف الله عن بصره .
و روي أن ابن الأسنة أصابه استسقاء ، فبعث إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، فأخذ بيده حثوة من الأرض ، فتفل عليها ، ثم أعطاها رسوله ، فأخذها متعجباً ، يرى أنه قد هزىء به ، فأتاه بها ، و هو على شفا ، فشربها ، فشفاه الله .
و ذكر العقيلي عن حبيب بن فديك ، و يقال فريك ـ أن أباه ابيضت عيناه ، فكان لا يبصر بهما شيئاً ، فنفث رسول الله صلى الله عليه و سلم في عينيه ، فأبصر ، فرأيته يدخل الخيط في الإبرة ، و هو ابن ثمانين .
و رمي كلثوم بن الحصين يوم أحد في نحره ، فبصق رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فبرأ .
و تفل على شجة عبد الله بن أنيس فلم تمد .
و تفل في عيني علي يوم خيبر ، و كان رمداً ، فأصبح بارئاً .
و نفث علي ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خيبر فبرئت ، و في رجل زيد بن معاذ حين أصابها السيف إلى الكعب ، حين قتل ابن الأشرف ، فبرئت . و على ساق علي ابن الحكم يوم الخندق إذا انكسرت ، فبرىء مكانه ، و ما نزل عن فرسه .
و اشتكى علي بن أبي طالب ، فجعل يدعو ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اشفه ، أو عافه ] ثم ضرب برجله ، فما اشتكى ذلك الوجع بعد .
و قطع أبو جهل يوم بدر يد معوذ بن عفراء [ 116 ] ، فجاء يحمل يده ، فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ألصقها فلصقت . رواه ابن وهب .
و من روايته أيضاً أن خبيب بن يساف أصيب يوم بدر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بضربة على عاتقه حتى مال شقه ، فرده رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و نفث عليه حتى صح .
و أتته امرأة من خثعم ، معها صبي به بلاء لا يتكلم ، فأتي بماء فمضمض فاه ، و غسل يديه ، ثم أعطاها إياه ، و أمرها بسقيه و مسه به ، فبرأ الغلام ، و عقل عقلاً يفضل عقول الناس .
و عن ابن عباس : جاءت امرأة بابن لها به جنون ، فمسح صره ، فثع ثعة فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود ، فشفي .
و انكفأت القدر على ذراع محمد بن حاطب و هو طفل ، فسمح عليه و دعا له ، و تفل فيه فبرأ لحينه .
و كانت في كف شرحبيل الجعفي سلعة تمنعه القبض على السيف و عنان الدابة ، فشكاها للنبي صلى الله عليه و سلم ، فما زال يطحنها بكفه حتى رفعها ، و لم يبق ى لها أثر .
و سألته جارية طعاماً ، و هو يأكل ، فناولها من بين يديه ، و كانت قليلة الحياء ، فقالت إنما أريد من الذي في فيك ، فناولها ما في فيه ، و لم يكن يسأل شيئاً فيمنعه .
فلما استقر في جوفها ألقي عليها من الحياء ما لم تكن امرأة بالمدينة أشد حياء منها .

 

فصل
 في إجابة دعائه صلى الله عليه و سلم

 

و هذا باب واسع جداً ، و إجابة دعوة النبي صلى الله عليه و سلم لجماعة بما دعا لهم و عليهم متواتر على الجملة ، معلوم ضرورةً .
و قد جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دعا لرجل أدركت الدعوة ولده و ولد ولده .
حدثنا أبو محمد العتابي بقراءتي عليه ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن القابسي ، حدثنا أبو زيد المروزي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن أبي الأسود ، حدثنا حرمي ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : قالت أمي : يا رسول الله ، خادمك أنس ، ادع الله له . قال : اللهم أكثر ماله و ولده ، و بارك له فيما آتيته .
و من رواية عكرمة : قال أنس : فوا الله إن مالي لكثير ، و إن ولدي و ولد ولدي ليعادون اليوم على نحو المائة .
و في رواية : و ما أعلم أحداً أصاب من رخاء العيش ما أصبت ، و لقد دفنت بيدي هاتين مائةً من ولدي ، لا أقول سقطاً و لا ولد ولد .
و منه دعاؤه لعبد الرحمن بن عوف بالبركة ، قال عبد الرحمن : فلو رفعت حجراً لرجوت أن أصيب تحته ذهباً ، و فتح الل ه عليه ، و مات فحفر الذهب من تركته بالفؤوس حتى مجلت فيه الأيدي ، و أخذت كل زوجة ثمانين ألفاً وكن أربعاً . و قيل مائة ألف . و قيل : بل صولحت إحداهن ، لأنه طلقها في مرضه على نيف و ثمانين ألفاً ، و أوصى بخمسين ألفاً بعد صدقاته الفاشية في حياته ، و عوارفه العظيمة : أعتق يوماً ثلاثين عبداً ، و تصدق مرةً بعير فيها سبعمائة بعير ، و ردت عليه تحمل من كل شيء [ 117 ] ، فتصدق بها و بما عليها ، و بأقتابها و أحلاسها .
و دعا لمعاوية بالتمكين في البلاد ، فنال الخلافة . و لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن يجيب الله دعوته ، فما دعا على أحد إلا استجيب له .
و دعا بعز الإسلام بعمر رضي الله عنه ، أو بأبي جهل ، فاستجيب له في عمر .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر .
و أصاب الناس في بعض مغازيه عطش ، فسأله عمر الدعاء ، فدعا ، فجاءت سحابة ، فسقتهم حاجتهم ، ثم أقلعت .
و دعا في الإستسقاء ، فسقوا ، ثم شكوا إليه المطر ، فدعا ، فصحوا .
و قال لأبي قتادة : أفلح و جهك ، اللهم بارك له في شعره و بشره ، فمات و هو ابن سبعين سنةً ، و كأنه ابن خمس عشرة سنة .
و قال للنابغة : لا يفضض الله فاك فما سقطت له سن .
و في رواية : فكان أحسن الناس ثغراً ، إذا سقطت له سن نبتت له أخرى ، و عاش عشرين و مائة سنة ، و قيل : أكثر من هذا .
و دعا لابن عباس : اللهم فقهه في الدين ، و عمله التأويل فسمي بعد الحبر و ترجمان القرآن .
و دعا لعبد الله بن جعفر بالبركة في صفقة يمينه ، فما اشترى شيئاً إلا ربح فيه . و دعا للقمداد بالبركة ، فكانت عنده غرائز المال .
و دعا بمثله لعروة بن أبي الجعد ، فقال : فلقد كنت أقوم بالكناسة ، فما أرجع حتى أربح أربعين ألفاً .
و قال البخاري في حديث : فكان لو اشترى التراب ربح فيه .
و روي مثل هذا لغرقدة أيضاً .
وندت له ناقة ، فدعا فجاءه بها إعصار ريح ، ، حتى ردها عليه .
و دعا لأم أبي هريرة فأسلمت .
و دعا لعلي أن يكفى الحر و القر ، فكان يلبس في الشتاء ثياب الصيف ، و في الصيف ثياب الشتاء ، و لا يصيبه حر و لا برد .
و دعا لفاطمة ابنته الله ألا يجيعها ، قالت : فما جعت بعد .
و سأله الطفيل بن عمرو آيةً لقومه ، فقال : اللهم نور له فسطع نور بين عينيه ، فقال : أخاف أن يقولوا مثله ، فتحول إلى طرف سوطه ، ف كان يضيء في الليلة المظلمة ، فسمي ذا النور .
و دعا على مضر فأقحطوا، حتى استعطفته قريش ، فدعا لهم فسقوا .
و دعا على كسرى حين مزق كتابه أن يمزق الله ملكه ، فلم تبق له باقية ، و لا بقيت لفارس رياسة في أقطار الدنيا .
و دعا على صبي قطع عليه الصلاة أن يقطع ا لله أثره ، فأقعد .
و قال لرجل يأكل بشماله : كل بيمينك فقال : لا أستطيع . فقال : لا استطعت فلم يرفعها إلى فيه .
و قال لعتبة بن أبي لهب : اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ، فأكله الأسد .
[ و قال لامرأة : أكلك الأسد فأكلها ]
و حديثه المشهور ، من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، في دعائه على قريش حين وضعوا السلا على رقبته و هو ساجد مع الفرث و الدم ، وسماهم . قال : فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر .
و دعا على الحكم بن أبي العاص ، و كان يختلج بوجهه ، و يغمز عند النبي صلى الله عليه و سلم ، أي لا ، فرآه ، فقال : كذلك كن ، فلم يزل يختلج إلى أن مات .
و دعا علي محلم بن جثامة فمات لسبع ، فلفظته الأرض ، ثم و روي فلفظته مرات ، فألقوه بين صدين ، و رضموا عليه بالحجارة .
و الصد : جانب الوادي [ 118 ] .
و جحده رجل بيع فرس ـ و هي التي شهد فيها خزيمة للنبي صلى الله عليه و سلم ، فرد الفرس بعد النبي صلى الله عليه و سلم على الرجل ، و قال : اللهم إن كان كاذباً فلا تبارك له فيها . فأصبحت شاصية برجلها ، أي رافعةً .
و هذا الباب أكثر من أن يحاط به .

 

فصل
في كرامته و بركاته و انقلاب الأعيان له فيما لمسه أو باشره

 

أخبرنا أحمد بن محمد ، حدثنا أبو ذر الهروي ، إجازة ، حدثنا القاضي أبو علي سماعاً ، و القاضي أبو عبد الله بن عبد الرحمن و غيرهما ، فقالوا : حدثنا أبو الوليد القاضي ، حدثنا أبو ذر ، حدثنا أبو إسحاق ، و أبو الهيثم : قالوا : حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ـ أن أهل المدينة فزعوا مرةً ، فركب رسول الله صلى الله عليه و سلم فرساً لأبي طلحة كان يقطف ، أو به فطاف . و قال غيره : يبطأ ، فلما رجع قال : وجدنا فرسك بحراً فكان بعد لا يجارى .
و نخس جمل جابر ، و كان قد أعيا ، فنشط حتى كان ما يملك زمامه .
و صنع مثل ذلك بفرس لجعيل الأشجعي ، خفقها بمخفقة معه ، و برك عليها ، فلم يملك رأسها نشاطاً ، و ابع من طبنها باثني عشرألفاً .
[ و ركب حماراً قطوفاً لسعد بن عبادة فرده هملاجا لا يساير ] .
و كانت شعرات من شعره في قلنسوة خالد بن الوليد ، فلم يشهد بها قتالاً إلا رزق النصر .
و في الصحيح ـ عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ـ أنها أخرجت جبة طيالسة ، و قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يلبسها ، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها .
و حدثنا القاضي أبو علي ، عن شيخه أبي القاسم بن المأمون : قال : و كانت عندنا قصعة من قصاع النبي صلى الله عليه و سلم ، فكنا نجعل فيها الماء للمرضى ، فيستشفون بها .
و أخذ جهجاه الغفاري القضيب من يد عثمان رضي الله عنه ليكسره على ركبته ، فصاح الناس به ، فأخذته فيها الآكلة فقطعها ، و مات قبل الحول .
و سكب من فضل و ضوئه في بئر قباء فما نزفت بعد .
و بزق في بئر كانت في دار أنس ، فلم يكن بالمدينة أعذب منها .
و مر على ماء، فسأل عنه ، فقيل له : اسمه بيسان ، و ماؤه ملح ، فقال : بل هو نعمان و ماؤه طيب فطاب .
و أتي بدلو من ماء زمزم ، فمج فيه ، فصارت أطيب من المسك .
و أعطى الحسن و الحسين لسانه فمصاه ، و كان يبكيان عطشاً فسكتا .
و كان لأم مالك عكة تهدي فيها للنبي صلى الله عليه و سلم سمناً ، فأمرها النبي صلى الله عليه و سلم ألا تعصرها ، ثم دفعها إليها ، فإذا هي مملوءة سمناً ،فيأتيها بنوها يسألونها الأدم ، و ليس عندهم شيء ، فتعمد إليها ، فتجد فيها سمناً ، فكانت تقيم أدمها حتى عصرتها .
و كان يتفل في أفواه الصبيان المراضع فيجزئهم ريقه إلى الليل .
و من ذلك بركة يده فيما لمسه و غرسه ، و لسلمان رضي الله عنه حين كاتبه مواليه على ثلاثمائة ودية يغرسها لهم ، كلها تعلق و تطعم و على أربعين أوقية من ذهب ، فقام صلى الله عليه و سلم و غرسها له بيده إلا واحدة [ 119 ] غرسها غيره ، فأخذت كلها إلى تلك الواحدة ، فقلعها النبي صلى الله عليه و سلم و ردها ، فأخذت .
و في كتاب البزار : فأطعم النخل من عامه إلا الواحدة ، فقلعها رسول الله صلى الله عليه و سلم و غرسها فأطعمت من عامها .
و أعطاه مثل بيضة الدجاجة من ذهب بعد أن أدارها على لسانه ، فوزن منها لمواليه أربعين أوقية و بقي عنده مثل ما أعطاهم .
و في حديث حنش بن عقيل : سقاني رسول الله صلى الله عليه و سلم شربةً من سويق شرب أولها و شربت آخرها ، فما برحت أجد شبعها إذا جعت ، وريها إذا عطشت ، و بردها إذا ظمئت .
و أعطى قتادة بن النعمان ، و صلى معه العشاء في ليلة مظلمة مطيرة ـ عرجوناً ، و قال : انطلق به ، فإنه سيضيء لك من بين يديك عشراً و من خلفك عشراً ، فإذا دخلت بيتك ف سترى سواداً فاضربه حتى يخرج ، فإنه الشيطان .
فانطلق فأضاء له العرجون حتى دخل بيته ، و وجد السواد فضربه حتى خرج .
و منها دفعه لعكاشة جدل حطب ، و قال : اضرب به حين انكسر سيفه يوم بدر ، فعاد في يده سيفاً صارماً ، طويل القامة ، أبيض ، شديد المتن ، فقاتل به ، ثم لم يزل عنده يشهد به المواقف إلى أن استشهد في قتال أهل الردة .
و كان هذا السيف يسمى [ العون ] .
و دفعه لعبد الله بن جحش يوم أحد ، و قد ذهب سبفه ـ عسيب نخل ، فرجع في يده سيفاً .
و منه بركته في درور الشياه الحوائل باللبن الكثير ، كقصة شاة أم معبد ، وأعنز معاوية بن ثور ، و شاة أنس ، و غنم حليمة مرضعته و شارفها ، و شاة عبد الله بن مسعود ، و كانت لم ينز عليها فحل ، و شاة المقداد .
و من ذلك تزويده أصحابه سقاء ماء بعد أن أوكأه ، و دعا فيه ، فلما حضرتم الصلاة نزلوا فحلوه ، فإذا به لبن طيب و زبدة في فمه ـ من رواية حماد بن سلمة .
و مسح على رأس عمير بن سعد ، و برك ، فمات و هو ابن ثمانين ، فما شاب .
و روي مثل هذه القصص عن غير واحد ، منهم السائب بن يزيد ، و مدلوك .
و كان يوجد لعتبة بن فرقد طيب يغلب طيب نسائه ، لأن رسول الله صل ى الله عليه و سلم مسح بيده على بطنه و ظهره .
و سلت الدم عن وجه عائذ بن عمرو ، و كان خرج يوم حنين ، و دعا له ، فكانت له غرة كغرة الفرس .
و مسح على رأس قيس بن زيد الجذامى ، و دعا له ، فهلك و هو ابن مائة سنة ، و رأسه أبيض ، و موضع كف النبي صلى الله عليه و سلم و ما مرت يده عليه من شعره أسود ، كان يدعى الأغر .
و روي مثل هذه الحكاية لعمرو بن ثعلبة الجهني .
و مسح وجه آخر ، فما زال على وجهه نور .
و مسح وجه قتادة بن ملحان ، فكان لوجهه بريق حتى كان ينظر في وجهه كما ينظر في المرأة .
و وضع يده على رأس حنظلة بن حزيم ، و برك عليه ، فكان حنظلة يؤتي بالرجل قد ورم وجهه ، و الشاة قد ورم ضرعها ، فيوضع [ 120 ] على موضع كف النبي صلى الله عليه و سلم فيذهب الورم .
و نضح في وجه زينب بنت أم سلمة نضحة من ماء ، فما يعرف كان في وجه امرأة من الجمال ما بها .
و مسح على رأس صبي به عاهة ، فبرأ ، و استوى شعره ، و على غير واحد من الصبيان و المرضى و المجانين ، فبرءوا .
و أتاه رجل به أدرة ، فأمره أن ينضحها بماء من عين مج فيها ، ففعل ، فبرأ .
و عن طاوس : لم يؤ ت النبي صلى الله عليه و سلم بأحد به مس ، فصك في صدره إلا ذهب .
و المس : الجنون .
و مج في دلو من بئر ، ثم صب فيها ، ففاح منها ريح المسك .
و أخذ قبضة من تراب يوم حنين ، و رمى بها في وجوه الكفار ، و قال : [ شاهت الوجوه ] فانصرفوا يمسحون القذى عن أعينهم .
[ و شكا إليه أبو هريرة رضي الله عنه النسيان ، فأمره ببسط ثوبه ، و غرف بيده فيه ، ثم أمره بضمه ، ففعل ، فما نسي شيئاً بعد .
و ما يروى عنه في هذا كثير .
و ضرب صدر جرير بن عبد الله ، و دعا له ، و كان ذكر له أنه لا يثبت على الخيل ، فصار من أفرس العرب و أثبتهم .
و مسح على رأس عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب و هو صغير ، و كان دميماً ، و دعا له بالبركة ، ففرع الرجال ، طولاً و تماماً ] .

 

فصل
فيما أطلع عليه من الغيوب و ما يكون

 

و من ذلك ما أطلع عليه من الغيوب و ما يكون . و الأحاديث في هذا الباب بحر لا يدرك قعره ، و لا ينزف غمره .
و هذه المعجزة من جملة معجزاته المعلومة على القطع الواصل إلينا خبرها على التواتر ، لكثرة رواتها ، و اتفاق معانيها على الاطلاع على الغيب :
حدثنا الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الفهري إجازة ، و قرأته على غيره : قال أبو بكر : حدثنا أبو علي التستري ، حدثنا أبو عمر الهاشمي ، حدثنا اللؤلؤي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة ، قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم مقاماً ، فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا ، حدثه ، حفظه من حفظه ، و نسيه من نسيه ، قد علمه أصحابي هؤلاء ، و إنه ليكون منه الشيء فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ، ثم إذا رآه عرفه .
ثم قال حذيفة : ما أدري ، أنسي أصحابي أم تناسوه ، ، و الله ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً إلا قد سماه لنا با سمه ، و اسم أبيه ، و قبيلته .
و قال أبو ذر : لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و ما يحرك طائر جناحيه في السماء ، إلا ذكرنا منه علماً .
و قد خرج أهل الصحيح و الأئمة ما أعلم به أصحابه صلى الله عليه و سلم مما وعدهم به من الظهور على أعدائه ، و فتح مكة ، و بيت المقدس ، و اليمن ، و الشام ، و العراق .
و ظهور الأمن ، حتى تظعن المرأة من الحيرة إلى مكة ، لا تخاف إلا الله .
و أن المدينة ستغزى ، و تفتح خيبر على يدي علي في غد يومه .
و ما يفتح الله على أمته من الدنيا . و يؤتون من زهرتها .
و قسمتهم كنوز كسرى و قيصر .
و ما يحدث بينهم من الفتون و الاختلاف و الأهواء .
و سلوك سبيل من قبلهم ، و افتراقهم [ 121 ] على ثلاث و سبعين فرقة ، الناجية منها واحدة .
و أنها ستكون لهم أنماط ، و يغدو أحدهم في حلة ، و يروح في أخرى ، و توضع بين يديه صحفة و ترفع أخرى ، و يسترون بيوتهم كما تستر الكعبة .
ثم قال آخر الحديث : و أنتم اليوم خير منكم يومئذ ، و أنهم إذا مشوا المطيطاء و خدمتهم بنات فارس و الروم رد الله بأسهم بينهم ، و سلط شرارهم على خيارهم .
و قتالهم الفرس ، و الخزر ، و ال روم ، و ذهاب كسرى و فارس حتى لا كسرى و لا فارس بعده ، و ذهاب قيصر حتى لا قيصر بعده .
و ذكر أن الروم ذات قرون إلى آخر الدهر .
و بذهاب الأمثل فالأمثل من الناس ، و تقارب الزمان ، و قبض العلم ، و ظهور الفتن ، و الهرج .
و قال : [ و يل للعرب من شر قد اقترب ] .
و أنه زويت له الأرض فأري مشارقها و مغاربها ، و سيبلغ ملك أمته ما زوي له منها .
و كذلك كان ، امتدت في المشارق والمغارب مما بين أرض الهند أقصى المشرق إلى بحر طنجة حيث لا عمارة و راءه ، و ذلك ما لم تملكه أمة من الأمم ، و لم تمتد في الجنوب و لا في الشمال مثل ذلك .
و قوله : لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ـ ذهب ابن المديني إلى أنهم العرب ، لأنهم المختصون بالسقي بالغرب ـ و هي الدلو . و غيره يذهب إلى أنهم أهل المغرب ، و قد ورد المغرب كذا في الحديث بمعناه .
و في حديث آخر ، من رواية أبي أمامة : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، قاهرين لعدوهم ، حتى يأتيهم أمر الله و هم كذلك .
قيل : يا رسول الله ، و أين هم ، قال : بيت المقدس .
و أخبر بملك بني أمية ، و ولاية معاوية ، و وصاه ، و اتخاذ بني أمية مال الله دولا ، و خروج ولد العباس بالرايات السود ، و ملكهم أضعاف ما ملكوا ، و خروج المهدي ، و ما ينال أهل بيته و تقتيلهم و تشريدهم ، و قتل علي ، و أن أشقاها الذي يخضب هذه من هذه ، أي لحيته من رأسه ، و أنه قسيم النار ، يدخل أولياؤه النار ، فكان فيمن عاداه الخوارج و الناصبة ، و طائفة ممن ينسب إليه من الروافض كفروه .
و قال : يقتل عثمان و هو يقرأ في المصحف و أن الله عسى أن يلبسه قميصاً ، و أنهم يريدون خلعه ، و أنه سيقطر دمه على قوله : فسيكفيكهم الله .
و أن الفتن لا تظهر ما دام عمر حياً .
و بمحاربة الزبير لعلي ، و بنباح كلاب الحوأب على بعض أزواجه ، و أنه يقتل حولها قتلى كثير ، و تنجو بعد ما كادت ، فنبحت على عائشة عند خروجها إلى البصرة . و أن عماراً تقلته الفئة الباغية ، فقتله أصحاب معاوية .
و قال لعبد الله بن الزبير : ويل للناس منك ، و ويل لك من الناس [ 122 ] .
و قال في قزمان ـ و قد أبلى مع المسلمين : إنه من أهل النار فقتل نفسه .
و قال ـ في جماعة فيهم أبو هريرة ، و سمرة بن جندب ، و حذيفة : آخركم موتاً في النار فكان بعضهم يسأل عن بعض ، فكان سمرة آخرهم موتاً ، هرم و خرف ، فاصطلى بالنار فاحترق فيها .
[ و قال في حنظلة الغسيل : سلوا زوجته عنه ، فإني رأيت الملائكة تغسله فسألوها فقالت : إنه خرج جنباً ، و أعجله الحال عن الغسل .
قال أبو سعيد رضي الله عنه : و وجدنا رأسه يقطر ماء ] .
و قال : الخلافة في قريش .
و لن يزال هذا الأمر في قريش ما أقاموا الدين .
و قال : يكون في ثقيف كذاب و مبير فرأوهما : الحجاج ، و المختار .
و أن مسيلمة يعقره الله .
و إن فاطمة أول أهله لحوقاً به .
و أنذر بالردة ، و بأن الخلافة بعده ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً ، فكانت ذلك بمدة الحسن بن علي .
و قال : إن هذا الأمر بدا نبوة و رحمةً ، ثم يكون رحمةً و خلافةً ، ثم يكون ملكاً عضوضاً ، ثم يكون عتواً و جبروتاً و فساداً في الأمة .
و أخبر بشأن أويس القرني ، و بأمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ، و سيكون في أمته ثلاثون كاذباً فيهم أربع نسوة .
و في حديث آخر : ثلاثون دجالاً كذاباً ، آخرهم الدجال الكذاب ، كلهم يكذب على الله و رسوله .
و قال : يوشك أن يكثر فيكم العجم ، يأكلون فيئكم ، و يضربون رقابكم .
و لا تقوم الساعة حتى يسوق الناس بعصاه رجل من قحطان .
و قال : خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم . ثم يأتي بعد كذلك قوم يشهدون و لا يستشهدون ، و يخونون و لا يؤتمنون ، و ينذرون و لا يوفون ، [ و يظهر فيهم السمن ] .
و قال : لا يأتي زمان إلا و الذي بعده شر منه .
و قال : هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش .
قال أبو هريرة راويه : لو شئت سميتهم لكم : بنو فلان ، و بنو فلان .
و أخبر بظهور القدرية و الرافضة .
و سب آخر هذه الأمة أولها .
و قلة الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام ، فلم يزل أمرهم يتبدد حتى لم يبق لهم جماعة .
و أنهم سيقلون بعده أثرةً .
و أخبر بشأن الخوارج و صفتهم ، و المخدج الذي فيهم ، و أن سيماهم التحليق .
و يرى رعاء الغنم رؤوس الناس ، و العراة الحفاة يتبارون في البنيان .
و أن تلد الأمة ربتها .
و أن قريشاً و الأحزاب لا يغزونه أبداً ، و أنه هو يغزوهم .
و أخبر بالموتان الذي يكون بعد فتح بيت المقدس .
و ما وعد من سكنى البصرة ، و أنهم يغزون في البحر كالملوك على الأسراة . . .
و أن الدين لو كان منوطاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس .
و هاجت ريح في غزاة ، فقال : هاجت لموت منافق ، فلما رجعوا إلى ا لمدينة وجدوا ذلك .
و قال لقوم من جلسائه : ضرس أحدكم في النار أعظم من أحد .
قال أبو هريرة : فذهب القوم ـ يعني ماتوا ، و بقيت أنا و رجل ، فقتل مرتداً يوم اليمامة .
و أعلم بالذي غل خرزاً من خرز يهود ، فوجدت في رحله . و بالذي غل الشملة ، و حيث هي .
و ناقته حين ضلت، و كيف تعلقت [ 123 ] بالشجرة بخطامها .
و بشأن كتاي حاطب إلى أهل مكة .
و بقضية عمير مع صفوان حين ساره و شارطه على قتل النبي صلى الله عليه و سلم . فلما جاء عميرللنبي صلى الله عليه و سلم قاصداً لقتله ، و أطلعه رسول الله صلى الله عليه و سلم على الأمر و السر أسلم .
و أخبر بالمال الذي تركه عمه العباس رضي الله عنه عند أم الفضل بعد أن كتمه ،
فقال : ما علمه غيري و غيرها ، فأسلم .
و أعلم بأنه سيقتل أبي بن خلف .
و في عتبة بن أبي لهب يأكله كلاب الله .
و عن مصارع أهل بدر ، فكان كما قال .
و قال في الحسن : إن ابني هذا سيد ، و سيصلح الله به بين فئتين .
و لسعد : لعلك تخلف حتىينتفع بك أقوام و يستضر بك آخرون .
و أخبر بقتل أهل مؤتة يوم قتلوا و بينهم ميسرة شهر أو أزيد .
و بموت النجاشي يوم مات بأرضه .
وأخبر فير وز إذا ورد عليه رسولاً من كسرى بموت كسرى ذلك اليوم ، فلما حقق فيروز القصة أسلم .
و أخبر أبا ذر رضي الله عنه بتطريده كما كان ، و وجده في المسجد نائماً ، فقال له : كيف بك إذا أخرجت منه ؟ قال : أسكن المسجد الحرام أحمد قال : فإذا أخرجت منه ... الحديث .
و بعيشه وحده ، و موته وحده .
و أخبر أن أسرع أزواجه به لحوقاً أطولهن يداً ، فكانت زينب لطول يدها بالصدقة .
و أخبر بقتل الحسين بالطف ، و أخرج بيده تربة ، و قال : فيها مضجعة .
و قال في زيد بن صوحان : يسبقه عضو منه إلى الجنة فقطعت يده في الجهاد .
و قال في الذين كانوا معه على حراء : اثبت فإنما عليك نبي و صديق و شهيد ، فقتل علي ، و عمر و عثمان ، و طلحة ، و الزبير ، و طعن سعد .
و قال لسراقة : كيف بك إذا ألبست سواري كسرى ؟ فلما أتي بهما عمر ألبسهما إياه ، و قال : الحمد الله الذي سلبهما كسرى و ألبسهما سراقة .
و قال : تبنى مدينة بين دجلة و دجيل و قطربل و الصراة ،تجبى إليها خزائن الأرض ، يخسف بها يعني بغداد .
و قال : سيكون في هذه الأمة رجل يقال له : الوليد ، هو شر لهذه الأمة من فرعون لقومه .
و قال : لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعواهما واحدة .
و قال اعمر في سهيل بن عمرو : عسى أن يقوم مقاماً يسرك ياعمر ! فكان كذلك ، قام بمكة مقام أبي بكر يوم بلغهم موت النبي صلى الله عليه و سلم ، و خطب بنحو خطبته ، و ثبتهم و قوى بصائرهم .
و قال لخالد حين و جهه لأكيدر : إنك تجده يصيد البقر فوجدت هذه الأمور كلها في حياته و بعد موته كما قال صلى الله عليه و سلم .
إلى ما أخبر به جلساءه من أسرارهم و بواطنهم ،و اطلع عليه من أسرار المنافقين و كفرهم ، و قولهم فيه و في المؤمنين ، حتى إن كان بعضهم ليقول لصاحبه : اسكت ، فوالله لو لم يكن عنده من يخبره لأخبرته حجارة البطحاء .
و إعلامه بصفة السحر الذي سحره به لبيد بن الأعصم ، و كونه في مشط و مشاقة ، في [124 ] جف طلع نخلة ذكر ، و أنه ألقى في بئر ذروان ، فكان كما قال ، و وجد على تلك الصفة .
و إعلامه قريشاً نأكل الأرضة ما في صحيفتهم التي تظاهروا بها على بني هاشم ، و قطعوا بها رحمهم ، و أنها أبقت فيها كل اسم الله ، فوجدوها كما قال .
و وصفه لكفار قريش بيت المقدس حين كذبوه في خبر الإسراء ، و نعته إياه نعت من عرفه .
و أعلمهم بعيرهم التي مر عليها في طريقه ، و أنذرهم بوقت وصولها ، فكان كله كما قال .
إلى ما أخبر به من الحوادث التي تكون و لم يأت بعد ، منها ما ظهرت مقدماتها ، كقوله : عمران بيت المقدس خراب يثرب ، و خراب يثرب خروج الملحمة ، و خروج الملحمة فتح القسطنطينية .
و من أشراط الساعة و آيات حلولها ، و ذكر النشر و الحشر ، و أخبار الأبرار و الفجار ، و الجنة و النار ، و عرصات القيامة .
و بحسب هذا الفصل ان يكون ديواناً مفرداً يشتمل على أجزاء و حده ، و فيما أشرنا إليه من نكت الأحاديث التي ذكرنا كفاية ، و أكثرها في الصحيح ، و عند الأئمة .      

 

فصل
في عصمة الله تعالى له من الناس

 

و قال الله تعالى : والله يعصمك من الناس [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 67 ] .
و قال تعالى : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا [ سورة الطور / 52 ، الآية : 48 ] .
و قال : أليس الله بكاف عبده [ سورة الزمر /39 ، الآية : 36 ] .
و قيل : بكاف محمداً صلى الله عليه و سلم أعداءه المشركين . و قيل غير هذا .
و قال : إنا كفيناك المستهزئين [ سورة الحجر / 15 ، الآية : 95 ] .
و قال : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 30 ] .
أخبرنا القاضي الشهيد أبو علي الصدفي بقرائتي عليه ، و الفقيه الحافظ أبو بكر محمد عبد الله المعافري ، قالا : حدثنا أبو الحسن الصيرفي ، قال : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا أبو العباس المروزي ، حدثنا أبو عيسى الحافظ ، حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن عبيد ، عن سعيد الجريري ، عن عبد الله بن شفيق ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كان النبي صلى الله عليه و سلم يحرس حتى نزلت هذه الآية : والله يعصمك من الناس ـ فأخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم رأسه من القبة ، فقال لهم : يأيها الناس ، انصرفوا ، فقد عصمني ربي عز وجل .
و روى أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها ، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ فقال : الله عز و جل فرعدت يد الأعرابي ، و سقط سيفه ، و ضرب برأسه الشجرة حتى سال دماغه ، فنزلت الآية .
و قد رويت هذه القصة في الصحيح ، و أن غورث بن الحارث صاحب هذه القصة ، و أن النبي صلى الله عليه و سلم عفا عنه ، فرجع إلى قومه ، و قال : جئتكم من عند خير الناس .
و قد حكيت مثل هذه الحكاية ، و أنها جرت له يوم بدر ، و قد انفرد من أصحابه لقضاء حاجته ، فتبعه رجل من المنافقين ... و ذكر مثله .
و قد روي أنه وقع له مثلها في غزوة غطفان بذي أمر ، مع رجل اسمه دعثور بن الحارث ، و أن [ 125 ] الرجل أسلم ، فلما رجع إلى قومه الذين أغروه ـ و كان سيدهم و أشجعهم ـ قالوا له : أين ما كنت تقول ، و قد أمكنك ؟ فقال : إني نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري ، فوقعت لظهري ، و سقط السيف ، فعرفت أنه ملك ، و أسلمت .
و فيه نز لت : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 11 ] .
و في رواية الخطابي أن غورث بن الحارث المحاربي أراد أن يفتك بالنبي صلى الله عليه و سلم ، فلم يشعر به إلا و هو قائم على رأسه منتضياً سيفه ، فقال : اللهم اكفنيه بما شئت ، فانكب من وجهه من زلخة زلخها بين كتفيه ، و نذر سيفه من يده .
الزلخة : وجع الظهر .
و قيل في قصته غير هذا ، و ذكر فيه نزلت : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 11 ] .
و قيل : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخاف قريشاً ، فلما نزلت هذه الآية استلقى ، ثم قال : من شاء فليخذلني .
و ذكر عبد بن حميد ، قال : كانت حمالة الحطب تضع العضاه ـ و هي جمر ـ على طريق رسول الله صلى الله عليه و سلم فكأنما يطؤها كثيباً أهيل .
و ذكر ابن اسحاق عنها أنها لما بلغها نزول : تبت يدا أبي لهب وتب ، و ذكرها بما ذكرها الل ه مع زوجها من الذم ـ أنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو جالس في المسجد و معه أبو بكر ، و في يدها فهر من الحجارة .
فلما وقفت عليهما لم تر إلا أبا بكر ، و أخذ الله تعالى ببصرها عن نبيه صلى الله عليه و سلم ، فقالت : يا أبا بكر ، أين صاحبك ؟ فقد بلغني أنه يهجوني ، و الله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه .
و عن الحكم بن أبي العاصي : تواعدنا على النبي صلى الله عليه و سلم حتى إذا رأيناه سمعنا صوتاً خلفنا ما ظننا أنه بقي بتهامة أحد ، فوقعنا مغشياً علينا ، فما أفقنا حتى قضى صلاته و رجع إلى أهله .
ثم تواعدنا ليلة أخرى ، فجئنا حتى إذا رأيناه جاءت الصفا و المروة ، فحالت بيننا و بينه .
و عن عمر رضي الله عنه : تواعدت أنا و أبو جهم بن حذيفة ليلة قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فجئنا منزله ، فسمعنا له ، فافتح و قرأ : الحاقة * ما الحاقة إلى : فهل ترى لهم من باقية [ سورة الحافة / 69 ، الآيات : 1 ، 8 ] .
فضرب أبو جهم على عضد عمر ، و قال : انج ، و فرا هاربين ، فكانت من مقدمات إسلام عمر رضي الله عنه .
و منه العبرة المشهورة ، و الكفاية التامة عندما أخافته قريش ، و أجمعت على قتله و بيتوه ، فخرج عليهم من بيته ، فقام على رؤوسهم ، و قد ضرب الله تعالى على أبصارهم ، و ذر التراب على رؤوسهم ، و خلص منهم .
و حمايته عن رؤيتهم في الغار بما هيأ الله له من الآيات ، و من العنكبوت الذي نسج عليه ، حتى قال أمية بن خلف ـ حين قالوا : تدخل الغار : ما أربكم فيه ، و عليه من نسج العنكبوت ما أرى أنه قبل أن يولد محمد .
و وقعت حمامتان على فم الغار ، فقالت قريش : لو كان فيه أحد لما كانت هناك الحمام .
و قصته مع سراقة بن مالك بن جعشم حين الهجرة ، و قد [ 126 ] جعلت قريش فيه و في أبي بكر الجعائل ، فأنذر به ، فركب فرسه و اتبعه حتى إذا قرب مه دعا عليه النبي صلى الله عليه و سلم ، فساخت قوائم فرسه ، فخر عنها ، و استقسم ، بالأزلام ، فخرج له ما يكره .
ثم ركب و دنا حتى سمع قراءة النبي صلى الله عليه و سلم ، و هو لا يلفت ، و أبو بكر رضي الله عنه يلتفت فقال للنبي صلى الله عليه و سلم : أتينا . فقال : لا تحزن إن الله معنا فساخت ثانية إلى ركبتها ، و خر عنها ، فزجرها فنهضت و لقوئمها مثل الدخان ، فناداهم بالأمان ، فكتب له النبي صلى الله عليه و سلم أماناً ، كتبه ابن فهيرة ، و قيل أبو بكر ، و أ خبرهم بالأخبار ، و أمره النبي صلى الله عليه و سلم ألا يترك أحداً يلحق بهم .
فانصرف يقول للناس : كفيتم ما ها هنا .
و قيل : بل قال لهما : أراكما دعوتما علي ، فادعوا لي .
فنجا ، و وقع في نفسه ظهور النبي صلى الله عليه و سلم .      
و في خبر آخر : أن راعياً عرف خبرهما ، فخرج يشتد ، يعلم قريشاً ، فلما ورد مكة ضرب على قلبه ، فما يدري ما يصنع ، و أنسي ما خرج له حتى رجع إلى موضعه .
و جاءه ـ فيما ذكر ابن إسحاق و غيره ـ أبو جهل ، بصخرة و هو ساجد ، و قريش ينظرون ، ليطرحها عليه ، فلزقت بيده ، و بست يداه إلى عنقه ، و أقبل يرجع القهقرى إلى خلفه ، ثم سأله أن يدعو له ، ففعل ، فانطلقت يداه ، و كان قد تواعد مع قريش بذلك ، و حلف لئن رآه ليدمغنه ، فسألوه عن شأنه ، فذكر أنه عرض لي دونه فحل ، ما رأيت مثله قط ، هم بي أن يأكلني .
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ذاك جبريل ، لو دنا لأخذه .
و ذكر السمرقندي أن رجلاً من بني المغيرة أتى النبي صلى الله عليه و سلم ليقتله ، فطمس الله على بصره ، فلم ير النبي صلى الله عليه و سلم ، و سمع قوله ، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه .
و ذكر أن هاتين القصت ين ، نزلت : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون * وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون [ سورة يس/ 36 ، الآية : 8 ، 9 ]      
و من ذلك ما ذكره ابن أسحاق ، و غيره في قصته ، إذ خرج إلى بني قريظة ، في أصحابه ، فجلس إلى جدار بعض آطامهم ، فانبعث عمرو بن جحاش أحدهم ليطرح عليه رحى ، فقام النبي صلى الله عليه و سلم فانصرف إلى المدينة و أعلمهم بقصتهم .
و قد قيل : أن قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون في هذه القصة نزلت .
و حكى السمرقندي أنه خرج إلى بني النضير يستعين في عقل الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية ، فقال له حيي بن أخطب : اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك ونعطيك ما سألتنا .
فجلس النبي صلى الله عليه و سلم مع أبي بكر و عمر رضي الله عنهما ، و توامر حيي معهم على قتله ، فأعلم جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه و سلم بذلك ، فقام كأنه يريد حاجته حتى دخل المدينة .
و ذكر أهل التفسير و الحديث ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أن أبا جهل وعد قريشاً لئن رأى محمداً يصلي ليطأن رقبته .
فلما صلى النبي صلى الله عليه و سلم أعلموه ، فأقبل ، فلما قرب منه ولى هارباً ناكصاً على [ 127 ] عقبيه ، متقياً بيديه ، فسئل فقال : لما دنوت منه أشرقت على خندق مملوء ناراً كدت أهوي فيه ، و أبصرت هولاً عظيماً ، و خفق أجنحة قد ملأت الأرض .
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : تلك الملائكة ، لو دنا لا ختطفته عضواً عضواً .
ثم أنزل على النبي صلى الله عليه و سلم : كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى * إن إلى ربك الرجعى * أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى * أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى * كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزبانية * كلا لا تطعه واسجد واقترب [ سورة العلق/ 96 ، الآية : 6 ، 9 ]      
و روي أن شيبة بن عثمان الحجبي أدركه يوم حنين ، و كان حمزة قد تقل أباه و عمه ، فقال : اليوم أدرك ثأري من محمد .
فلما اختلط الناس أتاه من خلفه ، و رفع سيفه ليصبه عليه ، قال : فلما دنوت منه ارتفع إلي شواظ من نار أسرع من البرق ، فوليت هارباً ، و أحس بي النبي صلى الله عليه و سلم فدعاني ، فوضع يده على صدري ، و هو أبغض الخلق إلي ، فما رفعها إلا و هو أحب الخلق إلي ، [ و قال لي : ادن فقاتل فتقدمت أمامه أضرب بسيفي و أقيه بنفسي ، و لو لقيت أبي تلك الساعة لأوقعت به دونه ] .
و عن فضالة بن عمرو : أردت قتل النبي صلى الله عليه و سلم عام الفتح ، و هو يطوف بالبيت ، فلما دنوت منه قال : أفضالة ؟ قلت : نعم . قال : ما كنت تحدث به نفسك ؟ قلت : لا شيء . فضحك و استغفر لي ، و وضع يده على صدري ، فسكن قلبي ، فو الله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئاً أحب إلي منه .
ومن مشهور ذلك خبر عامر بن الطفيل ، و أربد بن قيس ـ حين و فدا على النبي صلى الله عليه و سلم ، و كان عامر قال له : أنا أشغل عنك وجه محمد فاضربه أنت . فلم يره فعل شئياً ، فلما كلمه في ذلك قال له : و الله ما هممت أن أضربه إلا وجدتك بيني و بينه ، أفأضربك .
و من عصمته له تعالى أن كثيراً من اليهود و الكهنة أنذروا به و عينوه لقريش ، و أخبرهم بسطوته بهم ، و حضوهم عل قتله ، فعصمه الله تعالى حتى بلغ فيه أمره .
و من ذلك نصره بالرعب أمامه مسيرة شهر ، كما قال صلى الله عليه و سلم .

 

فصل
من معجزاته الباهرة

 

و من معجزاته الباهرة ما جمعه الله له من المعارف و العلوم ، و خصه به من الاطلاع على جميع مصالح الدنيا و الدين ، و معرفته بأمور شرائعه ، و قوانين دينه ، و سياسة عباده ، و مصالح أمته ، و ما كان في الأمم قبله ، و قصص الأنبياء و الرسل و الجبابرة و القرون الماضية من لدن آدم إلى زمنه ، و حفظ شرائعهم و كتبهم ، و وعي سيرهم ، و سرد أنبائهم ، و أيام الله فيهم ، و صفات أعيانهم و اختلاف آرائهم ، و المعرفة بمددهم و أعمارهم ، و حكم حكمائهم ، و محاجة كل أمة من الكفرة ، و معارضة كل فرقة من الكتابيين بما في كتبهم ، و إعلامهم بأسرارها و مخبآت علومها ، و إخبارهم بما كتموا من ذلك و غيروه .
إلى الإحتواء على لغات العرب ، و غريب ألفاظ فرقها ، و الإحاطة بضروب فصاحاتها ، و الحفظ لأيامها و أمثالها ، و حكمها و معاني أشعارها ، و التخصيص بجوامع كلمها .
إلى المعرفة بضرب الأمثال الصحيحة ، و الحكم البينة لتقريب التفهيم للغامض ، و التبيين للمشكل ، إلى تمهيد قواعد الشرع الذي لا تناقض فيه و لا تخاذل ، مع اشتمال شريعته على محاسن الأخلاق و محامد الآداب [128] و كل شيء مستحسن مفضل ، لم ينكر منه مل حد ذو عقل سليم شيئاً إلا من جهت الخذلان .
بل كل جاحد له و كافر من الجاهلية به إذا سمع ما يدعو إليه صوبه ، و استحسنه دون طلب إقامة برهان عليه .
ثم ما أحل لهم من الطيبات ، و حرم عليهم من الخبائث ،و صان به أنفسهم و أعراضهم و أموالهم من المعاقبات و الحدودعاجلاً ، و التخويف بالنار آجلاً[مما لا يعلم علمه و لا يقوم به ،إلا من مارس الدرس و العكوف على الكتب ، و مثافنة بعض هذا ] .
إلى الاحتواء على ضروب العلوم ، و فنون المعارف ، كالطب ، و العبارة ، و الفرائض ، و الحساب ، و النسب ، و غير ذلك من العلوم مما اتخذ أهل هذه المعارف كلامه صلى الله عليه و سلم فيها قدوة و أصولاً في علمهم ، كقوله صلى الله عليه و سلم : الرؤيا لأول عابر . وهي على رجل طائر
.
و قوله : الرؤيا ثلاث ، رؤيا حق ، و رؤيا يحدث بها الرجل نفسه ، و رؤيا تخزين من الشيطان .
و قوله : إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب .
و قوله : أصل كل داء البردة .
و ما روي عنه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من قوله : المعدة حوض البدن ، و العروق إليها واردة و إن كان هذا حديثاً لا نصححه و كونه موضوعاً تكلم عليه ال دار قطني .
و قوله : خير ما تداويتم به السعوط و اللدود ، و الحجامة ، و المشي .
و خير الحجامة يوم سبع عشرة ، و تسع عشرة ، و إحدى و عشرين .
و في العود الهندي سبعة أشفية ، منها ذات الجنب .
و قوله : ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن ، فإن كان لا بد فثلث للطعام ، و ثلث للشراب ، و ثلث للنفس .
و قوله ـ و قد سئل عن سبأ : أرجل هو أم امرأة ، أم أرض ؟ فقال : رجل ولد عشرة : تيامن منهم ستة ، و تشاءم أربعة ... الحديث بطوله .
و كذلك جوابه في نسب قضاعة ، و غير ذلك مما اضطرت العرب على شغلها بالنسب إلى سؤاله عما اختلفوا فيه من ذلك .
و قوله : حمير رأس العرب و نابها : و مذحج هامتها و غلصمتها . و الأزذ كاهلها و جمجمتها ، و همدان غاربها و ذروتها .
و قوله : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض .
و قوله في الحوض : زواياه سواء .
و قوله ـ في حديث الذكر : و إن الحسنة بعشر أمثالها ، فتلك مائة وخمسون على اللسان ، و ألف و خمسمائة في الميزان .
و قوله و هو بموضع : نعم موضع الحمام هذا .
و قوله ما بين المشرق و المغرب قبلة .
و قوله لعيينة ، أو الأقرع : أنا أفرس بالخيل منك .
و قوله لكتابه : ضع القلم على أذنك ، فإنه أذكر للممل .
هذا مع أنه صلى الله عليه و سلم كان لا يكتب ، و لكنه أوتي علم كل شيء ، حتى قد وردت آثار بمعرفته حروف الخط و حسن تصويرها :
كقوله : : لا تمدوا بسم الله الرحمن الرحيم رواه ابن شعبان من طريق ابن عباس .
و قوله في الحديث الآخر الذي يروى عن معاوية أنه كان يكتب بين يديه صلى الله عليه و سلم فقال له : ألق الدواة ، و حرف القلم ، و أقم الباء ، و فرق السين ، و لا تعور الميم ، و حسن الله ، و مد الرحمن ، وجود الرحيم .
و هذا ، و إن لم تصح الرواية أنه صلى الله عليه و سلم كتب فلا يبعد [ 129 ] أن يرزق علم هذا و يمنع القراءة و الكتابة .
و أما علمه صلى الله عليه و سلم بلغات العرب ، و حفظه معاني أشعارها ، فأمر مشهور ، قد نبهنا على بعضه أول الكتاب .
و كذلك حفظه لكثير من لغات الأمم ، كقوله في الحديث : سنة ، سنة و هي حسنة بالحبشية .
و قوله : و يكثر الهرج و هو القتل بها .
و قوله ـ في حديث أبي هريرة : أشكنب درد أي وجع البطن بالفارسية .
إلى غير ذلك ممالا يع لم بعض هذا و لا يقوم به و لا ببعضه إلا من مارس الدرس و الكوف على الكتب و مثافنة أهلها عمره .
و هو رجل كما قال الله تعالى ـ أمي ، لم يكتب و لم يقرأ ، و لا عرف بصحبه من هذه صفته ، و لا نشأ بين قوم لهم علم و لا قراءة لشيء من هذه الأمور ، و لا عرف هو ـ قبل بشيء منها ، قال الله تعالى : و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون
[ سورة العنكبوت / 29 ، الآية : 48 ] .
إنما كانت غاية معارف العرب النسب و أخبار أوائلها ، و الشعر ، و البيان ، و إنما حصل ذلك لهم بعد التفرغ لعلم ذلك ، و الاشتغال بطلبه ، و مباحثة أهله عنه .
وهذا الفن نقطة من بحر علمه صلى الله عليه و سلم .
و لا سبيل إلى جحد الملحد لشيء مما ذكرناه ، و لا وجد الكفرة حيلة في دفع ما نصصناه إلا قولهم : أساطير الأولين : إنما يعلمه بشر .
فرد الله قولهم بقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين
[ سورة النحل /16 ، الآية : 103] .
ثم ما قالوه مكابرة العيان ، فإن الذي نسبوا تعليمه إليه إما سلمان ، أو العبد الرومي ، و سلمان إنما عرفه بعد الهجرة ، و نزول الكثير من القرآن ، و ظهور ما لا ينع د من الآيات .
و أما الرومي فكان أسلم و كان يقرأ على النبي صلى الله عليه و سلم ، و اختلف في اسمه .
و قيل : بل كان النبي صلى الله عليه و سلم يجلس عنده عند المروة ، و كلاهما أعجمي اللسان ، و هو الفصحاء اللد ، و الخطباء السن ، قد عجزوا عن معارضة ما أتى به ، و الإتيان بمثله ، بل عن فهم رصفه ، و صورة تأليفه و نظمه ، فكيف بأعجمي ألكن !‍ .
نعم ، و قد كان سلمان ، أو بلعام الرومي ، أو يعيش ، أو جبر ، أو يسار ـ على اختلافهم في اسمه ـ بين أظهرهم يكلمونه مدى أعمارهم ، فهل حكي عن واحد منهم شيء من مثل ما كان يجيء به محمد صلى الله عليه و سلم ؟ و هل عرف واحد منهم بمعرفة شيء من ذلك ؟ و ما منع العدو حينئذ على كثرة عدده ، و دؤوب طلبه ، و قوة حسده -أن يجلس إلى هذا فيأخذ عليه أيضاً ما يعارض به و يتعلم منه ما يحتج به على شغبه ، كفعل النضر بن الحارث بما كان يمخرق به من أخبار كتبه .
و لا غاب للنبي صلى الله عليه و سلم عن قومه ، و لا كثرت اختلافاته إلى بلاد أهل الكتاب ، فيقال : إنه استمد منهم ، بل لم يزل بين أظهرهم يرعى في صغره و شبابه ، على عادة أبنائهم ، ثم لم يخرج عن بلادهم إلى سفرة أو سفرتين ، لم يطل فيهما مكثه مدة يحتمل فيها تعليم القليل ، فكيف الكثير !‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌‌‌ .
بل كان في سفره في صحبة قومه و رفاقة عشيرته ، لم يغب عنهم ، و لا خالف حاله [ 130 ] مدة مقامه بمكة من تعليم و اختلاف إلى حبر أو قس ، أو منجم أو كاهن .
بل لو كان هذا بعد كله لكان مجيء ما أتى به من معجز القرآن قاطعاً لكل عذر ، و مدحضاً لكل حجة ، و مجلياً لكل أمر .


فصل
من خصائصه و كراماته و باهر آياته أنباؤه مع الملائكة و الجن

 

و من خصائصه صلى الله عليه و سلم ، و كراماته ، و باهر آياته أنباؤه مع الملائكة و الجن ، و إمداد الله له بالملائكة ، و طاعة الجن له ، و رؤية كثير من أصحابهم لهم ، قال الله تعالى : وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير [ سورة التحريم / 66 ، الآية : 4 ] .
و قال : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 12 ] .
و قال : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 9 ، 10 ] .
و قال : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين [ سورة الأحقاف / 46 ، الآية : 29 ] .
حدثنا سفيان بن العاص الفقيه بسماعي عليه ، حدثنا أبو الليث السمرقندي ، قال : حدثنا عبد الغافر الفارسي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم ، حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن سليمان الشيباني ، سمع زر بن حبيش ، عن عبد الله ، قال : لقد رأى من آيات ربه الكبرى ـ قال : رأى جبريل عليه السلام في صورته ، له ستمائة جناح .
و الخبر في محادثته مع جبريل و إسرافيل و غيرهم من الملائكة ، و ما شاهده من كثرتهم و عظم صور بعضهم ليلة الإسراء مشهور .
و قد رآهم بحضرته جماعة من أصحابه في مواطن مختلفة ، [ فرأى أصحابه جبريل عليه السلام في صورة رجل يسأله عن الإسلام و الإيمان ] .
و رأى ابن عباس ، و أسامة بن زيد ، و غيرهما عنده جبريل في صورة دحية .
و رأى سعد عن يمينه يساره جبريل و ميكائيل في صورة رجلين عليهما ثياب بيض .
و مثله غير واحد .
و سمع بعضهم زجر الملائكة خليها يوم بدر .
و بعضهم رأى تطاير الرؤوس من الكفار ، و لا يرون الضارب .
و رأى أبو سفيان بن الحارث يومئذ رجالاً بيضاًعلى خيل بلق بين السماء و الأرض ، ما يقوم لها شيء .
و قد كانت الملائكة تصافح عمران بن الحصين .
و أرى النبي صلى الله عليه و سلم لحمزة جبريل في الكعبة ، فخر مغشياً عليه .
و رأى عبد الله بن مسعود الجن ليلة الجن ، و سمع كل امهم ، و شبههم برجال الزط .
و ذكر ابن سعد أن مصعب بن عمير لما قتل يوم أحد أخذ الراية ملك على صورته ، فكان النبي صلى الله عليه و سلم يقول له : تقدم يا مصعب فقال له الملك : لست بمصعب ، فعلم أنه ملك .
وقد ذكر غير واحد من المصنفين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ أنه قال : بينا نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه و سلم إذ أقبل شيخ بيده عصا ، فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم ، فرد عليه ، وقال ـ صلى الله عليه و سلم : نغمة الجن! من أنت ؟ قال أنا هامة بن الهيم بن لاقس بن إبليس ، فذكر أنه لقي نوحا ومن بعده ... في حديث طويل ، وأن النبي صلى الله عليه و سلم علمه سوراً من القرآن .
وذكر الواقدي قتل خالد عند هدمه العزى للسوداء التي خرجت له ناشرة شعرها عريانة ، فجزلها بسيفه ، وأعلم النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال له : تلك العزى .
وقال صلى الله عليه و سلم : إن شيطاناً تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي ، فأمكنني الله منه ، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم ، فذكرت دعوة أخي سليمان : رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب . ف رده الله خاسئاً .
وهذا باب واسع.

 

فصل
من دلائل نبوته وعلامات رسالته

 

ومن دلائل نبوته وعلامات رسالته ما ترادفت به الأخبار عن الرهبان والأحبار وعلماء أهل الكتاب ، من صفته وصفة أمته ، واسمه وعلاماته ، وذكر الخاتم الذي بين كتفيه ، وما وجد من ذلك في أشعار الموحدين المتقدمين ، من شعر تبع ، و الأوس بن الحارثة ، وكعب ابن لؤي ، وسفيان بن مجاشع ، وقس بن ساعدة .
وما ذكر عن سيف بن ذي يزن وغيرهم ، وعرف به من أمره زيد بن عمرو بن نفيل ، و ورقة بن نوفل ، وعثكلان الحميري ، وعلماء يهود ، وشامول عالمهم صاحب تبع ـ من صفته وخبره .
وما ألفي من ذلك في التوراة والإنجيل مما قد جمعه العلماء وبينوه ، ونقله عنهما ثقاه من أسلم منهم ، مثل ابن سلام ، وابني سعية ، وابن يامين ، ومخيريق ، وكعب ، وأشباههم ممن أسلم من علماء يهود ، وبحيرا ، ونصطور الحبشة ، وصاحب بصرى ، وضغاطر ، وأسقف الشام ، والجارود ، وسلمان ، والنجاشي ، ونصارى الحبشة ، وأساقف نجران ، وغيرهم ممن أسلم من علماء النصارى .
وقد اعترف بذلك هرقل ، وصاحب رومة عالما النصارى ، ورئيساهم ، ومقوقس صاحب مصر ، والشيخ صاحبه ، وابن صوريا ، وابن أخطب ، وأخ وه ، وكعب بن أسد ، والزبير بن باطيا ، وغيرهم من علماء اليهود ، ممن حمله الحسد والنفاسة على البقاء على الشقاء .
والأخبار في هذا كثيرة لا تنحصر.
وقد قرع أسماع اليهود والنصارى بما ذكر أنه في كتبهم من صفته وصفة أصحابه ، واحتج عليهم بما انطوت عليه من ذلك صحفهم ، وذمهم بتحريف ذلك وكتمانه ، وليهم ألسنتهم ببيان أمره ، ودعوتهم إلى المباهلة على الكاذب ، فما منهم إلا من نفر عن معارضته ، وإبداء ما ألزمهم من كتبهم إظهاره .
ولو وجدوا خلاف قوله لكان إظهاره أهون عليهم من بذل النفوس والأموال وتخريب الديار ونبذ القتال ، وقد قال لهم : قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين [ سورة آل عمران /3 ، الآية : 93 ]
إلى ما أنذر به الكهان ، مثل شافع بن كليب ، وشق ، وسطيح ، وسراد بن قارب ، وخنافر ، وأفعى بحران ، وجذل بن جذل الكندي ، وابن خلصة الدوسي ، وسعدى بنت كريز ، وفاطمة بنت النعمان ، ومن لاينعد كثرة .
إلى ما ظهر على ألسنة الأصنام من نبوته ، وحلول وقت رسالته ، وسمع من هواتف الجان ، ومن ذبائح النصب ، وأجواف الصور ، وما وجد من اسم النبي صلى الله عليه و سلم والشهادة له بالرسالة مكتوباً في الحجارة والقبو ر بالخط القديم ما أكثره مشهور ، وإسلام من أسلم بسبب ذلك معلوم مذكور .

 

فصل
فيما ظهر من الأيات عند مولده

 

ومن ذلك ما ظهر من الآيات [ 132 ] عند مولده ، و ما حكته أمه و من حضره من العجائب ، و كونه رافعاً رأسه عندما وضعته شاخصاً ببصره إلى السماء ، و ما رأته من النور الذي خرج معه ولادته ، و ما رأته إذ ذاك أم عثمان بن أبي العاص من تدلي النجوم ، و ظهور النور عند ولادته ، حتى ما تنظر إلا النور .
و قول الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف : لما سقط صلى الله عليه و سلم على يدي و استهل سمعت قائلاً يقول : رحمك الله ، و أضاء لي ما بين المشرق و المغرب حتى نظرت إلى قصور الروم .
و ما تعرفت به حليمة وزوجها ظئراه من بركته ، و درور لبنها له ، و لبن شارفها و خصب غنمه ، و سرعة شبابه ، و حسن نشأته .
و ما جرى من العجائب ليلة مولده ، من ارتجاج إيوان كسرى ، و سقوط شرفاته ، و غيض بحيرة طبرية ، و خمود نار فارس ، وكان لها ألف عام لم تخمد .
و أنه كان إذا أكل مع عمه أبي طالب و آله و هو صغير سبعوا و روروا ، فإذا غاب فأكلوا في غيبته لم يشبعوا .
و كان سائر ولد أبي طالب يصبحون شعثاً و يصبح صلى الله عليه و سلم صقيلاً دهيناً كحيلاً .
[ قالت أم أيمن حاضنته : ما رأيته صلى الله عليه و سلم شكا ج وعاً قط و لا عطشاً صغيراً و لا كبيراً ] .
و من ذلك حراسة السماء بالشهب ، و قطع رصد الشياطين ، و منعهم استراق السمع .
و ما نشأ عليه من بعض الأصنام ، و العفة عن أمور الجاهلية ، و ما خصه الله به من ذلك و حماه حتى في ستره في الخبر المشهور عند بناء الكعبة ، إذ أخذ إزاره ليجعله على عاتقه ، ليحمل عليه الحجارة و تعرى ، فسقط إلى الأرض حتى رد إزاره عليه .
فقال له عمه : ما بالك ؟ فقال : إني قد نهيت عن التعري .
ومن ذلك إطلال الله له بالغمام في سفره .
و في رواية أن خديجة و نساؤها رأينه لما قدم ، و ماكان يظلانه ، فذكرت ذلك لميسرة ، فأخبرها أنه رأى ذلك منذ خرج معه في سفره .
[ وقد روي ان حليمة رأت غمامة تظله ، وهو عندها .
وروي ذلك عن أخيه من الرضاعة ] .
و من ذلك انه نزل في بعض أسفاره قبل مبعثه تحت شجرة يابسة ، فاعشوشب ما حولها و أينعت هي فأشرقت و تدلت عليه أغضانها بمحضر من رآه .
و ميل فيء الشجرة إليه في الخبر الآخر حتى أظلته .
و ما ذكر من أنه كان لا ظل لشخصيته في شمس و لا قمر ، لأنه كان نوراً .
و أن الذباب كان لا يقع على جسده و لا ثيابه .
و من ذلك تحبيب الخلوة إليه حتى أوحي إليه ، ثم إعلامه بموته و دنو أجله ، و أن قبره في المدينة و في بيته ، و أن بين بيته و منبره روضة من رياض الجنة ، و تخيير الله له عند موته ، و ما اشتمل عليه حديث الوفاة من كراماته ، و تشريفه ، وصلاة الملائكة على جسده على ما رويناه في بعضها .
و استئذان ملك الموت عليه ، و لم يستأذن على غيره قبله .
و نداؤهم الذي سمعوه ألا ينزعوا القميص عنه عند غسله .
و ما روي من تعزية الخضر و الملائكة أهل بيته عند موته .
إلى ما ظهر على أصحابه من كرامته و بركته في حياته و موته ، كاستسقاء عمر بعمه ، و تبرك غير واحد بذريته [ 133 ] .

 

فصل
معجزات نبينا أظهر من سائر معجزات الرسل من وجهين

 

قال القاضي أبو الفضل : قد أتينا في هذا الباب على نكت من معجزاته واضحة ، و جمل من علامات نبوته مقنعة ، في واحد منها الكفاية و الغنية ، و تركنا الكثير سوى ما ذكرنا ، و اقتصرنا من الأحاديث الطوال على عين الغرض و فص المقصد ، و من كثير الأحاديث و غريبها على ما صح و اشتهر إلا يسيراً من غريبه مما ذكره مشاهير الأئمة ، و حذفنا الإسناد في جمهورها ، طلباً للإختصار .
و يحسب هذا الباب لو تقصي أن يكون ديواناً جامعاً يشتمل على مجلدات عدة .
و معجزات نبينا صلى الله عليه و سلم أظهر من سائر معجزات الرسل بوجهين :
أحدهما : كثرتها ، و أنه لم يؤت نبي معجزةً إلا و عند نبينا مثلها ، أو ما هو أبلغ منها .
و قد نبه الناس على ذلك ، فإن أردته فتأمل فصول هذا الباب ، و معجزات من تقدم من الأنبياء ـ تقف على ذلك إن شاء الله تعالى .
و أما كونها كثيرة فهذا القرآن ، و كله معجز ، و أقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض أئمة المحققين سورة : إنا أعطيناك الكوثر ، أو آية في قدرها .
و ذهب بعضهم إلى أن كل آية منه كيف كانت معجزة .
و زاد آخرون أن كل جملة منتظمة منه مع جزة ، و إن كانت من كلمة أو كلمتين .
و الحق ما ذكرناه أولاً ، لقوله تعالى : قل فاتوا بسورة مثله ، فهو أقل ما تحداهم به ، مع ما ينصر هذا من نظر و تحقيق يطول بسطه .
و إذا كان هذا ففي القرآن من الكلمات نحو من سبعة و سبعين ألف كلمة و نيف على عدد بعضهم ، و عدد كلمات : إنا أعطيناك الكوثر عشر كلمات ، فتجزؤ القرآن على نسبة عدد إنا أعطيناك الكوثر أزيد من سبعة آلاف جزء ، كل واحد منها معجز في نفسه .
ثم إعجازه ـ كما تقدم ـ بوجهين : طريق بلاغته ، و طريق نظمه ، فصار في كل جزء من هذا العدد معجزتان ، فتضاعف العدد من هذا الوجه .
ثم فيه وجوه إعجاز أخر من الإخبار بعلوم الغيب ، فقد يكون في السورة الواحدة من هذه التجزئة الخبر عن أشياء من الغيب ، كل خبر منها بنفسه معجز ، فتضاعف العدد كرة أخرى .
ثم وجوه الإعجاز الأخر التي ذكرناها توجب التضعيف ، هذا في حق القرآن ، فلا يكاد يأخذ العد معجزاته ، و لا يحوي الحصر براهينه .
ثم الأحاديث الواردة ، و الأخبار الصادرة عنه صلى الله عليه و سلم في هذه الأبواب و عما دل على أمره مما أشرنا إلى جمله يبلغ نحواً من هذا .
الوجه الثاني : و ضوح معجزاته صلى الله عليه و سلم ، فإن معجزات الرسل كانت بقدر همم أهل زمانهم ، و بحسب الفن الذي سما فيه قرنه .
فلما كان موسى غاية أهل السحر بعث إليهم موسى بمعجزة تشبيه ما يدعون قدرتهم عليه ، فجاءهم منها ما خرق عادتهم ، و لم يكن في قدرتهم [134 ] ، و أبطل سحرهم .
و كذلك زمن عيسى أغنى ما كان الطب ، و أوفر ما كان أهله ، فجاءهم أمر لا يقدرون عليه ، و أتاهم ما لم يحتسبوه من إحياء الميت ، و إبراء الأكمه و الأبرص دون معالجة و لا طب .
و هكذا سائر معجزات الأنبياء .
ثم إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه و سلم ، و جملة معارف العرب و علومها أربعة : البلاغة ، و الشعر ، و الخبر ، و الكهانة ، فأنزل عليه القرآن الخارق لهذه الأربعة فصول من الفصاحة ، و الإيجاز ، و البلاغة الخارجة عن نمط كلامهم ، و من النظم الغريب ، و الأسلوب العجيب الذي لم يهتدوا في المنظوم إلى طريقه ، و لا علموا في أساليب الأوزان منهجه ، و من الأخبار عن الكوائن و الحوادث و الأسرار و المخبآت و الضمائر ، فتوجد على ما كانت ، و يعترف المخبر عنها بصحة ذلك و صدقه ، و إن كان أ'دى العدو .
فأبطل الكهانة التي تصدق مرةً و تكذيب عشراً ، ثم اجتثها من أصلها برحم الشهب ، و رصد النجوم .
و جاء من الأخبار عن القرون السالفة ، و أنباء الأنبياء ، و الأمم البائدة ، و الحوادث الماضية ـ ما يعجز من تفرغ لهذا العلم عن بعضه على الوجوه التي بسطناها و بينا المعجز فيها .
ثم بقيت هذه المعجزة الجامعة لهذا الوجوه إلى الفصول الأخر التي ذكرناها في معجزات القرآن ثابتةً إلى يوم القيامة بينة الحجة لكل أمة تأتي ، لا يخفى وجوه ذلك على من نظر فيه ، و تأمل وجوه إعجازه .
إلى ما أخبر به من الغيوب على هذه السبيل ، فلا يمر عصر و لا زمن إلا يظهر فيه صدقه بظهور مخبره على ما أخبر ، فيتجدد الإيمان ، و يتظاهر البرهان ، و ليس الخبر كالعيان كما قيل .
و للمشاهدة زيادة في اليقين ، و النفس أشد طمأنينة إلى عين اليقين منها إلى علم اليقين ، و إن كان كل عندها حقاً .
و سائر معجزات الرسل انقرضت بانقراضهم ، و عدمت بعدم ذواتها ، و معجزة نبينا صلى الله عليه و سلم لا تبيد و لا تنقطع ، و آياته تتجدد و لا تضمحل ، و لهذا أشار صلى الله عليه و سلم بقوله فيما حدثنا القاضي الشهيد أبو علي ، حدثنا القاضي أبو الوليد ، حدثنا أبو ذر ، حدثنا أبو محمد ، و أبو إسحاق ، و أبو الهيثم ، قالوا : حدثنا الفربري ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا الليث ، عن سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، و إنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي ، فأرجو أني أكثرهم تابعاً يوم القيامة .
هذا معنى الحديث عن بعضهم ، و هو الظاهر و الصحيح إن شاء الله .
و ذهب غير واحد من العلماء في تأويل هذا الحديث و ظهور معجزة نبينا صلى الله عليه و سلم إلى معنى آخر من ظهورها بكونها وحياً و كلاماً لا يمكن التخييل فيه ، و لا التحيل عليه ، و لا التشيبه ، فإن غيرها من معجزات الرسل قد رام المعاندون لها بأشياء طمعوا في التخييل بها على الضعفاء كإلقاء السحرة حبالهم و عصيهم [ 135 ] و شبه هذا مما يخيله الساحر ، أو يتحيل فيه .
و القرآن كلام ليس للحيلة و لا للسحر ، و لا التخييل فيه عمل ، فكان من هذا الوجه عندهم أظهر من غيره من المعجزات ، كما لا يتم لشاعر و لا لخطيب أن يكون شاعراً أو خطيباً بضرب من الحيل و التمويه .
و التأويل الأول أخلص و أرضى .
و في هذا التأويل الثاني ما يغمض عليه الجفن ، و يغضى .
و وجه ثا لث على مذهب من قال بالصرفة ، و أن المعارضة كانت في مقدور البشر ، فصرفوا عنها ، أو على أحد مذهبي أهل السنة من أن الإتيان بمثله من جنس مقدورهم ، و لكن لم يكن ذلك قبل ، و لا يكون بعد ، لأن الله تعالى لم يقدرهم ، و لا يقدرهم عليه .
و بين المذهبين فرق بين ، و عليهما جميعاً فترك العرب الإتيان بما في مقدورهم ، أو ما هو من جنس مقدورهم ، و رضاهم بالبلاء و الجلاء ، و السباء و الإذلال ، و تغيير الحال ، و سلب النفوس و الأموال ، و التقريع و التوبيخ ، و التعجيز و التهديد و الوعيد أبين آية للعجز عن الإتيان بمثله ، و النكول عن معارضته ، و أنهم منعوا عن شيء هو من جنس مقدورهم .
و إلى هذا ذهب الإمام أبو المعالي الجويني و غيره ، قال : و هذا عندنا أبلغ في خرق العادة بالأفعال البديعة في أنفسها ، كقلب العصا حيةً و نحوها ، فإنه قد يسبق إلى بال الناظر بداراً أن ذلك من اختصاص صاحب ذلك بمزية معرفة في ذلك الفن ، و فضل علم إلى أن يرد ذلك صحيح النظر .
و أما التحدي للخلائق مئين من السنين بكلام من جنس كلامهم ليأتوا بمثله فلم يأتوا ، فلم يبق بعد توفر الدواعي على المعارضة ثم عدمها إلا منع الله الخلق عنها بمثابة ما لو قال نبي : آيتي أن يمنع الله القيام عن الناس مع مقدرتهم عليه ، و ارتفاع الزمانة عنهم ، فكان ذلك ، و عجزهم الله تعالى عن القيام ـ لكان ذلك من أبهر آية ، و أظهر دلالة . و بالله التوفيق .
و قد غاب عن بعض العلماء وجه ظهور آيته على سائر آيات الأنبياء ، حتى احتاج للعذر عن ذلك بدقة أفهام العرب ، و ذكاء ألبابها ، و وفور عقولها ، و أنهم أدركوا المعجزة فيه بفطنتهم ، و جاءهم من ذلك بحسب إدراكهم ، و غيرهم من القبط و بني إسرائيل و غيرهم لم يكونوا بهذه السبيل ، بل كانوا من الغباوة و قلة الفطنة بحيث جوز عليهم فرعون أنه ربهم ، و جوز عليهم السامري ذلك في العجل بعد إيمانهم ، و عبدوا المسيح مع أجماعهم على صلبه ، و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم ، فجاءتهم من الآيات الظاهرة البينة للأبصار بقدر غلظ أفهامهم ما لا يشكون فيه ، و مع هذا فقالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة . و لم يصبروا على المن و السلوى ، و استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .
و العرب على جاهليتها أكثرها يعترف بالصانع ، و إنما كانت تتقرب بالأصنام إلى الله زلفى .
و منهم من آمن بالله وحده من قبل الرسول صلى الله عليه و سلم [ 136 ] بدليل عقله و صفاء لبه .
و لما جاءهم الرسول بكتاب الله فهموا حكمته ، و تبينوا بفضل إدراكهم لأول وهلة معجزته ، فآمنوا به ، و ازدادوا كل يوم إيماناً ، و رفضوا الدنيا كلها في صحبته ، و هجروا ديارهم و أموالهم ، و قتلوا آباءهم و أبناءهم في نصرته ، و أتى في معنى هذا بما يلوح له رونق ، و يعجب منه زبرج لو احتيج إليه و حقق ، لكنا قدمنا من بيان معجزة نبينا صلى الله عليه و سلم و ظهورها ما يغنى عن ركوب بطون هذه المسالك و ظهورها .
       و بالله أستعين . [ و هو حسبي ، و نعم الوكيل ] . 

 

 

 

آخر القسم الأول ، و يليه القسم الثاني



القسم الثاني
فيما يجب على الأنام من حقوقه عليه السلام

 

 

 

الباب الأول
في فرض الإيمان به و وجوب طاعته واتباع سنته

 

إذا تقرر بما تقدم ثبوت نبوته وصحة رسالته ، وجب الإيمان به وتصديقه فيما أتى به ، قال الله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا [ سورة التغابن / 64 : الآية 8 ] .
و قال : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله [ سورة الفتح / 48 : الآية : 8 ، 9 ] .
و قال : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [ سورة الأعراف / 7 ، الآية : 158 ] .
فالإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه و سلم واجب متعين لا يتم إيمان إلا به ، ولا يصح إسلام إلا معه ، قال الله تعالى : ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 13 ] .
حدثنا أبو محمد الخشني الفقيه بقراءتي عليه ، حدثنا الإمام أبو علي الطبري ، حدثنا عبد الغافر الفارسي ، حدثنا ابن عمرويه ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا أبو الحسين ، حدثنا أمية بن بسطام ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا روح ، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي وبما جئت به ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله .
قال القاضي أبوالفضل :
والإيمان به _ صلى الله عليه و سلم هو تصديق نبوته و رسالة الله له ، وتصديقه في جميع ما جا به و ما قاله ، و مطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان بأنه رسول الله ، فإذا اجتمع التصديق به بالقلب ، والنطق بالشهادة بذلك اللسان ، ثم الإيمان به والتصديق له كما ورد في الحديث نفسه من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
وقد زاده وضوحاً في حديث جبريل ، إذقال : أخبرني عن الإسلام ، قال النبي صلى الله عليه و سلم : أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ... وذكر أركان الإسلام .
فقد قرر أن الإيمان به محتاج إلى العقد بالجنان ، والإسلام به مضطر إلى النطق باللسان [ 137 ] .
وهذه الحال المحمودة التامة .
وأما الحال المذمومة فالشهادة باللسان دون تصديق القلب ، وهذا هو النفاق ، قال الله تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ، أي كاذبون في قولهم ذلك عن اعتقادهم وتصديقهم ، وهم لا يعتقدونه ، فلما لم تصدق ذلك ضمائرهم لم ينفعهم أن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، فخرجوا عن اسم الإيمان ، و لم يكن لهم في الآخرة حكمه ، إذ لم يكن معهم إيمان ، ولحقوا بالكافرين في الدرك الأسفل من النار ، وبقي عليهم حكم الإسلام ، بإظهار شهادة الإسلام ، في أحكام الدنيا المتعلقة بالأئمة وحكام المسلمين الذين أحكامهم على الظواهر ، بما أظهروه من علا مة الإسلام ، إذ لم يجعل للبشر سبيل إلى السرائر ، ولا أمروا بالبحث عنها ، بل نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن التحكم عليها ، و ذم ذلك ، و قال : هلا شققت عن قلبه .
و للفرق بين القول و العقد ما جعل في حديث جبريل : الشهادة من الإسلام ، والتصديق من الإيمان .
و بقيت حالتان أخريان بين هذين :
إحداهما ـ أن يصدق بقلبه ثم يخترم ـ قبل اتساع وقت للشهادة بلسانه ، فاختلف فيه ، فشرط بعضهم من تمام الإيمان القول و الشهادة به ، و رآه بعضهم مؤمناً مستوجباً للجنة ، لقوله صلى الله عليه و سلم : يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذر ة من إيمان ، فلم يذكر سوى ما في القلب .
و هذا مؤمن بقلبه ، غير عاص و لا مفرط بترك غيره .
و هذا هو الصحيح في هذا الوجه .
الثانية : أن يصدق بقلبه و يطول مهله ، و علم ما يلزمه من الشهادة ، فلم ينطق بها جملة و لا استشهد في عمره و لا مرة ، فهذا اختلف فيه أيضاً ، فقيل : هو مؤمن ، لأنه مصدق ، و الشهادة من جملة الأعمال ، فهو عاص بتركها غير مخلد في النار .
و قيل : ليس بمؤمن حتى يقارن عقده شهادة اللسان ، إذ الشهادة إنشاء عقد ، و التزام ايمان ، و هي مرتبطة مع العقد ، و لا يتم التصديق مع المهلة إلا بها .
و هذا هو الصحيح .
و هذا نبذ يفضي إلى متسع من الكلام في الإسلام و الإيمان و أبوابهما ، و في الزيادة فيهما و النقصان ، و هل التجزي ممتنع على مجرد التصديق لا يصح فيه جملة ، و إنما يرجع إلى ما زاد عليه من عمل ، و قد يعرض فيه لاختلاف صفاته و تباين حالاته ، من قوة يقين ، و تصميم اعتقاد ، و وضوح معرفة ، و دوام حالة ، و حضور قلب .
و في بسط هذا خروج عن غرض التأليف ، و فيما ذكرنا غنية فيما قصدنا إن شاء الله .

 

فصل
في وجوب طاعته

 

و أما وجوب طاعته ، فإذا وجب الإيمان به و تصديقه فيما جاء به وجبت طاعته ، لأن ذلك مما أتى به ، قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 20 ] .
و قال : قل أطيعوا الله والرسول [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 32 ] .
و قال : وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 132 ] .
و قال : وإن تطيعوه تهتدوا [ سورة النور / 24 ، الآية : 54 ] .
و قال : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ سورة النساء / 4 ، الآية : 80 ] .
و قال : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ سورة الحشر / 59 ، الآية : 7 ] .
و قال [ 138 ] : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [ سورة النساء / 4 ، الآية : 69 ] .
و قال : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ، فجعل تعالى طاعة رسوله طاعته ، و قرن طاعته بطاعته ، و وعد على ذلك بجزيل الثواب ، و أوعد على مخالفته بسوء العقاب ، و أوجب امتثال أمره ، و اجتناب نهيه .
قال المفسر ون و الأئمة : طاعة الرسول التزام سنته و التسليم لما جاء به .
و قالوا : و ما أرسل الله من رسول إلا فرض طاعته على من أرسله إليه .
و قالوا من يطع الرسول في سنته يطع الله في فرائضه .
و سئل سهل بن عبد الله عن شرائع الإسلام ، فقال : وما آتاكم الرسول فخذوه [ سورة الحشر / 59 ، الآية : 7 ] .
و قال السمرقندي : يقال : أطيعوا الله في فرائضه ، و الرسول في سنته . و قيل : أطيعوا الله فيما حرم عليكم ، و الرسول فيما بلغكم .
و يقال : أطيعوا الله بالشهادة له بالربوبية ، و النبي بالشهادة له بالنبوة .
حدثنا أبو محمد بن عتاب بقراءتي عليه ' حدثنا حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن خلف ، حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبدان ، أخبرنا عبد الله ، حدثنا يونس ، عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة ابن عبد الرحمن ـ أنه سمع أبا هريرة يقول : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من أطاعني فقد أطاع الله ، و من عصاني فقد عصى الله ، و من أطاع أميري فقد أطاعني ، و من عصى أميري فقد عصاني .
فطاعة الرسول من طاعة الله ، إذ الله أمر بطاعته ، فطاعته امتثال لما أم ر الله به ، و طاعة له .
و قد حكى الله عن الكفار في دركات جهنم : يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ، فتمنوا طاعته حيث لاينفعهم التمني .
و قال صلى الله عليه و سلم : نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، و إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
و في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه و سلم : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى .
قالوا : يارسول الله ، و من يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ، و من عصاني فقد أبى .
و في الحديث الأخر الصحيح ، عنه صلى الله عليه و سلم : مثلي و مثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً ، فقال : يا قوم ، إني رأيت الجيش بعيني ، و إني أنا النذير العريان ، فالنجاء ، فأطاعه طائفة من قومه ، فأدلجوا ، فانطلقوا ، فانطلقوا على مهلهم فنجوا ، و كذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ، فصبحهم ، الجيش فأهلكهم و اجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني ، و اتبع ما جئت به ، و مثل من عصاني و كذب ما جئت به من الحق .
و في الحديث الآخر في مثله : كمثل من بنى داراً و جعل فيها مأدبة ، و بعث داعياً ، فمن أجاب الداعي دخل الدار ، و آكل من المأد بة ، و من لم يجب الداعي لم يدخل الدار و لم يأكل من المأدبة ، فالدار الجنة ، و الداعي محمد صلى الله عليه و سلم ، فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله ، و من عصى محمداً فقد عصى الله ، و محمد فرق بين الناس . 

 

فصل
في وجوب اتباعه ، و امتثال أمره ، و الإقتداء بهديه

 

و أما وجوب اتباعه و امتثال سنته و الإقتداء بهديه ، فقد قال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم [ سورة آل عمران / 3 ، الآية 31 ] .
و قال : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [ سورة الأعراف / 7 ، الآية : 158 ] .
و قال : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ، أي ينقادون لحكمك ، يقال : سلم ، واستسلم ، و أسلم ، إذا انقاد .
و قال : لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد [ سورة الممتحنة / 60 ، الآية : 6 ] .
قال محمد بن علي الترمذي : الأسوة في الرسول الإقتداء به و الاتباع لسنته ، و ترك مخالفته في قول أو فعل .
و قال غير واحد من المفسرين بمعناه .
و قيل : هو عتاب للمتخلفين عنه .
و قال سهل ـ في قوله تعالى : صراط الذين أنعمت عليهم ـ قال : بمتابعة السنة ، فأمرهم تعالى بذلك ، و وعدهم الإهداء باتباعه ، لأن الله تعالى أ رسله بالهدى و دين الحق ليزكيهم الكتاب و الحكمة ، و يهديهم إلى صراط مستقيم ، و وعدهم محبته تعالى في الآية الأخرى و مغفرته إذا اتبعوه ، و آثروه على أهوائهم ، و ما تجنح إليه نفوسهم ، و أن صحة إيمانهم بانقيادهم له ، و رضاهم بحكمه ، و ترك الإعتراض عليه .
و روى عن الحسن أن أقواماً قالو ا : يا رسول الله ، إنا نحب الله . فأنزل الله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم [ سورة آل عمران /3 ، الآية : 31 ] .
و روي أن الآية نزلت في كعب بن الأشرف و غيره ، و أنهم قالوا : نحن أبناء الله و أحباؤه ، و نحن أشد حباً الله ، فانزل الله الآية .
و قال الزجاج : معناه إن كنتم تحبون الله أن تقصدوا طاعته ، فافعلوا ماأمركم به ، إذ محبة العبد الله و رسوله طاعته لهما ، و رضاه بما أمرا ، و محبة الله لهم عفوه عنهم ، و إنعامه عليهم برحمته .
و يقال : الحب من الله عصمة و توفيق ، و من العباد طاعة ، كما قال القائل :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه      هذا لعمري في القياس بديع
كان حبك صادقاً لأطعته       إن المحب لمن يحب مطيع
و يقال : محبة العب د الله تعظيمه له و هيبته منه ، و محبة الله له رحمته له ، و إرادته الجميل له ، و تكون بمعنى مدحه و ثنائه عليه .
قال القشيري : فإذا كان بمعنى الرحمة و الإرادة و المدح كان من صفات الذات .
و سيأتي بعد في ذكر محبة العبد غير هذا بحول الله تعالى .
حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر الفقيه ، قال : حدثنا أبو الأصبغ عيسى ابن سهل ، و حدثنا أبو الحسن يونس بن مغيث الفقيه بقراءتي عليه ، قالا : حدثنا حاتم بن محمد ، قال : حدثنا أيو حفص الجهني ، حدثنا أبو بكر الآجري ، حدثنا إبراهيم بن موسى الجوزي ، حدثنا داود بن رشيد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن ثور ، بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الرحمن بن عمرو الأسلمي ، و حجر الكلاعي ، عن العرباض بن سارية في حديثه في موعظة النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، و إياكم و محدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، و كل بدعة ضلالة .
زاد في حديث جابر بمعناه : و كل ضلالة في النار .
و في حديث أبي رافع عنه صلى الله عليه و سلم : لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري ، مما أمرت به ، أو نهيت عنه ، فيقول : [ 140 ] لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه .
و في حديث عائشة رضي الله عنها : صنع رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئاً ترخص فيه فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم ، فحمد الله ، ثم قال : ما بال قوم يتنزهون عن الشيءأصنعه ، فوالله إني لأعلمهم با الله ،و أشهدهم له خشية .
و روى عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : القرآن صعب على من كرهه ، و هو الحكم حدثنا فمن استمسك بحديثي و فهمه و حفظه جاء مع القرآن ، و من تهاون بالقرآن و حديثي خسر الدنيا والآخرة ، أمرت أمتي أن يأخذوا بقولي ، و يطيعوا أمري ، و يتبعوا سنتي ، فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن قال الله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب [ سورة الحشر / 59 ، الآية : 7 ] .
و قال صلى الله عليه و سلم : من اقتدى بي فهو مني ، و من رغب عن سنتي فليس مني .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن أحسن الحديث كتاب الله ، و خير الهدي هدي محمد و شر الأمور محدثاتها .
و عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : العلم ثلاثة : فما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة .
و عن الحسن بن أبي الحسن رضي الله عنه : قال صلى الله عليه و سلم : عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة .
و قال صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى يدخل العبد الجنة بالسنة تمسك بها .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد .
و قال صلى الله عليه و سلم : إن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين ملة ، و إن أمتي تفترق على ثلاث و سبعين ، كلها في النار إلا واحدة . قالوا : و من هم يا رسول الله ؟ قال : الذي انا عليه اليوم و أصحابي .
و عن أنس قال صلى الله عليه و سلم : من أحيا سنتي فقد أحياني ،و من أحياني كان معي في الجنة .
و عن عمرو بن عوف المزنى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لبلال بن الحارث : من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي ، فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ، ومن ابتدع بدعة ضلالة ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً .

 

فصل
فيما و رد عن السلف و الأئمة من اتباع سنته
و الإقتداء بهديه و سيرته

 

و أما ما و رد عن السلف و الأئمة من اتباع سنته و افقتداء بهديه و سيرته ، فحدثناالشيخ أبو عمر أن موسى بن عبد الرحمن بن أبي تليد الفقيه سماعاً عليه ، قال : حدثناأبو عمر الحافظ ، حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، و وهب بن مسرة ، قالا : حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن رجل منآل خالد بن أسيد ـ أنه سأل عبد الله بن عمر ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ،أنا نجدصلاة الخوف تعالى و صلاة الحضر في [ 141 ] القرآن ، و لا نجد صلاة السفر ؟ فقال ابنعمر : يا بن أخي ، إن الله بعث إلينا محمداً صلى الله عليه و سلم ، و لا نعلم شيئاً، فإنما نفعل كما رأيناه نفعل .
و قال عمر بن عبد العزيز : سن رسول الله صلى الله عليه و سلم و ولاة الأمر بعدهسنناً ، الأخذ بها تصديق بكتاب الله ، و استعمال بطاعة الله ، و قوة على دين الله ،ليس لأحد تغيرها و لا تبديلها و لا النظر في رأي من خالفها ، من اقتدى بها فهو مهتد، و من انتصر بها منصور ، و من خالفها و اتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، و أصل اه جهنم و ساءت مصيراً .
و قال الحسن بن أبي الحسن : عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة .
و قال ابن شهاب : بلغنا عن رجال من أهل العلم ، قالوا : الاعتصام بالسنة نجاة .
و كتب عمر بن الخطاب إلى عماله بتعلم السنة و الفرائض و اللحن ، أي اللغة ، و قال : إن ناساً يجادلوكم ـ يعني بالقرآن ، فخذوهم بالسنن ، فإن أصحاب السنن أعلم بكتابالله .
و في خبره ـ حين صلى بذي الحليفة ركعتين ، فقال : أصنع كما رأيت رسول الله صلى اللهعليه و سلم يصنع .
و عن علي ـ حين صلى فقال له عثمان : ترى أني انهي الناس عنه و تفعله ! قال : لم أكنأدع سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم لقول أحد من الناس .
و عنه : ألا إني لست بنبي و لا يوحى إلي ، و لكني أعمل بكتاب الله و سنة محمد صلىالله عليه و سلم ما استطعت .
و كان ابن مسعود يقول : القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة .
و قال ابن عمر : صلاة السفر ركعتان ، من خالف السنة كفر .
و قال أبي بن كعب : عليكم بالسبيل و السنة ، فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه ففاضت عيناه من خشية ربه ، فيعذبه الله أبداً ، و ما علىالأرض من عبد على السبيل و السنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلاكان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها ، فهي كذلك إذا أصابتها ريح شديدة ، فتحات عنهاورقها إلا حط الله خطاياه كما تحات عن الشجرة ورقها ، فإن اقتصاداً في سبيل و سنةخير من اجتهاد في خلاف سبيل و سنة ، و موافقة بدعة ، و انظروا أن يكون عملكم إن كاناجتهاداً و اقتصاداً أن يكون على منهاج الأنبياء و سنتهم .
و كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إلى عمر بحال بلده ، و كثرة لصوصه ، هل يأخذهمبالظنة أو يحملهم على البينة و ما جرت عليه السنة ؟
فكتب إليه عمر : خذهم بالبينة و ما جرت عليه السنة ، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهمالله .
و عن عطاء ـ في قوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول : أي إلى كتابالله و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و قال الشافعي : ليس في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا اتباعها .
و قال عمر ـ و نظر إلى الحجر الأسود : إنك حجر لا تنفع و لا [ 142 ] تضر ، و لولاأني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبلك ما قبلتك ، ثم قبله .
و رئي عبد الله بن عمر يدير ناقته في مكان ، فسئل عنه ، فقال : لا أدري إلا أنيرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فعله ، ففعلته .
و قال أبو عثمان الحيري : من أمر السنة على نفسه قولاً و فعلاً نطق بالحكمة ، و منأمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة .
و قال سهل التستري : أصول مذهبنا ثلاثة : الاقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم فيالأخلاق و الأفعال ، و الأكل من الحلال ، و إخلاص النية في جميع الأعمال .
و جاء في تفسير قوله تعالى : والعمل الصالح يرفعه ـ إنه الاقتداء برسول الله صلىالله عليه و سلم .
و حكي عن أحمد بن حنبل : قال : كنت يوماً مع جماعة تجردوا و دخلوا الماء ، فاستعملتالحديث من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر و لم أتجرد ،فرأيت تلك الليلة قائلاً لي : يا أحمد أبشر ، فإن الله قد غفر لك باستعمالك السنة ،و جعلك إماماً يقتدى بك .
قلت من أنت ؟ قال : جبريل .

 

فصل
في أن مخالفة أمره و تبديل سنته ضلال

 

و مخالفة أمره و تبديل سنته ضلال و بدعة متوعد من الله تعالى عليه بالخذلان و العذاب ، قال الله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ سورة النور 24 ، الآية : 63 ] .
و قال : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [ سورة النساء / 4 ، الآية : 115 ] .
حدثنا أبو محمد عبد الله بن أبي جعفر ، و عبد الرحمن بن عتاب بقراءتي عليهما ، قالا : حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن القابسي ، حدثنا أبو الحسين بن مسرور الدباغ ، حدثنا أحمد بن أبي سليمان ، حدثنا سحنون ابن سعيد ، حدثنا ابن القاسم ، حدثنا مالك ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إلى المقبرة ... و ذكر الحديث في صفة أمته ، و فيه : فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، فأناديهم : ألا هلم ، فيقال : إنهم قد بدلوا بعدك . فأقول : فسحقاً ، فسحقاً ، فسحقاً .
و روى عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من رغب عن سنتي فليس مني .
و قال : من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد .
و روى ابن أبي رافع ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه .
زاد في حديث المقدام : ألا و إن ما حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل ما حرم الله .
و قال صلى الله عليه و سلم ـ : و جيء بكتاب في كتف ـ : كفى بقوم حمقاً ـ أو قال : ضلالاً ـ أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى غير نبيهم ، أو كتاب غير كتابهم ، فنزلت : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون .
و قال صلى الله عليه و سلم : هلك المتنطعون .
و قال [ 143 ] أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعمل به إلا عملت به ، إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ .

 

الباب الثاني

 

في لزوم محبته صلى الله عليه و سلم

 

قال الله تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 24 ] .
فكفى بهذا حضاً و تنبيهاً و دلالة و حجة على إلزام محبته ، و وجوب فرضها ، و عظم خطرها ، و استحاقه لها صلى الله عليه و سلم ، إذ قرع تعالى من كان ماله و أهله و ولده أحب إليه من الله و رسوله ، و أوعدهم بقوله تعالى : فتربصوا حتى يأتي الله بأمره [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 24 ] .
ثم فسقهم بتمام الآية ، و أعلمهم أنهم ممن ضل و لم يهده الله .
حدثنا أبو علي الغساني الحافظ فيما أجازنيه ، و هو مما قرأته على غير واحد ، قال : حدثنا سراج بن عبد الله القاضي ، حدثنا أبو محمد الأصيلي تعالى حدثنا المروزي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يعقوب بن أبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس رضي الله عنه ـ أن رسول الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده و والده و الناس أجمعين .
و عن أبي هريرة نحوه .
و عن أنس ، عنه صلى الله عليه و سلم : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، و أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار .
و عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم : لأنت أحب إلي من شيء إلا نفسي التي بين جنبي .
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه .
فقال عمر : و الذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي .
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : الآن يا عمر .
قال سهل : من لم ير ولاية الرسول عليه في جميع الأحوال ، و يرى نفسه في ملكه صلى الله عليه و سلم لا يذوق حلاوة سنته ، لأن النبي صالى الله عليه و سلم قال لا يؤمن أحدكم حتى يكون أحب إليه من نفسه .

 

فصل
في ثواب محبته صلى الله عليه و سلم

 

حدثنا أبو محمد بن عتاب بقراءتي عليه ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن علي بن خلف ، حدثنا أبو زيد المروزي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن أنس رضي الله عنه -أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : متى الساعة يا رسول الله ؟ قال : ما أعددت لها ؟ قال : ما أعددت لها من كثير صلاة و لا صوم و لا صدقة ، و لكني أحب الله و رسوله . قال : أنت مع من أحببت .
و عن صفوان بن قدامة : هاجرت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأتيته ، فقلت : يا رسول الله ، ناولني يدك أبايعك . فناولني يده ، فقلت يا رسول الله ، إني أحبك . قال : المرء مع من أحب .
وروى هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه و سلم عبد الله بن مسعود تعالى و أبو موسى ، و أنس ، و عن أبي ذر بمعناه .
و عن علي أن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ بيد حسن و حسين ، فقال : من أحبني و أحب هذين و أباهما و أمهما كان معي في درجتي يوم القيامة .
وروي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، لأنت أحب إلي من أهلي و مالي ، و إني لأذكرك فما أصبرحتى أجيء فأنظر إليك ، و إني ذكرت موتي و موتك تعالى فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، و إن دخلتها لا أراك . فأنزل الله تعالى : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فدعا به فقرأها عليه .
وفي حديث آخر : كان رجل عند النبي صلى الله عليه و سلمينظر إليه لا يطرف ، فقال ما بالك ؟ قال : بأبي و أمي ! أتمتع من النظر إليك ، فإذا كان يوم القيامة رفعك الله بتفضيله ، فأنزل الله الآية .
و في حديث أنس رضي الله عنه : من أحبني كان معي في الجنة .

 

فصل
فيما روي عن السلف و الأئمة من محبتهم للنبي صلى الله عليه و سلم و شوقهم له

 

حدثنا القاضي الشهيد ، حدثنا الرازي ، حدثنا الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم ، حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن سهيل ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه -أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من أشد أمتي لي حباً يكونون بعدي ، يود أحدهم لو رآني بأهله و ماله .
و مثله عن أبي ذر .
و قد تقدم حديث عمر رضي الله عنه ، و قوله للنبي صلى الله عليه و سلم : لأنت أحب إلى من نفسي . و ما تقدم عن الصحابة في مثله .
و عن عمرو بن العاص رضي الله عنه : ما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن عبدة بنت خالد بن معدان ، قالت : ما كان خالد يأوي إلى فراش إلا و هو يذكر من شوقه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و إلى أصحابه من المهاجرين و الأنصار يسميهم و يقول : هم أصلي و فصلي ، و إليهم يحن قلبي ، طال شوقي ، فجعل رب قبضي إليك حتى يغلبه النوم .
وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم : و الذي بعثك بالحق لإسلام أبي طالب كان أقر لعيني من إسلامه -يعني أباه أبا قحافة ، و ذلك أن إسلام أبي طالب كان أقر لعينك .
ونحوه عن عمر بن الخطاب ، قاله للعباس رضي الله عنه : أن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب ، لأن ذلك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و عن ابن إسحاق ان امرأة من الأنصار قتل أبوها و أخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ما فعل رسول الله صلىالله عليه و سلم ؟ قالوا : خيراً ، هو بحمد الله كما تحبين . قالت : أرونيه حتى أنظر إليه . فلما رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل .
و سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه و سلم [ 145 ] و سلم ؟ قال : كان و الله أحب إلينا من اموالنا و أولادنا و أبائنا و أمهاتنا ، ومن الماء البارد على الظمأ .
و عن زيد بن أسلمك : خرج عمر رضي اللله عنه ليلة يحرس الناس ، فرأى مصباحاً في بيت ، و إذا عجوز تنفش صوفاً ، و تقول :
على محمد صلاة الأبرار       صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواماً بكاً بالأسحار       يا ليت شعري و المنايا أطوار
هل تجمعني و حبيبي الدار
تعني النبي صلى الله عليه و سلم .
فجلس عمر رضي الله عنه يبكي ، و في الحكاية ط ول .
وروي أن عبد الله بن عمر خدرت رجله تعالى فقيل له : اذكر أحب الناس إليك يزل عنك .
فصاح : يا محمداه ! فانتشرت .
و لما احتضر بلال رضي الله عنه نادت امرأته : و احزاناه ! فقال : واطرباه ! غداً ألقى الأحبة . محمداً و حزبه .
[ و مثله عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ] .
و يروى أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها : اكشفي لي قبر رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فكشفته لها تعالى فبكت حتى ماتت .
و لما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه قال ابو سفيان ابن حرب : أنشدك بالله يا زيد ، أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك تضرب عنقه ، و إنك في أهلك ؟
فقال زيد : و الله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة و إني جالس في أهلي .
فقال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ! .
وعن ابن عباس : كان المرأة إذا أتت النبي صلى الله عليه و سلم حلفها بالله : ما خرجت من بغض زوج و لا رغبة بأرض عن ارض ، وما خرجت إلا حباً لله ورسوله .
ووقف ابن عمر على ابن الزبير رضي الله عنهما بعد قتله تعالى فاستغفر له ، و قال : كنت و الله ما علمت صواماً قواماً تحب الله ور سوله .


فصل
في علامة محبته صلى الله عليه و سلم

 

اعلم أن من أحب شيئاً آثره و آثر موافقته ، و إلا لم يكن صادقاً في حبه ، و كان مدعياً . فالصادق في حب النبي صلى الله عليه و سلم من تظهر علامة ذلك عليه ، و أولها الاقتداء به ، و استعمال سنته ، و اتباع أقواله و أفعاله ، و اجتناب نواهيه ، والتأدب بآدابه في عسره و يسره ، و منشطه و مكرهه ، و شاهد هذا قوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ سورة آل عمران /3 ، الآية : 31 ] .
وإيثار ما شرعه و حض عليه على هوى نفسه تعالى و موافقة شهوته ، قال الله تعالى : والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ سورة الحشر /59 ، الآية : 9 ] .
و إسخاط العباد في رضا الله تعالى .
حدثنا القاضي أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو الحسن الصيرفي ، و أبو الفضل ابن خيرون ، قالا : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، حدثنا محمد بن محبوب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا مسلم بن حاتم ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، عن أبيه [ 146 ] عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال أنس ب ن مالك رضي الله عنه : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا بني ، إن قدرت أن تصبح و تمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل .
ثم قال لي : يا بني ، و ذلك من سنتي ، و من أحيا سنتي فقد أحبني ، و من أحبني كان معي في الجنة .
فمن اتصف بهذه الصفة فهو كامل المحبة لله و رسوله ، و من خالفها في بعض هذه الأمور فهو ناقص المحبة ، و لا يخرج عن اسمها .
و دليله قوله صلى الله عليه و سلم للذي حده في الخمر فلعنه بعضهم ، و قال : ما أكثر ما يؤتى به !
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تلعنه ، فإنه يحب الله و رسوله .
و من علامات محبة النبي صلى الله عليه و سلم كثرة ذكره له ، فمن أحب شيئاً أكثر ذكره .
و منها كثرة شوقه إلى لقائه ، فكل حبيب يحب لقاء حبيبه .
و في حديث الأشعريين عند قدومهم المدينة أنهم كانوا يرتجزوون : غداً نلقى الأحبة . محمداً و صحبه .
و تقدم قول بلال .
و مثله قال عمار قبل قتله . و ما ذكرناه من قصة خالد بن معدان .
و من علاماته مع كثرة ذكره رسول الله تعظيمه له و توفيره عند ذكره تعالى و إظهار الخشوع و الإنكسار مع سماع إسمه .
قال إسحاق التجيبي : كان أصحاب النبي ص لى الله عليه و سلم بعده لا يذكرونه إلا خشعوا و اقشعرت جلودهم و بكوا .
و كذلك كثير من التابعين منهم من يفعل ذلك محبة له و شوقاً إليه ، و منهم من يفعله تهيباً و توقيراً .
و منها محبته لمن أحب النبي صلى الله عليه و سلم ، ومن هو بسببه من آل بيته و صحابته من المهاجرين و الأنصار ، و عداوة من عاداهم ، و بغض من أبغضهم و سبهم ، فمن أحب شيئاً أحب من يحبه .
و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحسن و الحسين : اللهم أحبهما فأحبهما .
و في رواية -في الحسن : اللهم إني أحبه فأحب من يحبه .
و قال : من أحبهما فقد أحبني ، و من أحبني فقد أحب الله ، و من أبغضهما فقد أبغضني ، و من أبغضني فقد أبغض الله .
و قال : الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، و من أبغضهم فببغضي أبغضهم ، و من آذاهم فقد آذاني ، و من آذاني فقد آذى الله ، و من آذى الله يوشك أن يأخذه .
و قال رسول الله في فاطمة رضي الله عنها : إنها بضعة مني ، يغضبني ما أغضبها .
و قال لعائشة رسول الله قي أسامة بن زيد : أحبيه فإني أحبه .
و قال : آية الإيمان حب الأنصار ، و آية النفاق بغض هم .
و في حديث ابن عمر : من أحب العرب فبحبي أحبهم ، و من أبغضهم فببغضي أبغضهم ، فبالحقيقة من أحب شيئاً أحب كل شيء يحبه .
و هذه سيرة السلف حتى في المباحات و شهوات النفس .
و قد قال أنس حين رأى النبي صلى الله عليه و سلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة : فما زلت أحب الدباء من يومئذ .
و هذا الحسن بن علي ، و عبد الله بن عباس ، وابن جعفر ـ أتوا سلمى و سألوها أن تصنع لهم [ 147 ] طعاماً مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و كان ابن عمر يلبس النعال السبتية ، و يصبغ بالصفرة ، إذ رأى النبي صلى الله عليه و سلم يفعل نحو ذلك .
و منها بغض من أبغض الله ورسوله ، ومعاداة من عاداه ، ومجانبة من خالف سنته و ابتدع في دينه ، و استثقاله كل أمر يخالف شريعته ، قال الله تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله [ سورة المجادلة /58 ، الآية : 22 ] .
و هؤلاء أصحابه صلى الله عليه و سلم قد قتلوا أحباءهم ، و قاتلوا آباءهم و أبناءهم في مرضاته .
و قال له عبد الله بن عبد الله بن أبي : لو شئت لأتيتك برأسه -يعني أباه .
و منها ان يحب القرآن الذي أتي به صلى الله عليه و سلم ، و هذي به و اهتدى ، و تخلق به حتى قالت عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن ، و حبه للقرآن تلاوته ، و العمل به و تفهمه .
ويحب سنته ، و يقف عند حدودها .
قال سهل بن عبد الله : علامة حب الله حب القرآن ، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه و سلم ، وعلامة حب النبي صلى الله عليه و سلم حب السنة ، وعلامة حب السنة حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا ، وعلامة بغض الدنيا ألا يدخر منها إلا زاذاً وبلغة إلى الآخرة .
وقال ابن مسعود : لا يسأل أحد عن نفسه إلا القرآن ، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله .
ومن علامة حبه للنبي صلى الله عليه و سلم شفقته على أمته ، ونصحه لهم ، وسعيه في مصالحهم ، ورفع المضار عنهم ، كما كان الرسول صلى الله عليه و سلم بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً .
ومن علامة تمام محبته زهد مدعيها في الدنيا ، وإيثار الفقر ، واتصافه به .
وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي سعيد الخدري : إن الفقر إلى من يحبني منكم أسرع من السيل من أعلى الوادي ، أو الجبل إلى أسفله .
وفي حديث عبد الله بن مغفل : قال رجل للنبي صلى الله عليه و سلم يا رسول الله ، إني أحبك . فقال : انظ ر ما تقول . قال : والله إني أحبك ـ ثلاث مرات . قال : إن كنت تحبني فأعد للفقر تجفافاً .
ثم ذكر نحو حديث أبي سعيد بمعناه .

 

فصل
في معنى المحبة للنبي صلى الله عليه و سلم وحقيقتها

 

اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه و سلم ، وكثرت عباراتهم في ذلك ، و ليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ، و لكنها اختلاف أحوال :
فقال سفيان : المحبة اتباع الرسول صلى الله عليه و سلم ، كأنه التفت إلى قوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور
رحيم [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 31 ] .
وقال بعضهم : محبة الرسول اعتقاد نصرته ، والذب عن سنته ، والانقياد لها ، و هيبة مخالفته .
و قال بعضهم : المحبة : دوام الذكر للمحبوب .
و قال آخر : إيثار المحبوب .
و قال بعضهم : المحبة الشوق إلى المحبوب .
و قال بعضهم : المحبة مواطأة القلب لمراد الرب ، يحب ما أحب ، ويكره ما كره .
و قال آخر : المحبة ميل القلب إلى موافق له .
و أكثر العبارت المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها .
و حقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان ، و تكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه ، كحب الصور الجميلة ، والأصوات الحسنة ، والأطعمة والأشربة اللذيذة ، وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له ، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله و قلبه معاني باطنة شريفة ، كمحبة الصالحين و العلماء و أهل المعروف ، و المأثور عنهم السير الجميلة و الأفعال الحسنة ، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم ، و التشيع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان ، و هتك الحرم ، و احترام النفوس ، أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له و إنعامه عليه ، فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها .
فإذا تقرر هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه و سلم فعلمت أنه صلى
الله عليه و سلم جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة :
أما جمال الصورة و الظاهر ، و كمال الأخلاق و الباطن ، فقد قررنا منها قبل فيما مر في الكتاب ما لا يحتاج إلى زيادة .
و أما إحسانه و أنعامه على أمته فكذلك قد مر منه في أوصاف الله تعالى له من رأفته بهم ، و رحمته لهم ، و هدايته إياهم ، و شفقته عليهم ، و استنفاذهم به من النار ، و أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، و رحمة للعالمين ، و مبشراً و نذيراً ، و داعياً إلى الله بإذنه و سراجاً منيراً ، و يتلوا عليهم آياته ، و يزكيهم ، و يعلهم الكتاب و الحكمة ، و يهديهم إل ى صراط مستقيم .
فأي إحسان أجل قدراً ، و أعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين ؟ و أي إفضال أعم منفعة و أكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين ، إذ كان ذريعتهم إلى الهداية ، و منقذهم من العماية ، و داعيهم إلى الفلاح ، و وسيلتهم إلى ربهم ، و شفيعهم و المتكلم عنهم ، و الشاهد لهم ، و الموجب لهم البقاء الدائم و النعيم السرمد .
فقد استبان لك أنه صلى الله عليه و سلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً بما قدمناه من صحيح الآثار ، و عادة و جبلةً بما ذكرناه آنفاً ، لأفاضته الإحسان ، و عمومه الإجمال ، فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرةً أو مرتين معروفأً ، أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذي بها قليل منقطع ـ فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ، و وقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب .
و إذا كان يحب بالطبع ملك لحسن سيرته ، أو حاكم لما يؤثر من قوام طريقته ، أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته ـ فمن جمع هذه الخصال على غاية مراتب الكمال أحق بالحب ، و أولى بالميل .
و قد قال علي رضي الله عنه في صفته صلى الله عليه و سلم : من رآه بديهةً هابه ، و من خالطه معرفةً أحبه .
و ذكرنا عن بعض الصحابة أنه كان لايصرف بصره عنه محبةً فيه [ 149 ] .

 

فصل
في وجوب مناصحته صلى الله عليه و سلم

 

قال الله تعالى : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : ( 91 )] .
قال أهل التفسير : إذا نصحوا لله و رسوله : إذا كانوا مخلصين مسلمين في السر و العلانية .
حدثنا القاضي الفقيه أبو الوليد بقراءتي عليه ، حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا يوسف بن عبد الله ، حدثنا ابن عبد المؤمن ، حدثنا أبو بكر التمار ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا سهيل بن أبي صالح ، عن عطاء بن يزيد ، عن تميم الداري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الدين النصيحة . إن الدين النصيحة . إن الدين النصيحة . قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله و لكتابه و لرسوله ، و أئمة المسلمين و عامتهم واجبة .
قال أئمتنا : النصيحة لله و لرسوله و أئمة المسلمين و عامتهم واجبة .
قال الإمام سليمان البستي : النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة إرادة الخير للمنصوح له ، و ليس يمكن أن يعبر عنها بكلمة واحدة تحصرها . و معناها في اللغة الإخلاص ، من قولهم : نصحت العسل ، إذا خلصته من شمعه .
و قال أبو بكر بن أبي إسحاق الخفاف : النصح فعل الشيء الذي به الصلاح و الملاءمة ، مأخوذ من النصاح ، و هو الخيط الذي يخاط به الثوب .
و قال أبو إسحاق الزجاج نحوه .
فنصيحة الله تعالى صحة الاعتقاد له بالوحدانية ، و وصفه بما هو أهله ، و تنزيهه عما لا يجوز عليه ، و الرغبة في محابه ، و البعد من مساخطه ، و الإخلاص في عبادته .
و النصيحة لكتابه الإيمان به ، و العمل بما فيه ، و تحسين تلاوته ، و التخشع عنده ، و التعظيم له ، و تفهمه و التفقه فيه ، و الذب من تأويل الغالين ، و طعن الملحدين .
و النصيحة لرسوله التصديق بنبوته ، وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه ، قاله أبو سليمان .
و قال أبو بكر : و مؤازرته ونصرته وحمايته حياً و ميتاً ، و إحياء سنته بالطلب ، والذب عنها ، و نشرها ، والتخلق بأخلاقه الكريمة وآدابه الجميلة .
وقال أبو إبراهيم [ إسحاق ] التجيبي : نصيحة رسول الله صلى الله عليه و سلم التصديق بما جاء به ، و الاعتصام بسنته ، و نشرها ، و الحض عليها ، و الدعوة إلى الله و إلى كتابه و إلى رسوله ، و إليها و إلى العمل بها .
و قال أحمد بن محمد : من مفروضات ال قلوب اعتقاد النصيحة لرسول الله صلى الله عليه و سلم .
قال أبو بكر الآجري و غيره : النصح له يقتضي نصحين : نصحاً في حياته ، ونصحاً بعد مماته ، ففي حياته نصح أصحابه له بالنصر والمحاماة عنه و معاداة من عاداه ، والسمع و الطاعة له ، و بذل النفوس والأموال دونه ، كما قال الله تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 23 ] .
و قال : وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [ سورة الحشر / 59 ، الآية : 8 ] .
و أما نصيحة المسلمين له بعد وفاته فالتزام التوقير و الإجلال ، و شدة المحبة له ، و المثابرة على تعلم سنته [ 150 ] ، و التفقه في شريعته ، و محبة آل بيته و أصحابه ، و مجانبة من رغب عن سنته و انحرف عنها ، و بغضه و التحذير منه ، و الشفقة على أمته ، و البحث عن تعرف أخلاقه و سيره و آدابه ، و الصبر على ذلك .
فعلى ما ذكره تكون النصيحة إحدى ثمرات المحبة ، و علامة من علاماتها كما قدمنا .
و حكى الإمام أبو القاسم القشيري أن عمرو بن الليث أحد ملوك خراسان و مشاهير الثوار المعرف بالصفار ـ رئي في النوم ، فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي ، فقيل : بماذا ؟ قال : صعدت ذروة جبل يوماً فأشرفت على جنودي ، فأعجبتني كثرتهم ، فتمنيت أني حضرت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعنته ونصرته ، فشكر الله لي ذلك و غفر لي .
و أما النصح لأئمة المسلمين فطاعتهم في الحق ، و معونتهم فيه ، وأمرهم به ، و تذكيرهم إياه على أحسن وجه و تنبيههم على ما غفلوا عنه و كتم عنهم من أمور المسلمين ، و ترك الخروج عليهم ، و تضريب الناس و إفساد قلوبهم عليهم .
و النصح لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم ، و معونتهم في أمر دينهم و دنياهم بالقول و الفعل ، و تنبيه غافلهم ، و تبصير جاهلهم ، و رفد محتاجهم ، و ستر عوراتهم ، و دفع المضار عنهم ، و جلب المنافع إليهم .

 

الباب الثالث

 

في تعظيم أمره و وجوب توقيره و بره

 

قال الله تعالى : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا . لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 9 ] .
و قال يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله [ سورة الحجرات / 49 ، الآية : 1 ] .
و : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون * إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم * إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون [ سورة الحجرات / 49 ، الآية 2،4 ].
و قال تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا [ سورة النور /24 ، الآية : 63 ] .
فأوجب الله تعالى تعزيزه و توقيره ، و ألزم إكرامه و تعظيمه .
قال ابن عباس : تعزروه : تجلوه . و قال المبرد : تعزروه : تبالغوا في تعظيمه .
و قال الأخفش : تنصرونه . و قال الطبري :تعينونه .
و قرىء : تعززوه ـ بزايين ـ من العز .
و نهي عن التقدم بين يديه بالقول ، و سوءالأدب بسبقه بالكلام ، على قول ابن عباس و غيره ، و هو اختيار ثعلب .
قال سهل بن عبد الله : لا تقولوا قبل أن يقول ، و إذا قال فاستمعوا له و أنصتوا .
و نهوا عن التقدم و التعجل بقضاء أمر قبل قضائه فيه ، و أن يفتاتوا يشيء في ذلك من قتال أو غيره من أمر دينهم ، و لا يسبقوه به .
و إلى هذا يرجع قول الحسين ، و مجاهد ، و الضحاك ، و السدي ، و الثوري .
ثم و عظهم و حذرهم مخالفة ذلك ، فقال : واتقوا الله إن الله سميع عليم
قال الماوردي : اتقوا ـ يعني في التقدم .
و قال السلمي : اتقوا الله في إهمال حقه و تضييع حرمته ، إنه سميع لقولكم ، عليم بفعلكم .
ثم نهاهم عن رفع الصوت فوق صوته ،و الجهر له بالقول كما يجهر بعضهم لبعض و يرفع صوته .
و قيل : كما ينادي بعضهم [151] بعضاً باسمه .
قال أبو محمد مكي : أي لا تسابقوه بالكلام ، و تغلظوا له بالخطاب ، و لا تنادوه باسمه نداء بعضكم بعضاً ، و لكن عظموه و نادوه بأشرف ما يحب أن ينادي به : يا رسول الله يا نبي الله .
و هذا كقوله في الآية الأخرى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا على أحد التأويلين .
و قال غيره لا تخاطبوه إلا م ستفهمين .
ثم خوفهم الله تعالى بحبط أعمالهم إن هم فعلوا ذلك ، و حذرهم منه .
و قيل : نزلت الآية في وفد بني تميم ـ و قيل : في غيرهم ، أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فنادوه : يا محمد ، يا محمد ، اخرج إلينا . فذمهم الله تعالى بالجهل ، و وصفهم بأن أكثرهم لا يعقلون .
و قيل : نزلت الآية في محاورة كانت بين أبي بكر و عمر بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم ، و اختلاف جرى بينهما ، حتى ارتفعت أصواتها .
و قيل : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي صلى الله عليه و سلم في مفاخرة بني تميم ، و كان في أذنيه صمم ، فكان يرفع صوته ، فلما نزلت هذه الآية أقام في منزله ، و خشي أن يكون حبط عمله ، ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا نبي الله ، لقد خشيت أن أكون هلكت ، نهانا الله أن نجهر بالقول ، و أنا امرؤ جهير الصوت .
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أما ترضى أن تعيش حميداً ، و تقتل شهيداً ، و تدخل الجنة ! فقتل يوم اليمامة .
وروي أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال : و الله يا رسول الله ، لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار .
وأن عمر كان إذا حدثه كأخي السرار ،ما كان يسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، فأنزل الله تعالى فيهم : إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم [ سورة الحجرات /49 ، الآية : 3 ] .
و قيل : نزلت : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ـ في غير بني تميم ، نادوه باسمه :
وروى صفوان بن عسال : بينا النبي صلى الله عليه و سلم في سفر إذا ناداه أعرابي بصوت له جهوري : أبا محمد . قلنا له : اغضض من صوتك ، فإنك قد نهيت عن رفع الصوت .
و قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 104 ] .
قال بعض المفسرين : هي لغة كانت في الأنصار ، نهوا عن قولها تعظيماً للنبي صلى الله عليه و سلم ، و تبجيلا له ، لأن معناها : ارعنا نرعك ، فنهوا عن قولها ، إذا مقتضاها كأنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم ، بل حقه أن يرعى على كل حال .
و قيل : كانت اليهود تعرض بها للنبي صلى الله عليه و سلم بالرعونة ، فنهى المسلمون عن قولها ، قطعاً للذريعة ، و منعاً للتشبيه بهم في قولها ، لمشاركة اللفظة . و قيل غير هذا .

 

فصل : في عادة الصحابة في تعظيمه و توقيره [ 152 ] و إجلاله
حدثنا القاضي أبو علي الصدفي ، و أبو بحر الأسدي بسماعي عليهما في آخرين ، قالوا : حدثنا أحمد بن عمر ، حدثنا أحمد بن الحسن ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن سفيان ، حدثنا مسلم ، حدثنا محمد بن مثنى ، و أبو معن الرقاشي ، و إسحاق بن منصور ، قالوا حدثنا الضحاك بن مخلد ، أخبرنا حيوة بن شريح ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن شماسة المهري ، قال : حضرنا عمر ابن العاص ...
فذكر حديثاً طويلاً فيه عن عمرو ، قال : و ما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و لا أجل في عيني منه ، و ما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ، و لو سئلت أن أصفه ما أطقت ، لأني لم أكن أملا عيني منه .
و روى الترمذي عن أنس ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يخرج على أصحابه من المهاجرين و الأنصار و هم جلوس ، فيهم أبو بكر ، و عمر ، فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر و عمر ، فإنهما كانا ينظران إليه و ينظر إليهما ، و يتبسمان إليه و يبتسم إليهما .
و روى أسامة بن شريك ، قال أتيت النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه حوله كأنما ع لى رؤوسهم الطير .
وفي حديث صفته : إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير .
و قال عروة بن مسعود ـ حين و جهته قريش عام القضية إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و رأى من تعظيم أصحابه له ما رأى ، و أنه لا يتوضأ إلا ابتدروا و ضوءه ، و كادوا يقتتلون عليه ، و لا يبصق بصاقاً ، و لا يتنخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها و جوههم و أجسادهم ، و لا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها ، و إذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره ،و إذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، و ما يحدون إليه النظر تعظيماً له .
فلما رجع إلى قريش قال : يا معشر قريش ، إني جئت كسرى في ملكه ، و قيصر في ملكه و النجاشي في ملكه ، و إني و الله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه .
و في رواية : إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم محمداً أصحابه . و قد رأيت قوماً لا يسلمونه أبداً .
و عن أنس : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و الحلاق يحلقه ، و قد أطاف به أصحابه ، فما يريدون أن تقع شعره إلا في يد رجل .
و من هذا لما أذنت قريش لعثمان في الطواف بالبيت حين وجهه النبي صلى الله عليه و سلم إليهم في القضية أبى ، و قال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و في حديث طلحة : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا لأعرابي جاهل : سله عمن قضلى نحبه ـ و كانوا يهابونه و يوقرونه ، فسأله ، فاعرض عنه ، إذ طلع طلحة ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذا ممن قض نحبه .
و في حديث قيلة : فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم جالساً القرفصاء أرعدت من الفرق و ذلك [ 153 ] هيبة له و تعظيماً .
و في حديث المغيرة : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرعون بابه بالأظافير .
و قال البراء بن عازب : لقد كنت أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الأمر فأؤخره سنين من هيبته .

 

فصل
في تعظيم النبي بعد موته

 

و اعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه و سلم بعد موته ، و توقيره و تعظيمه ، لازم كما كان حال حياته ، و ذلك عند ذكره صلى الله عليه و سلم ، و ذكر حديثه و سنته ، و سماع اسمه و سيرته ، و معاملة آله و عترته ، و تعظيم أهل بيته و صحابته .
و قال أبو إبراهيم التجيبي : واجب على كل مؤمن متى ذكره ، أو ذكر عنده ـ أن يخضع و يخشع ، و يتوقر و يسكن من حركته ، و يأخذ في هيبته و إجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه ، و يتأدب بما أدبنا الله به .
قال القاضي أبو الفضل : و هذه كانت سيرة سلفنا الصالح و أئمتنا الماضين رضي الله عنهم .
حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأشعري ، و أبو القاسم أحمد ابن بقي الحاكم ، و غير واحد ، فيما أجازونيه ، قالوا : أنبأنا أبو العباس أحمد بن عمر ابن دلهاث ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن فهر ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد ابن الفرج ، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب ، حدثنا يعقوب بن إسحاق ابن أبي إسرائيل ، حدثنا ابن حميد ، قال ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ، لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإن الله تعالى أدب قوماً فقال : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ سورة الحجرات / 49 ، الآية : 2 ] .
و مدح قوماً فقال : إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم [ سورة الحجرات / 49 ، الآية : 3 ] .
و ذم قوماً فقال : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون و إن حرمته كحرمته حياً .
فاستكان لها أبو جعفر ، و قال : يا أبا عبد الله ، أأستقبل القبلة و أدعوا أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : و لم تصرف وجهك عنه و هو وسيلتك و وسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة ؟ بل استقبله و استشفع به ، فيشفعك الله ، قال الله تعالى : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما [ سورة النساء / 4 ، الآية : 64 ] .
و قال مالك ـ وقد سئل عن أيوب السختياني : ما حدثتكم عن أحد إلا و أيوب أفضل منه :
و قال : وحج حجتين ، فكنت أرمقه و لا أسمع منه ، غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه و سلم بكى حتى أرحمه .
فلما رأيت منه ما رأيت ، و إجلاله للنبي صلى الله عليه و سلم كتب عنه .
و قال مصعب بن عبد الله : كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه و سلم يتغير لونه ، و ينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه ، فقيل له يوماً في ذلك ، فقال لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون ، و لقد كنت أرى محمد ابن المنكدر ، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه .
و لقد كنت أرى جعفر بن محمد الصادق ، و كان كثير الدعابة و التبسم ، فإذا ذكر [ 154 ] عنده النبي صلى الله عليه و سلم اصفر . و ما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا على طهارة .
و قد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال : إما مصلياً ، و إما صامتاً ، و إما يقرأ القرآن ، و لا يتكلم فيما لا يعنيه ، و كان من العلماء و العباد الذين يخشون الله عز و جل .
و لقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه و سلم فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم ، و قد جف لسانه في فمه هيبةً لرسول الله صلى الله عليه و سلم .
و لقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذ ا ذكر عنده النبي صلى الله عليه و سلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع .
و لقد رأيت الزهري ـ و كان من أهنأ الناس و أقربهم ، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه و سلم فكأنه ما عرفك و لا عرفته .
و لقد كنت آتي صفوان بن سليم ، و كان من المتعبدين المجتهدين ، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه و سلم بكى ، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه و يتركوه .
و روي عن قتادة أنه كان إذا سمع الحديث أخذه العويل و الزويل .
و لما كثر على مالك الناس قيل له : لو جعلت مستملياً يسمعهم ؟ فقال : قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي و حرمته حياً و ميتاً سواء .
[ و كان ابن سيرين ربما يضحك ، فإذا ذكر عنده حديث النبي صلى الله عليه و سلم خشع ] .
و كان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث النبي صلى الله عليه و سلم أمرهم بالسكوت ، و قال : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، و يتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله .

 

فصل
في سيرة السلف في تعظيم رواية حديث الرسول و سننه

 

حدثنا الحسين بن محمد الحافظ ، حدثنا أبو الفضل بن خيرون ، حدثنا أبو بكر البرقاني و غيره ، حدثنا أبو الحسن الدار قطني ، حدثنا علي بن مبشر ، حدثنا أحمد ابن سنان القطان ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا المسعودي ، عن مسلم البطين ، عن عمرو بن ميمون ، قال : اختلفت إلى ابن مسعود سنةً ، فما سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ، إلا أنه حدث يوماً فجرى على لسانه : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ثم علاه كرب ، حتى رأيت العرق يتحدر عن جبهته ، ثم قال : هكذا إن شاء الله ، أو فوق ذا ، أو ما دون ذا ، أو ما هو قريب من ذا .
و في رواية : فتربد وجهه .
و في رواية : و قد تغرغرت عيناه ، و انتفخت أوداجه .
و قال إبراهيم بن عبد الله بن قريم الأنصاري قاضي المدينة : مر مالك بن أنس على أبي حازم ، و هو يحدث ، فجازه ، و قال : إني لم أجد موضعاً أجلس فيه ، فكرهت أن آخذ حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا قائم .
و قال مالك : جاء رجل إلى ابن المسيب ، فسأله عن حديث و هو مضطجع ، فجلس و حدثه ، فقال له الرجل : و ددت [ 155 ] أنك لم تتعن ، فق ال : إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا مضطجع .
[ و روي عن محمد بن سيرين أنه قد يكون يضحك ، فإذا ذكر عنده حديث النبي صلى الله عليه و سلم خشع ] .
و قال أبو مصعب : كان مالك بن أنس لا يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا و هو على وضوء ، إجلالاً له .
و حكى مالك ذلك عن جعفر بن محمد .
و قال مصعب بن عبد الله : كان مالك بن أنس إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم توضأ و تهيأ ، و لبس ثيابه ، ثم يحدث .
قال مصعب : فسئل عن ذلك ، فقال : إنه حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم .
قال مطرف : كان إذا أتى الناس مالكاً خرجت إليهم الجارية فتقول لهم : يقول لكم الشيخ : تريدون الحديث أو المسائل ؟ فغن قالوا المسائل خرج إليهم ، و إن قالوا الحديث دخل مغتسله ، و اغتسل و تطيب ، و لبس ثياباً جدداً ، و لبس ساجه و تعمم ، و وضع على رأسه رداء ، و تلقى له منصة ، فيجرخ فيجلس عليها ، و عليه الخشوع ، و لا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم .
قال [ غيره ] : و لم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم .
قال ابن أب ي أويس : فقيل لمالك في ذلك ، فقال : أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و لا أحدث به إلا عن طهارة متمكناً .
قال : و كان يكره أن يحدث في الطريق ، أو و هو قائم ، أو مستعجل .
و قال : أحب أن أفهم حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم .
[ قال ضرارة بن مرة : كانوا يكرهون أن يحدثوا بحديث على غير وضوء .
و نحوه عن قتادة .
و كان الأعمش إذا حدث و هو على غير وضوء تيمم .
و كان قتادة لا يحدث إلا على طهارة ، ولا يقرأ حديث النبي صلى الله عليه و سلم إلا على وضوء ] .
قال عبد الله بن مبارك : كنت عند مالك ، و هو يحدثنا ، فلدغته عقرب ست عشرة مرةً ، و هو يتغير لونه و يصفر و لا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم .
فلما فرغ من المجلس ، و تفرق الناس عنه قلت له : يا أبا عبد الله ، لقد رأيت اليوم منك عجباً . قال: نعم ، لدغتني عقرب ست عشرة مرة ، و أنا صابر في جميع ذلك ، و إنما صبرت إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم .
قال ابن مهدي : مشيت يوماً مع مالك إلى العقيق ، فسألته عن حديث ، فانتهزني و قال لي : كنت في عيني أجل من أن تسأل عن حديث رسول الله صلى الله عليه و س لم و نحن نمشي .
و سأله جرير بن عبد الحميد القاضي عن حديث و هو قائم ، فأمر بحبسه ، فقيل له : إنه قاض . قال : القاضي أحق من أدب .
و ذكر أن هشام بن هشام بن الغازي سأل مالكاً عن حديث و هو واقف فضرب عشرين سوطاً ، ثم أشفق عليه ، فحدثه عشرين حديثاً ، فقام هشام : وددت لو زادني سياطاً و يزيدني حديثاً .
قال عبد الله بن صالح : كان ماك و الليث لا يكتبان الحديث إلا وهما طاهران .
و كان قتادة يستحب ألا تقرأ أحاديث النبي صلى الله عليه و سلم [ 156 ] إلا على وضوء ، و لا يحدث إلا على طهارة .
و كان الأعمش إذا أراد أن يحدث و هو على وضوء تيمم .

 

فصل
في توقيره ، و بر آله ، و ذريته ، و أمهات المؤمنين أزواجه

 

ومن توقيره صلى الله عليه و سلم وبره ـ بر آله و ذريته و أمهات المؤمنين أزواجه ، كما حض عليه صلى الله عليه و سلم ، و سلكه السلف الصالح رضي الله عنهم .
قال الله تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 33 ] .
و قال تعالى : وأزواجه أمهاتهم [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 6 ] .
أخبرنا الشيخ أبو محمد بن أحمد العدل من كتابه ، و كتبت من أصله : حدثنا أبو الحسن المقرئ الفرغاني ، حدثتني أم القاسم بنت الشيخ أبي بكر الخفاف ، قالت : حدثني أبي ، حدثنا حاتم ـ هو ابن عقيل ، حدثنا يحيى ـ هو ابن إسماعيل ، حدثنا يحيى ـ هو الحماني ، حدثنا وكيع ، عن أبيه ، عن سعيد بن مسروق ، عن يزيد بن حيان ، عن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنشدكم رسول الله أهل بيتي . . . ثلاثاً .
قلنا لزيد : من أهل بيته ؟ قال : آل علي ، و آل جعفر ، و آل عقيل ، و آل العباس .
و قال صلى الله عليه و سلم : إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا : كتاب الله ، و عترتي أهل بيتي ، فانظر وا كيف تخلفوني فيهما .
و قال صلى الله عليه و سلم : معرفة آل محمد صلى الله عليه و سلم براءة من النار ، و حب آل محمد جواز على الصراط ، و الولاية لآل محمد أمان من العذاب .
قال بعض العلماء : معرفتهم هي معرفة مكانهم من النبي صلى الله عليه و سلم ، و إذا عرفهم بذلك عرف وجوب حقهم و حرمتهم بسببه .
و عن عمر بن أبي سلمة : لما نزلت : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ـ و ذلك في بيت أم سلمة ـ دعا فاطمة و حسنا و حسينا ، فجللهم بكساء ، و علي خلف ظهره [ فجلله بكسائه ] ، ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس ، و طهرهم تطهيرا .
و عن سعد بن أبي وقاص : لما نزلت آية المباهلة دعا النبي صلى الله عليه و سلم عليا و حسناً و الحسين و فاطمة ، و قال : اللهم هؤلاء أهلي .
و قال النبي صلى الله عليه و سلم في علي : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم و ال من والاه ، و عاد من عاداه .
و قال فيه : لا يحبك إلا مؤمن ، و لا يبغضك إلا منافق .
و قال للعباس و الذي نفسي بيده ، لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله و لرسوله . و من آذى عمي فقد آذاني ، و إنما ع م الرجل صنو أبيه .
و قال العباس : اغد علي يا عم مع ولدك ، فجمعهم و جللهم بملاءته ، و قال : هذا عمي و صنو أبي ، و هؤلاء أهل بيتي ، فاسترهم من النار كستري إياهم فأمنت أسكفة الباب و حوائط البيت : آمين . آمين .
و كان يأخذ أسامة بن زيد ، و الحسن ، و يقول : اللهم إني أحبهما فأحبهما .
و قال أبو بكر : ارقبوا محمداً في أهل بيته .
و قال أيضاً : و الذي نفسي بيده لقرابة [ 157 ] رسول الله صلى الله عليه و سلم أحب إلي أن أصل من قرابتي .
و قال صلى الله عليه و سلم : أحب الله من أحب حسناً و حسيناً .
و قال : من أحبني و أحب هذين ـ و أشار إلى حسن و حسين و أباهما و أمهما ـ كان معي في درجتي يوم القيامة .
و قال صلى الله عليه و سلم : من أهان قريشاً أهانه الله .
و قال صلى الله عليه و سلم : قدموا قريشاً و لا تقدموها .
و قال صلى الله عليه و سلم لأم سلمة : لا تؤذيني في عائشة .
و عن عقبة بن الحارث : رأيت أبا بكر رضي الله عنه ، و جعل الحسن على عنقه و هو يقول : بأبي شيبه بالنبي ، ليس شبيهاً بعلي ـ و علي رضي الله عنه يضحك .
و روي عن عبد الله بن الحسن بن حسين ، قال : أت يت عمر بن عبد العزيز في حاجة ، فقال : لي : إذا كانت لك حاجة فأرسل إلي أو اكتب ، فإني أستحيي من الله أن يراك على بابي .
و عن الشعبي : صلى زيد بن ثابت على جنازة أمه ، ثم قربت له بغلته ليركبها ، فجاء ابن عباس فأخذ بركابه ، فقال زيد : خل عنه يا بن عم رسول الله . فقال : هكذا نفعل بالعلماء . فقبل زيد يد ابن عباس ، و قال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا .
و رأى ابن عمر محمد بن أسامة بن زيد ، فقال : ليت هذا عبدي ، فقيل له : هو محمد بن أسامة . فطأطأ ابن عمر رأسه و نقر بيده الأرض ، و قال : لو رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم لأحبه .
و قال الأوزاعي : دخلت بنت أسامة بن زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم على عمر بن عبد العزيز و معها مولى لها يمسك بيدها ، فقام لها عمر ، و مشى إليها حتى جعل يدها بين يديه ، و يداه في ثيابه ، و مشى بها حتى أجلسها على مجسله ، و جلس بين يديها ، و ماترك لها حاجةً إلا قضاها .
و لما فرض عمر بن الخطاب لابنه عبد الله في ثلاثة آلاف ، و لأسامة بن زيد في ثلاثة آلاف و خمسمائة ـ قال عبد الله لأبيه : لم فضلته ، فو الله ما سبقني إلى مشهد ؟ فقال له : لأن زيداً كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من أبيك ، و أسامة أحب إليك منك ، فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه و سلم على حبي .
و بلغ معاوية أن كابس بن ربيعة يشبه برسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلما دخل عليه من باب الدار قام عن سريره و تلقاه و قبل بين عينيه ، و أقطعه المرغاب لشبهه صورة رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و روي أن مالكاً رحمه الله لما ضربه جعفر بن سليمان ، و نال منه ما نال ، و حمل مغشياً عليه دخل عليه الناس فأفاق ، فقال : أشهدكم أني جعلت ضاربي في حل .
فسئل بعد ذلك ، فقال : خفت أن أموت ، فألقى النبي صلى الله عليه و سلم ، فأستحي منه أن يدخل بعض آله النار بسببي .
و قيل : إن المنصور أقاده من جعفر ، فقال له : أعوذ بالله ! و الله ما ارتفع منها سوط عن جسمي [ 158 ] إلا و قد جعلته في حل لقرابته من رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و قال أبو بكر بن عياش : لو أتاني أبو بكر و عمر و علي لبدأت بحاجة علي قبلهما ، لقرابته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أقدمه عليهما .
و قيل لابن عباس : ما تت فلانة ـ لبعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم ، فسجد ، فقيل له : أتسجد هذه الساعة ؟ فقال : أليس قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا رأيتم آيةً فاسجدوا و أي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي صلى الله عليه و سلم .
[ و كان أبو بكر و عمر يزوران أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه و سلم ، و يقولان : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يزورهما .
و لما وردت حليمة السعدية على النبي صلى الله عليه و سلم بسط لها رداءه و قضى حاجتها ، فلما توفي وفدت على أبي بكر و عمر فصنعا بها مثل ذلك ] .

 

فصل
من توقيره و بره توقير أصحابه و برهم

 

و من توقيره و بره صلى الله عليه و سلم ـ توقير أصحابه و برهم و معرفة حقهم ، و الاقتداء بهم ، و حسن الثناء عليهم ، و الاستغفار لهم ، و الإمساك لهم ، و الإمساك عما شجر بينهم ، و معاداة من عاداهم ، و الإضراب عن أخبار المؤرخين ، و جهلة الرواة ، و ضلال الشيعة و المبتدعين القادحة في أحد منهم ، و أن يلتمس لهم فيما نقل عنهم من مثل ذلك فيما كان بينهم من الفتن أحسن التأويلات ، و يخرج لهم أصواب المخارج : إذ هم أهل ذلك ، و لا يذكر أحد منهم بسوء ، و لا يغمص عليه أمر ، بل تذكر حسناتهم و فضائلهم ، و حميد سيرتهم ، و يسكت عما وراء ذلك ، كما قال صلى الله عليه و سلم : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا .
قال الله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 29 ] .
و قال : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 100 ] .
و قال الله تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 18] .
و قال : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 23 ] .
حدثنا القاضي أبو علي ، حدثنا أبو الحسين ، و أبو الفضل ، قالا : حدثنا أبو يعلى ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا محمد بن محبوب ، حدثنا الترمذي ، حدثنا الحسن بن الصباح ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن زائدة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر ، و عمر .
و قال : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم .
و عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مثل أصحابي كمثل الملح في الطعام ، لا يصلح الطعام إلا به .
و قال : الله لله في اصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، و من أبغضهم فببغضي أبغضهم ، و من آذاهم فقد آذاني ، و من آذاني فقد آذى الله ، و من آذى الله يوشك أن يأخذ .
و قال : لا تسبوا أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم و لا نصيفه .
و قال : [ 159 ] من سب أصحابي فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً و لا عدلاً .
و قال : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا .
وقال ـ في حديث جابر : إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلياً ، فجعلهم خير أصحابي ، وفي أصحابهم كلهم خير .
وقال : من أحب عمر فقد أحبني ، ومن أبغض عمر فقد أبغضني .
وقال مالك بن أنس ، وغيره : من أبغض الصحابة و سبهم فلبيس له في فيءالمسلمين حق ، و نزع بآية الحشر : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير * ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب ... إلى قوله تعالى : والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [ سورة الحشر/59 ، الآيات : 5 ، 10 ] .
وقال : من غاظه أصحاب محمد فهو كافر ، قال الله تعالى : ليغيظ بهم الكفار [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 29 ] .
وقال عبد الله بن المبارك : خصلتان من كانتا فيه نجا : الصدق ، وحب أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم .
قال أيوب السختياني : من أحب أبا بكر فقد أقام الدين ، و من أحب عمر فقد أوضح السبيل ، و من أحب عثمان فقد استضاء بنور الله ، و من أحب علياً فقد أخذ بالعروة الوثقى ، و من أحسن الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فقد برئ من النفاق ، و من انتقض أحداً منهم فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح ، وأخاف ألا يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعاً ، ويكون قلبه سليماً .
و في حديث خالد بن سعيد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أيها الناس ، إني راض عن أبي بكر فاعرفوا له ذلك . أيها لناس ، إني راض عن عمر ، و عن علي ، و عن عثمان ، و طلحة ، و الزبير ، و سعد ، و سعيد ، و عبد الرحمن بن عوف ، فاعرفوا لهم ذلك . أيها الناس ، إن الله غفر لأهل بدر و الحديبية ، أيها الناس ، احفظوني في أصحابي وأصهاري وأختاني ، لا يطالبنكم أحد منهم بمظلمة ، فإنها مظلمة لا توهب في القيامة غداً .
وقال رجل للمعافى بن عمران : أين عمر بن عبد العزيز من معاوية ؟ قغضب و قال : لا يقاسب أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أحد ، معاوية صاحبه وصهره ، وكاتبه وأمينه على وحي الله .
وأتي النبي صلى الله عليه و سلم بجنازة رجل فلم يصل عليه ، وقال : كان يبغض عثمان ، فأبغضه الله .
وقال صلى الله عليه و سلم في الأنصار : اعفوا عن مسيئهم ، و اقبلوا من محسنهم .
و قال : احفظوني في أصحابي و أصهاري ، فإنه من حفظني فيهم حفظه الله في الدنيا و الآخرة ، و من لم يحفظني فيهم تخلى الله منه ، و من تخلى الله منه يوشك أن يأخذه .
و عنه صلى الله عليه و سلم : من حفظني في أصحابي كنت له حافظاً يوم القيامة .
و قال : من حفظني في أصحابي و رد علي الحوض ، و من لم يحفظني في أصحابي لم يرد علي الحوض ، و لم يرني إلا من بعيد .
قال مالك ـ رحمه الله : هذا النبي مؤدب الخلق الدي هدانا الله به ، و جعله رحمة للعالمين ، يخرج في جوف الليل إلى البقيع فيدعوا لهم و يستغفر كالمودع لهم ، و بذلك أمره الله ، و أمر النبي بحبهم ، و موالاتهم ، و معاداة من عاداهم .
و روى عن كعب : ليس أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم إلا له شفاعة يوم القيامة .
و طلب من المغيرة بن نوفل أن يشفع له يوم القيامة .
قال سهل بن عبد الله التسترى : لم يؤمن بالرسول من لم يوقر أصحابه ، و لم يعز أوامره .

 

فصل
و من إعظامه و إكباره

 

و من إعظامه و إكباره إعظام جميع أسبابه ، و إكرام مشاهده و أمكنته من مكة و المدينة ، و معاهده ، و ما لمسه ـ صلى الله عليه و سلم ، أو أعرف به .
و روي عن صفية بنت نجدة ، قالت : كان لأبي محذورة قصة في مقدم رأسه إذا قعد و رأسها أصابت الأرض . فقيل له : ألا تحلفها ؟ فقال : لم أكن بالذي أحلفها ، و قد مسها رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده .
و كانت في قلنسوة خالد بن الوليد شعرات صلى الله عليه و سلم ، فسقطت قلنسوته في بعض حروبه ، فشد عليها شدة أنكر عليه أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كثرة من قتل فيها ، فقال : لم أفعلها بسبب القلنسوة ، بل لما تضمنه من شعره صلى الله عليه و سلم لئلا أسلب بركتها و تقع في أيدي المشركين .
[ ورئي ابن عمر واضعاً يده على مقعد النبي صلى الله عليه و سلم من المنبر ، ثم وضعها على وجهه ] .
و لهذا كان مالك رحمه الله لا يركب بالمدينة دابة حدثنا و كان يقول : أستحي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله بحافر دابة .
و روي عنه أنه وهب للشافعي كراعاً كثيراً كان عنده ، فقال له الشافعي : أمسك منها دابة . فأجابه بمثل هذا الجواب .
و قد حكى أبو عبد الرحمن السلمي عن أحمد بن فضلويه الزاهد رسول الله و كان من الغزاة الرماة ـ أنه قال : ما مسست القوس بيدي إلا على طهارة منذ بلغني أن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ القوس بيده .
و قد أفتى مالك فيمن قال : تربة المدينة ردية ـ يضرب ثلاثين درة ، و أمر بحبسه ، و كان له قدر ، و قال : ما أحوجه إلى ضرب عنقه ! تربة دفن فيها النبي صلى الله عليه و سلم يزعم أنها غير طيبة .
و في الصحيح أنه قال صلى الله عليه و سلم ـ في المدينة : من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً و لا عدلاً .
و حكي أن جهجاها الغفاري أخذ قضيب النبي صلى الله عليه و سلم من يد عثمان رضي الله عنه ، و تناول ليكسره على ركبته ، فصاح به الناس ، فأخذته الأكله في ركبته فقطعها ، و مات قبل الحول .
و قال صلى الله عليه و سلم : من حلف على منبري كاذباً فليتبوأ مقعده من النار .
و حدثت أن أبا الفضل الجوهري لما ورد المدينة زائراً ، و قرب من بيوتها ترجل و مشى باكياً منشداً :
و لما رأينا رسم من لم يدع لنا      فؤاداً لعرفان الرسوم و لا لباً
نزلنا عن الأكوار نمشي كرا مةً       لمن بان عنه أن نلم به ركباً
و حكى عن بعض المريدين أنه لما أشرف على مدينة الرسول أنشد يقول متمثلاً [ 161 ] :

 

رفع الحجاب لنا فلاح لناظر       قمر تقطع دونه الأوهام
و إذا المطي بنا بلغن محمداً       فظهورهن على الرجال حرام
قربننا من يخر من وطيء الثرى و لها علينا حرمة و ذمام       

 

و حكي عن بعض المشايخ أنه حج ماشياً ، فقيل له في ذلك ، فقال : العبد الآبق لا يأتي إلى بيت مولاه راكباً ! لو قدرت أن أمشي على رأسي ما مشيت على قدمي .
قال القاضي : و جدير لمواطن عمرت بالوحي و التنزيل ، و تردد بها جبريل و ميكائيل ، و عرجت منها الملائكة و الروح ، و ضجت عرصاتها بالتقديس و التسبيح ، و اشتملت تربتها على جسد سيد البشر ، و انتشر عنها من دين الله و سنة رسوله ما انتشر ، مدارس آيات ، و مساجد و صلوات ، و مشاهد الفضائل و الخيرات ، و معاهد البراهين و المعجزات ، و مناسك الدين ، و مشاعر المسلمين ، و مواقف سيد المرسلين ، و متبوأ خاتم النبيين ، حيث انفجرت النبوة ، و أين فاض عبابها ، و مواطن مهبط الرسالة ، و أول أرض مس جلد المصطفى ترابها ـ أن تعظم عرصاتها ، و تتنسم نفحاتها ، و تقبل ربوعها و جدرانها :

 

يا دار خير المرسلين و من به       هدي الأنام و خص بالآيات
عندي لأجلك لوعة و صبابة      و تشوق متوقد الجمرات
و علي عهد إن ملأت محاجري       من تكلم الجدران و العرصات
لاعفرن مصون شيبي بينها      من كثرة التقبيل و الرشفات
لولا العوادي ، و الأعادي زرتها      أبدا و لو سحباً على الوزجنات
لكن سأهدي من حفيل تحيتي      لقطين تلك الدار و الحجرات
أزكى من المسك المفتق نفحةً       تغشاه بالآصال و البكرات
و تخصه بزواكي الصلوات       و نوامي التلسيم و البركات

 

فصل
في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم

 

اعلم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم فرض على الجملة ، غير محدد بوقت ، لأمر الله تعالى بالصلاة عليه ، و حمل الأئمة و العلماء له على الوجوب ، و أجمعوا عليه .
و حكى أبو جعفر الطبري أن محمل الآية عنده على الندب ، و ادعى فيه الإجماع ، و لعله فيما زاد على مرة ، و الواجب منه الذي يسقط به الحرج و مأثم ترك الفرض ـ مرة ، كالشهادة له بالنبوة ، و ما عدا ذلك فمندوب مرغب فيه ، من سنن الإسلام و شعار أهله .
قال القاضي أبو الحسن بن القصار : المشهور عن أصحابنا أن ذلك واجب في الجملة على الإنسان ، و فرض عليه أن يأتي بها مرةً من دهره مع القدرة على ذلك .
و قال القاضي أبو بكر بن بكير : افترض الله على خلقه أن يصلوا على نبيه و يسلموا تسليما ، و لم يجعل ذلك لوقت معلوم ، فالواجب أن يكثر المرء منها ، و لا يغفل عنها .
قال القاضي أبو محمد بن نصر : الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم واجبة في الجملة .
قال القاضي أبو عبد الله بن محمد بن سعيد : ذهب مالك و أصحابه و غيرهم من أهل العلم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم فرض ب الجملة بعقد الأيمان ، لا تتعين في الصلاة ، و أن من صلى علي مرةً واحدةً من عمره سقط الفرض عنه .
و قال أصحاب الشافعي : الفرض منها الذي أمر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه و سلم هو في الصلاة .
و قالوا : زو أما في غيرها فلا خلاف أنها غير واجبة .
و أما في الصلاة فحكى الإمامان أبو جعفر الطبري و الطحاوي و غيرهما إجماع جميع المتقدمين و المتأخرين من علماء الأمة على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم في التشهد غير واجبة .
و شذ الشافعي في ذلك ، فقال : من لم يصل على النبي صلى الله عليه و سلم من بعد التشهد الأخير و قبل السلام فصلاته فاسدة ، و إن صلى عليه قبل ذلك لم تجزه ، و لا سلف له في هذا القول و لا سنة يتبعها .
و قد بلغ في إنكار هذه المسألة عليه لمخالفته فيها من تقدمه ـ جماعة ، و شنعوا عليه الخلاف فيها ، منهم [ 163 ] الطبري ، و القشيري ، و غير واحد .
و قال أبو بكر بن المنذر : يستحب ألا يصلي أحد صلاةً إلا صلى فيها على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فإن ترك ذلك فصلاته مجزئة في مذهب مالك ، و أهل المدينة ، و سفيان الثوري ، و أهل الكوفة من أصحاب الرأي و غير هم . و هو قول جمل أهل العلم .
و حكي عن مالك و سفيان أنها في التشهد الأخير مستحبة ، و أن تاركها في التشهد مسيء .
و شذ الشافعي فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة ، و أوجب إسحاق الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان .
و حكى أبو محمد بن أبي زيد ، عن محمد بن المواز ـ أن الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم فريضة .
قال أبو محمد : يريد ليست من فرائض الصلاة ، و قاله محمد بن عبد الحكم و غيره .
و حكى ابن القصار و عبد الوهاب ـ أن محمد بن الموازيراها فرضةً في الصلاة كقول الشافعي .
[ و حكى أبو يعلى العبدي المالكي عن المذهب . فيها ثلاثة أقوال في الصلاة ] :
الوجوب ، و السنة ، و الندب .
و قد خالف الخطابي من أصحاب الشافعي و غيره ـ الشافعي في هذه المسألة ،
قال الخطابي : و ليست بواجبة في الصلاة ، و هو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي ، و لا أعلم له فيها قدوةً .
و الدليل على أنها ليست من فروض الصلاة عمل السلف الصالح قبل الشافعي ، و إجماعهم عليه .
و قد شنع الناس عليه في هذه المسألة جداً .
و هذا تشهد ابن مسعود الذي اختاره الشافعي ، و هو الذي علمه له النبي صلى الله عليه و سلم ، ليس فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم ، و كذلك كل من روى التشهد عن النبي صلى الله عليه و سلم ، كأبي هريرة ، و ابن عباس ، و جابر و ابن عمر ، و أبي سعيد الخدري ، و أبي موسى الأشعري ، و عبد الله بن الزبير ـ لم يذكروا فيه صلاة على النبي صلى الله عليه و سلم .
و قد قال ابن عباس ، و جابر : كان النبي صلى الله عليه و سلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن .
و نحوه عن أبي سعيد .
و قال ابن عمر : كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما يعلمون الصبيان في الكتاب .
و علمه أيضاً على المنبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
و في الحديث : لا صلاة لمن لم يصل علي .
قال ابن القصار : معناه : كاملةً ، أو لمن لم يصل علي مرة في عمره .
و ضعف أهل الحديث كلهم رواية هذا الحديث .
و في حديث أبي جعفر ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه و سلم : من صلى صلاةً لم يصل فيها علي و على أهل بيتي لم تقبل منه .
قال الدار قطني : الصواب أنه من قول أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين : لو صليت صلاةً لم أصل فيها على النبي صلى الله عليه و سلم و لا على أله بيته لرأيت أ نها لا تتم .


الباب الرابع

 

في حكم الصلاة عليه و التسليم و فرض ذلك و فضيلته

 

قال الله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 56 ] .
قال ابن عباس : معناه : إن الله و ملائكته يباركون على النبي .
و قيل : إن الله يترحم على النبي ، و ملائكته يدعون له .
قال المبرد : و أصل الصلاة الترحم ، فهي من الله رحمة ، و من الملائكة رقة و استدعاء للرحمة من الله .
و قد ورد في الحديث : صفة الملائكة على من جلس ينتظر الصلاة : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه فهذا دعاء .
و قال أبو بكر القشيري : الصلاة من الله تعالى لمن دون النبي صلى الله عليه و سلم رحمة ، و للنبي صلى الله عليه و سلم تشريف و زيادة تكرمة .
و قال أبو العالية : صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة ، و صلاة الملائكة الدعاء .
قال القاضي أبو الفضل : و قد فرق النبي صلى الله عليه و سلم في حديث تعليم الصلاة بين لفظ الصلاة و لفظ البركة ، فدل أنهما [ 162 ] بمعنيين .
و أما التسليم الذي أمر الله تعالى به عباده فقال القاضي أبو بكر بن بكير : نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و سلم ، فأمر الله أصحابه أن يسلموا عليه ، و كذلك من بعدهم أمرو أن يسلموا على النبي صلى الله عليه و سلم عند حضورهم قبره ، و عند ذكره .
و في معنى السلام عليه ثلاثة وجوه :
أحدهما : السلامة لك و معك ، و يكون السلام مصدراً كاللذاذ و اللذاذة .
الثاني : أي السلام على حفظك و رعايتك متول له ، و كفيل به ، و يكون هنا السلام اسم الله .
الثالث : أن السلام بمعنى المسالمة له و الإنقياد ، كما قال : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ سورة النساء / 4 ، الآية : 65 ] .


فصل
في المواطن التي يستحب فيها الصلاة و السلام على النبي

 

من ذلك في تشهد الصلاة كما قدمناه ، و ذلك بعد التشهد و قبل الدعاء :
[ 164 ] حدثنا القاضي أبو علي بقرائي عليه : حدثنا الإمام أبو القاسم البلخي ، قال : حدثنا الفارسي ، عن أبي القاسم الخزاعي ، عن الهيثم بن كليب ، عن أبي عيسى الحافظ ، قال : حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا حيوة بن شريح ، حدثني أبو هانئ الخولاني ـ أن عمرو بن مالك الجنبي ، أخبره أنه سمع فضالة بن عبيد يقول : سمع النبي صلى الله عليه و سلم رجلاً يدعو في صلاته ، فلم يصل على النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : عجل هذا . ثم دعاه فقال له و لغيره : إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله و الثناء عليه ، ثم ليصل على النبي ، ثم ليدع بعد بما شاء .
و يروى من غير هذا السند بتمجيد الله ، و هو أصح .
و عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : الدعاء و الصلاة معلق بين السماء و الأرض ، فلا يصعد إلى الله منه شيء حتى يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم .
و عن علي ، عن النبي صلى الله عليه و سلم بمعناه ، و قال و على آل محمد .
و روي أن الدعاء محجوب حتى يصلي الداعي على النبي صلى الله عليه و سلم .
و عن ابن مسعود : إذا أراد أحدكم أن يسأل الله شيئاً فليبدأ بمدحه و الثناء عليه بما هو أهله ، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم ليسأل ، فإنه أجدر أن ينجح .
و عن جابر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تجعلوني كقدح الراكب ، فإن الراكب يملأ قدحه ثم يضعه ، و يرفع متاعه ، فإن احتاج إلى شراب شربه أو الوضوء توضأ ، و إلا هراقه ، و لكن اجعلوني في أول الدعاء و أوسطه و آخره .
و قال ابن عطاء : للدعاء أركان و أجنحة و أسباب و أوقات ، فإن وافق أركانه قوي ، و إن وافق أجنحته طار في السماء ، و إن وافق مواقيته فاز ، و إن وافق أسبابه أنجح ، فأركانه حضور القلب ، و الرقة ، و الإستكانة و الخشوع ، و تعلق القلب بالله ، و قطعه الأسباب .
و أجنحة الصدق ، و مواقيته الأسحار ، و أسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه و سلم .
و في الحديث : الدعاء بين الصلاتين علي لا يرد .
و في حديث آخر : كل دعاء محجوب دون السماء ، فإذا جاءت الصلاة علي صعد الدعاء .
و في دعاء ابن عباس الذي رواه عنه حنش ، فقال في آخره : و استجب دعائي ، ثم تبدأبالصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم فتقول : اللهم إني أسألك أن تصلي على محمد عبدك و نبيك و رسولك أفضل ما صليت على أحد من خلقك أجمعين آمين .
و من مواطن الصلاة عليه عند ذكره و سماع اسمه ، أو كتابته ، أو عند الأذان .
و قد قال صلى الله عليه و سلم : رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي .
و كره ابن حبيب ذكر النبي صلى الله عليه و سلم عند الذبح .
و كره سحنون الصلاة عليه عند التعجب ، و قال : الصلاة يصلى عليه [ 165 ] إلا على طريق الاحتساب و طلب الثواب .
قال أصبغ ، عن ابن القاسم : موطنان لا يذكر فيهما إلا الله : الذبيحة ، و العطاس ، فلا تقل فيهما بعد ذكر الله : محمد رسول الله . و لو قال بعد ذكر الله : صلى الله على محمد لم يكن تسميةً له مع الله .
و قاله أشهب ، قال : و لا ينبغي أن تجعل الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم فيه استناناً .
و روى النسائي ، عن أوس بن أوس ، عن النبي صلى الله عليه و سلم : الأمر بالإكثار من الصلاة عليه يوم الجمعة ، و من مواطن الصلاة و السلام دخول المسجد :
قال أبو إسحاق بن شعبان : و ينبغي لمن دخل المسجد أن يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم ، و على آله ، و يترحم عليه ، و على آله ، و يبارك عليه و على آله ، و يسلم تسليماً ، و يقول : اللهم اغفر لي ذنوبي ، و افتح لي أبواب رحمتك .
و إذا خرج فعل مثل ذلك ، و جعل موضع رحمتك ـ فضلك .
و قال عمرو بن دينار ـ في قوله تعالى : فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ـ قال : إن لم يكن في البيت أحد فقل : السلام على النبي و رحمة الله و بركاته ، السلام علينا و على عباد الله الصالحين . السلام على أهل البيت و رحمة الله و بركاته .
قال ابن عباس : المراد بالبيوت هنا المساجد .
و قال النخعي : إذا لم يكن في المسجد أحد فقل : السلام على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و إذا لم يكن في البيت أحد فقل : السلام علينا و على عباد الله الصالحين .
و عن علقمة : إذا دخلت المسجد أقول : السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته ، صلى الله و ملائكته على محمد .
و نحوه عن كعب : إذا دخل ، و إذا خرج ، و لم يذكر الصلاة .
و احتج ابن شعبان لما ذكر بحديث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعله إذا دخل المسجد .
و مثله عن أبي بكر بن عمرو بن حزم . و ذكر السلام و الرحمة .
و قد ذكرنا هذا الحديث آخر القسم ، و الاختلاف في ألفاظه .
و من مواطن الصلاة عليه أيضاً الصلاة على الجنائز .
و ذكر عن أبي أمامة أنها من السنة .
و من مواطن الصلاة التي مضى عليها عمل الأمة ، و لم تنكرها : الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم و آله في الرسائل ، و ما يكتب بعد البسملة ، و لم يكن هذا في الصدر الأول ، و أحدث عند ولاية بني هاشم ، فمضى به عمل الناس في أقطار الأرض .
و منهم من يختم به أيضاً الكتب .
و قال صلى الله عليه و سلم : من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب .
و من مواطن السلام على النبي صلى الله عليه و سلم تشهد الصلاة :
حدثنا أبو القاسم خلف بن إبراهيم المقرىء الخطيب رحمه الله ، و غيره قال : حدثتني كريمة بنت محمد ، قالت : حدثنا أبو الهيثم ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا الأعمش ، عن شقيق بن سلمة ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : إذا صلى أحدكم فليقل : التحيات لله و الصلاة [ 166 ] و الطيبات ، السلام عل يك أيها النبي و رحمة و بركاته . السلام علينا و على عباد الله الصالحين ، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد صالح في السماء و الأرض .
هذا أحد مواطن التسليم عليه ، و سنته أول التشهد .
و قد روى مالك عن ابن عمر أنه كان يقول ذلك إذا فرغ من تشهده و أراد أن يسلم .
و استحب مالك في [ المبسوط ] أن يسلم بمثل ذلك قبل السلام .
قال محمد بن مسلمة : أراد ما جاء عن عائشة و ابن عمر أنهما كانا يقولان عند سلامهما : السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته . السلام علينا و على عباد الله الصالحين . السلام عليكم .
و استحب أهل العلم أن ينوي الإنسان حين سلامه كل عبد صالح في السماء و الأرض من الملائكة و بني آدم و الجن .
قال مالك في [ المجموعة ] : و أحب للمأموم إذا سلم إمامه أن يقول : السلام على النبي و رحمة الله و بركاته ، السلام علينا و على عباد الله الصالحين . السلام عليكم .


فصل
في كيفية الصلاة عليه و التسليم

 

حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر الفقيه بقراءتي عليه ، حدثنا القاضي أبو الأصبغ ، حدثنا أبو عبد الله بن عتاب ، حدثنا أبو بكر بن واقد و غيره ، قالوا : حدثنا أبو عيسى ، حدثنا عبيد الله ، حدثنا يحيى ، حدثنا مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، عن أبيه ، عن عمرو بن سليم الزرقي ـ أنه قال : أخبرني أبو حميد الساعدي ـ أنهم قالوا : يا رسول الله ، كيف نصلي عليك ؟ فقال : قولوا : اللهم صل على محمد و أزواجه و ذريته ، كما صليت على آل إبراهيم ، و بارك عل محمد و أزواجه و ذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
و في رواية مالك ، عن أبي مسعود الأنصاري ، قال : قولوا : اللهم صلي على محمد و على آله كما صليت على آل إبراهيم ، و بارك على محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين ، إنك حميد مجيد .و السلام ـ كما قد علمتم .
و في رواية كعب بن عجزة : اللهم صل على محمد و آل محمد كما صليت على إبراهيم ، و بارك على محمد و آل محمد كما باركت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد .
و عن عقبة بن عمرو في حديثه : اللهم صل على محمد النبي الأمي ، و على آل محمد .
و في رواية أبي سعيد الخدري اللهم صل على محمد عبدك و رسولك . . . و ذكر معناه .
و حدثنا القاضي أبو عبد الله التميمي سماعاً عليه ، و أبو علي الحسن بن طريف النحوي بقراءتي عليه ، قالا : حدثنا أبو عبد الله بن سعدون الفقيه ، حدثنا أبو بكر المطوعي ، [ حدثنا أبو عبد الله الحاكم ، عن أبي بكر بن أبي دارم الحافظ ، عن علي ابن أحمد العجلي ] ، عن حرب بن الحسن ، عن يحيى بن المساور ، عن عمرو ابن خالد ، عن زيد بن علي بن الحسين ، عن أبيه علي ، عن أبيه الحسين ، عن أبيه علي بن\ أبي طالب ، قال : عدهن في يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و قال : عدهن في يدي جبريل ، و قال : هكذا نزلت من عند رب العزة ، اللهم صل [ 167 ] على محمد و على آل محمد كما صليت على إبراهيم و على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهم و ترحم على محمد و على آل محمد كما ترحمت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد . اللهم و تحنن على محمد و على آل محمد كما تحننت على إبراهيم و على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد .
و عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه و سلم : من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل : اللهم ص ل على محمد النبي ، و أزواجه أمهات المؤمنين ، و ذريته و أهل بيته ، كما صليت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد .
و في رواية زيد بن خارجة الأنصاري : سألت النبي صلى الله عليه و سلم : كيف نصلي عليك ؟
فقال : صلوا و اجتهدوا في الدعاء ، ثم قولوا : اللهم بارك على محمد و على آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد .
و عن سلامة الكندي كان علييعلمنا الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم داحي المدحوات ، و بارئ المسموكات ، اجعل شرائف صلواتك ، و نوامي بركاتك ، و رأفة تحننك على محمد عبدك و رسولك ، الفاتح لما أغلق ، و الخاتم لما سبق ، و المعلن الحق بالحق ، و الدامغ لجيشات الأباطيل ، كما حمل ، فاضطلع بأمرك لطاعتك ، مستوفراً في مرضاتك ، واعياً لوحيك ، حافظاً لعهدك ، ماضياً على نفاذ أمرك ، حتى أورى قبساً لقابس ، آلاء الله تصل بأهله أسبابه ، به هديت القلوب بعد خوضات الفتن و الإثم ، و أنهج موضحات الأعلام ، و نائرات الأحكام ، و منيرات الإسلام ، فهو أمينك المأمون ، و خازن علمك المخزون ، و شهيدك يوم الدين ، و بعيثك نعمةً ، و رسولك بالحق رحمةً ، اللهم أفسح له في عدنك ، و اجره مضاعفات الخير من ف ضلك ، مهنئات له غير مكدرات من فوز ثوابك المحلول ، و جزيل عطائك المعلول .
اللهم أعل على بناء الناس بناه ، و أكرم مثواه لديك و نزله ، و أتم له نوره ، واجز من ابتعاثك له مقبول الشهادة ، و مرضى المقالة ، ذا منطق عدل ، و خطة فصل ، و برهان عظيم .
و عنه أيضاً في الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله و ملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما .
لبيك اللهم ربي و سعديك ، صلوات الله البر الرحيم و الملائكة المقربين ، و النبيين و الصديقين ، و الشهداء و الصالحين ، و ما سبح لك من شيء يا رب العالمين ، على محمد بن عبد الله ، خاتم النبيين ، و سيد المرسلين ، و إمام المتقين ، و رسول رب العالمين ، الشاهد البشير ، الداعي إليك بإذنك ، السراج المنير ، و عليه السلام .
و عن عبد الله بن مسعود : اللهم اجعل صلواتك و بركاتك و رحمتك على سيد المرسلين [ 168 ] ، و إمام المتقين ، و خاتم النبيين ، محمد عبدك و رسولك ، إمام الخير ، و رسول الرحمة .
اللهم ابعثه مقاماً محموداً يغبطه فيه الأولون و الأخرون .
اللهم صل على محمد و على آل محمد كما صليت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، و بارك على محمد و على آل محمد كما باركت على إبراهيم و على آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
و كان الحسن البصري يقول : من أراد أن يشرب بالكأس الأوفى من حوض المصطفى فليقل : اللهم صل على محمد و على آله و أصحابه و أولاده و أزواجه و ذريته و أهل بيته و أصهاره و أنصاره و أشباعه و محبيه و أمته ، و علينا ، معهم أجمعين . يا أرحم الراحمين .
و عن طاوس ، عن ابن عباس ـ أنه كان يقول : اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى ، و ارفع درجته العليا ، و آته سؤله في الآخرة و الأولى ، كما آتيت إبراهيم و موسى .
و عن وهيب بن الورد أنه كان يقول في دعائه : اللهم أعط محمداً أفضل ما سألك لنفسه ، و أعط محمداً أفضل ما سألك له أحد من خلقك . و أعط محمداً أفضل ما أنت مسؤول له إلى يوم القيامة .
و عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول : إذا صليتم على النبي صلى الله عليه و سلم فأحسنوا الصلاة عليه ، فإنكم لا تدرون ، لعل ذلك يعرض عليه ، و قولوا : اللهم اجعل صلواتك و رحمتك و بركاتك على سيد المرسلين ، و إمام المتقين ، و خاتم النبيين ، محمد عبدك و رسولك إمام الخير و قائد الخير ، و رسول الرحمة .
اللهم ابعثه مقاماً محموداً يغبط ه فيه الأولون و الآخرون ، اللهم صل على محمد و على آل محمد ، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد .
اللهم بارك على محمد و على آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد .
ما يؤثر في تطويل الصلاة و تكثير الثناء على أله البيت و غيرهم ـ كثير .
و قوله : و السلام كما قد علمتم : هو ماعلمهم الله في التشهد من قوله ، السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته ، السلام علينا و على عباد الله الصالحين .
و في تشهد علي : السلام على نبي الله ، السلام على أنبياء الله و رسله ، السلام على رسول الله ، السلام على محمد بن عبد الله ، السلام علينا و على المؤمنين و المؤمنات ، من غاب منهم و من شهد .
اللهم اغفر لمحمد ، و تقبل شفاعته ، و اغفر لأهل بيته ، و اغفر لي و لوالدي و ما ولدا ، و ارحمهما .
السلام علينا و على عباد الله الصالحين ، السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته .
جاء في هذا الحديث عن علي : الدعاء للنبي صلى الله عليه و سلم بالغفران .
[ و في حديث الصلاة عليه أيضاً قبل : الدعاء له بالرحمة ، و لم يأت في غيره من الأحاديث المرفوعة المعروفة .
و قد ذهب أبو عمر بن عبد البر و غيره إلى أنه لا يدع ى صلى الله عليه و سلم بالرحمة ، و إنما يدعى له بالصلاة و البركة التي تختص به ، و يدعى لغيره بالرحمة و المغفرة .
و قد ذكر أبو محمد بن أبي زيد في الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم ارحم محمداً و آل محمد كما ترحمت على إبراهيم و آل إبراهيم .
و لم يأت هذا في حديث صحيح . و حجته قوله في السلام : السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته .

 

فصل
في فضيلة الصلاة على النبي و التسليم عليه و الدعاء له

 

حدثنا أحمد بن محمد الشيخ الصالح من كتابه ، حدثنا القاضي يونس بن مغيث ، حدثنا أبو بكر بن معاوية ، حدثنا النسائي ، أخبرنا سويد بن نصر ، أخبرنا عبد الله عن حيوة بن شريح ، قال : أخبرنا كعب بن علقمة ، أنه سمع عبد الرحمن بن جبير مولى نافع ـ أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا سمعتم المؤذن قولوا مثل ما يقول ، و صلوا [ 169 ] علي ، فإنه من صلى علي مرةً واحدةً صلى الله عشراً ، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، و أرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة .
و روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صلى علي صلاةً صلى الله عليه عشر صلوات ، و حط عنه عشر خطيئات ، و رفع له عشر درجات .
و في رواية : و كتب له عشر حسنات .
و عن أنس ، عنه صلى الله عليه و سلم : إن جبريل ناداني ، فقال : من صلى عليك صلاةً صلى الله عليه عشراً ، و رفعه عشر درجات .
و في رواية عبد الرحمن بن عوف ، عنه صلى الله عليه و سلم : لقيت ج بريل فقال لي : إني أبشرك أن الله تعالى يقول : من سلم عليك سلمت عليه ، و من صلى عليك صليت عليه .
و نحوه من رواية أبي هريرة ، و مالك بن أوس بن الحدثان ، و عبيد الله ابن أبي طلحة .
و عن زيد بن الحباب : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : من قال : اللهم صل على محمد و أنزله المنزل المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي .
و عن ابن مسعود : أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة .
و عن أبي هريرة ، عنه صلى الله عليه و سلم : من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي اسمي في ذلك الكتاب .
و عن عامر بن ربيعة : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : من صل علي صلاة صلت عليه الملائكة ما صلى علي ، فليقلل من ذلك عبد أو ليكثر .
و عن أبي بن كعب : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال أيها الناس ، اذكروا الله ، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه .
فقال أبي بن كعب : يا رسول الله ، إني أكثر الصلاة عليك ، فكم أجعل لك من صلاتي ؟
قال : ما شئت . قال : الربع ؟ قال : [ ما شئت ، و إن زدت فهو خير ] . قال الثلث ؟ قال : [ ما شئت ، و إن زدت فهو خير ] .
قال : النصف ؟ قال : [ ما شئت ، و إن زدت فهو خير ] .
قال : قال : الثلثين ؟ قال : [ ما شئت ، و إن زادت فهو خير ] . قال : يا رسول الله ، فأجعل صلاتي كلها لك ؟ قال : [ إذاً تكفى ويغفر ذنبك ] .
و عن أبي طلحة : دخلت على النبي صلى الله عليه و سلم فرأيت من بشره و طلاقته ما لم أره ، فسألته ، فقال : و ما يمنعني و قد خرج جبريل آنفاً ، فأتاني ببشارة من ربي عز و جل : إن الله بعثني إليك أبشرك أنه ليس أحد من أمتك يصلي عليك إلا صلى عليه و ملائكته بها عشراً .
و عن جابر بن عبد الله ، قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة و الصلاة القائمة آت محمداً لوسيلة و الفضيلة ، و ابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ـ حلت له الشفاعة يوم القيامة .
و عن سعد بن أبي وقاص ، من قال حين يسمع المؤذن : و أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده [ 170 ] لا شريك له ، و أن محمداً عبده ورسوله ، رضيت بالله رباً و بمحمد رسولا ، و بالإسلام ديناً ـ غفر له .
و روى ابن وهب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من سلم علي عشراً فكأنما أعتق رقبة .
و في بعض الآثار : ليرد عن علي أقوام ما أعرفهم إلا بكثرة صلاتهم علي .
و في آخر : إن أنجاكم يوم القيامة من أهوالها و مواطنها أكثركم علي صلاةً .
و عن أبي بكر : الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم أمحق للذنوب من الماء البارد للنار ، و السلام عليه أفضل من عتق الرقاب .


فصل
في ذم من لم يصل على النبي صلى الله عليه و سلم و إثمه

 

حدثنا القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله ، حدثنا أبو الفضل بن خيرون ، و أبو الحسين الصيرفي ، قالا : حدثنا أبو يعلى ، حدثنا السنجي ، حدثنا محمد ابن محبوب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا ربعي ابن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ، و رغم أنف رجل دخل رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ، و رغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة .
قال عبد الرحمن : و أظنه قال : أو أحدهما .
و في حديث آخر : أن النبي صلى الله عليه و سلم صعد المنبر فقال : [آمين ] ثم صعد ، فقال : [ آمين ] ، فسأله معاذ عن ذلك ، فقال : إن جبريل أتاني فقال : يا محمد ، من سميت بين يديه فلم يصل عليك فمات فدخل النار ، فأبعده الله ، قل آمين ، فقلت آمين .
و قال فيمن أدرك رمضان فلم يقبل منه فمات مثل ذلك .
و من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات مثله .
و عن علي بن أبي طالب : عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : ا لبخيل كل البخيل الذي ذكرت عنده فلم يصل علي .
و عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من ذكرت عنده فلم يصل علي أخطيء به طريق الجنة .
و عن علي بن أبي طالب : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن البخيل كل البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي .
و عن أبي هريرة ، قال أبو القاسم صلى الله عليه و سلم : أيما قوم جلسوا مجلساً ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله و يصلوا على النبي صلى الله عليه و سلم كانت عليهم من الله ترة إن شاء عذبهم و إن شاء غفر لهم .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه : من نسي الصلاة علي نسي طريق الجنة .
و عن قتادة ، عنه صلى الله عليه و سلم : من الجفاء أن أذكر عند الرجل فلا يصلي علي .      
و عن جابر ، عنه صلى الله عليه و سلم : ما جلس قوم مجلساً ثم تفرقوا على غير صلاة على النبي صلى الله عليه و سلم إلا تفرقوا على أنتن من ريح الجيفة .
و عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : لا يجلس قوم مجلساً لا يصلون فيه على النبي صلى الله عليه و سلم [ 171 ] إلا كان عليهم حسرةً و إن دخلوا الجنة لما يرون من الثواب .
و حك ى أبو عيسى الترمذي ، عن بعض أهل العلم ، قال : إذا صلى الرجل على النبي صلى الله عليه و سلم مرة في المجلس أجزأ عنه ما كان في ذلك المجلس .
 

 

فصل
في تخصيصه صلى الله عليه و سلم بتبليغ صلاة من صلى عليه و سلم من الأنام

 

حدثنا القاضي عبد الله التميمي ، حدثنا الحسين بن محمد ، حدثنا أبو عمر الحافظ ، حدثنا ابن عبد المؤمن ، حدثنا ابن داسة ، حدثنا أبو داود ، حدثنا ابن عوف ، حدثنا المقرىء ، حدثنا حيوة ، عن أبي صخر حميد بن زياد ، عن يزيد بن عبد الله ابن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام .
و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من صلى علي عند قبري سمعته ، و من صلى علي نائياً بلغته .
و عن أبي مسعود : إن الله ملائكة سياحين في الأرض ببلغوني عن أمتي السلام .
و نحوه عن أبي هريرة .
و عن ابن عمر : أكثروا من السلام على نبيكم كل جمعة ، فإنه يؤتي به منكم في كل جمعة .
و في رواية : فإن أحداً لا يصلي علي إلا عرضت صلاته علي حين يفرغ منها .
و عن الحسن ، عنه صلى الله عليه و سلم : حيثما كنتم فصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني .
و عن ابن عباس : ليس أحد من أمة محمد يسلم عليه و يصلي عليه إلا بلغه .
و ذكر بعضهم أن العبد إذا صلى على النبي صلى الله عليه و سلم عرض عليه اسمه .
و عن الحسن بن علي : إذا دخلت المسجد فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تتخذوا بيتي عيداً ، و لا تتخذوا بيوتكم قبوراً ، و صلوا علي حيث كنتم ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم .
و في حديث أوس : أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة ، فإن صلاتكم معروضة علي .
و عن سليمان بن سحيم : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في النوم ، فقلت : يا رسول الله ، هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك ، أتفقه سلامهم ؟ قال : نعم و أرد عليهم .
و عن ابن شهاب : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أكثروا من الصلاة علي في الليلة الزهراء ، و اليوم الأزهر ، فإنهما يؤديان عنكم ، و إن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ، و ما من مسلم يصلي علي إلا حملها ملك حتى يؤديها إلي و يسميه حتى إنه ليقول : إن فلاناً يقول كذا و كذا .      

 

فصل
في الاختلاف في الصلاة على غير النبي صلى الله عليه و سلم و سائر الأنبياء عليهم السلام

 

قال القاضي و فقه الله : عامة أهل العلم متفقون على جواز الصلاة على غير النبي صلى الله عليه و سلم .
و روي عن إبن عباس أنه لا تجوز الصلاة على غير النبي صلى الله عليه و سلم .
وروي عنه : لا تنبغي الصلاة على أحد إلا النبيين .
و قال سفيان : يكره أن يصلي إلا على نبي .
و وجدت بخط بعض شيوخي : مذهب مالك أنه لايجوز أن يصلي على أحد من ألأنبياء سوى محمد صلى الله عليه و سلم ، و هذا [172] غير معروف من مذهبه ، و قد قال مالك في المبسوطة ليحيى بن إسحاق : أكره الصلاة على غير الأنبياء ، و ما ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به .
و قال يحيى بن يحيى : لست آخذ بقوله ، ولا بأس بالصلاة على الأنبياء كلهم و على غيرهم ، و احتج بحديث ابن عمر ، و بما جاء في حديث تعليم النبي صلى الله عليه و سلم الصلاة عليه ، و فيه : و على أزواجه ، و على آله .
و قد جاء معلقاً عن أبي عمران القابسي : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما كراهة الصلاة على غير النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : و به نقول . و لم تكن تستعمل فيما مضى .
و قد روى عبد الرزاق عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صلوا على أنبياء الله و رسله ، فإن الله بعثهم كما بعثني .
قالوا : و الأسانيد عن ابن عباس لينة ، و الصلاة في لسان العرب بمعنى الترحم و الدعاء ، و ذلك على الإطلاق حتى يمنع منه حديث صحيح أو إجماع .
و قد قال تعالى : هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 43 ] .
و قال : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 103 ] .
و قال : أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 157 ] .
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم صل على آل أبي أوفى ، و كان إذا أتاه قوم بصدقتهم ، قال : اللهم صل على آل فلان .
و في حديث الصلاة : اللهم صل على محمد ، و على أزاجه و ذريته .
و في حديث آخر : و على آل محمد : قيل أتباعه ، [ و قيل : آل بيته ] . و قيل : أمته . و قيل : الأتباع ، و الرهط ، و العشيرة . و قيل : آل الرجل ولده . و قيل : قومه . و قيل : أهله الذين حرمت عليهم الصدقة .
و في رواية أنس : سئل النبي صلى الله عليه و سلم : من آل محمد ؟ قال : كل تقي .
و يجي على مذهب الحسن أن المراد بآل محمد ـ محمد نفسه ، فإنه كان يقول في صلاته على النبي : اللهم اجعل صلواتك و بركاتك على آل محمد ـ يريد نفسه ، لآنه كان لا يخل بالفرض ، و يأتي بالنفل ، لأن الفرض الذي أمر الله تعالى به هو الصلاة على محمد نفسه .
و هذا مثل قوله صلى الله عليه و سلم : لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود يريد من مزامير داود .
و في حديث أبي حميد الساعدي في الصلاة : اللهم صل على محمد و أزواجه و ذريته .
و في حديث ابن عمر أنه كان يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم ، و على أبي بكر و عمر ـ ذكره مالك في الموطأ من رواية يحيى الأندلسي .
و الصحيح من رواية غيره : و يدعو لأبي بكر و عمر .
و روى ابن وهب ، عن أنس بن مالك : كنا ندعو لأصحابنا بالغيب ، فنقول : اللهم اجعل منك على فلان صلوات قوم أبرار الذين يقومون بالليل و يصومون بالنهار .
قال القاضي أبو الفضل : و الذي ذهب إليه المحققون ، و أميل إليه ما قاله مالك و سفيان رحمهما الله ، و روي عن ابن عباس ، و اختاره غير واحد من الفقهاء و المتكلمين ـ أنه لا يصلى على غير الأنبياء عند ذكرهم ، بل هو شيء يختص به الأنبياء ، توقيراً لهم و تعزيزاً ، كما يخص الله تعالى عند ذكره بالتنزيه و التقديس و التعظيم ، و لا يشاركه فيه غيره ، كذلك يجب تخصيص النبي صلى الله عليه و سلم و سائر الأنبياء بالصلاة و التسليم ، و لا يشارك فيه سواهم ، كما أمر الله به بقوله : صلوا عليه وسلموا تسليما [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 56 ] .
و يذكر من سواهم من الأئمة و غيرهم بالغفران و الرضا ، كما قال تعالى : يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان [ سورة الحشر / 9 ، الآية : 10 ] .
و قال : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 100 ] .
و أيضاً فهو أمر لم يكن معروفاً في الصدر الأول ، كما قال أبو عمران ، و إنما أحدثته الرافضة و المتشيعة في بعض الأئمة ، فشاركوهم عند الذكر لهم بالصلاة ، و ساووهم بالنبي صلى الله عليه و سلم في ذلك .
و أيضاً فإن التشبيه بأهل البدع منهي عنه ، فتجب مخالفتهم فيما التزموه من ذلك .
و ذكر الصلاة على الآل و الأزواج مع النبي صلى الله عليه و سلم بحكم التبع و الإضافة إليه لا على التخصيص.
[ قالوا ] : و صلاة النبي صلى الله عليه و سلم على من صلى عليه مجراها مجرى الدعاء و المواجهة ، ليس فيها معنى التعظيم و التوقير .
قالوا : و قد قال تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ، فكذلك يجب أن يكون الدعاء له مخالفاً لدعاء الناس بعضهم لبعض .
و هذا اختيار الإمام أبي المظفر الإسفرايني من شيوخنا ، [ و به قال ابن عبد البر ] .

 

فصل
في حكم زيارة قبره صلى الله عليه و سلم ، و فضيلة من زاره و سلم عليه

 

و زيارة قبره صلى الله عليه و سلم سنة من سنن المسلمين مجمع عليها ، و فضيلة مرغب فيها : روى عن ابن عمر رضي الله عنه .
حدثنا القاضي أبو علي ، قال : حدثنا أبو الفضل بن خيرون ، قال : حدثنا الحسن بن جعفر ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني ، قال : حدثنا القاضي المحاملي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الرزاق ، قال : حدثنا موسى بن هلال ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال : قال : النبي صلى الله عليه و سلم من زار قبري و جبت له شفاعتي .
و عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من زارني في المدينة محتسباً كان في جواري ، و كنت له شفيعاً يوم القيامة
و في حديث آخر : من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي .
و كره مالك أن يقال : زرنا قبر النبي صلى الله عليه و سلم .
و قد اختلف في معنى ذلك ، فقيل : كرامة الاسم ، لما ورد من قوله صلى الله عليه و سلم : لعن الله زوارات القبور .
و هذا يرده قوله : نهيتم عن زيارة القبور فزوروها .
و قوله : من زار قبري ، فقد أطلق اسم الزيارة .
و قيل لأن ذلك لما قيل أن أفضل من المزور .
و هذا أيضاً ليس بشيء، إذ ليس كل زائر بهذه الصفة ، و ليس عموماً ، و قد ورد في حديث أهل الجنة : زيارتهم لربهم ، و لم يمنع هذا اللفظ في حقه تعالى .
و قال أبو عمران رحمه الله : إنما كره مالك أن يقال : طواف الزيارة ، و زرنا قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، لاستعمال الناس ذلك بينهم بعضهم لبعض ، فكرة تسوية النبي صلى الله عليه و سلم مع الناس بهذا اللفظ ، و أحب أن يخص بأن يقال : سلمنا على النبي صلى الله عليه و سلم .
و أيضاً فإن الزيارة مباحة بين الناس ، و واجب شد الرحال إلى قبره ، يريد بالوجوب هنا ندب و ترغيب و تأكيد ، لا وجوب فرض .
و الأولى عندي أن منعه و كراهة مالك له لإضافته إلى قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، و أنه لو قال : زرت النبي لم يكرهه ، لقوله صلى الله عليه و سلم : اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد بعدي ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .
فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر ، و التشبه بفعل أولئك ، قطعاً للذريعة و حسماً للباب و الله أعلم .
قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه : و مما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة ، و القصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و التبرك برؤية روضته و منبره و قبره ، و مجلسه ، و ملامس يديه ، و مواطئ قدميه ، و العمود الذي كان يستند إليه ، و ينزل جبريل بالوحي فيه عليه ، و بمن عمره و قصده من الصحابة و أئمة المسلمين ، و الاعتبار بذلك كله .
[ 174 ] و قال ابن أبي فديك : سمعت بعض من أدركت يقول : بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم فتلا هذه الآية : إن الله وملائكته يصلون على النبي ـ قال : صلى الله عليك يا محمد ـ من يقولها سبعين مرة ناداه ملك : صلى الله عليك يا فلان ، و لم تسقط له حاجة .
و عن يزيد بن أبي سعيد المهري : قدمت على عمر بن عبد العزيز ، فلما ودعته قال لي : إليك حاجة ، إذا أتيت المدينة سترى قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، فأقره مني السلام .
و قال غيره : و كان يبرد إليه البريد من الشام .
قال بعضهم : رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة ، فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم انصرف .
و قال مالك ـ في رواية ابن وه ب : إذا سلم النبي صلى الله عليه و سلم ، و دعا ، يقف و وجهه إلى القبر الشريف لا إللى القبلة ، و يدنو ، و يسلم ، و لا يمس القبر بيده .
و قال في المبسوط : لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم يدعو ، و لكن يسلم و يمضي .
قال ابن أبي مليكة : من أحب أن يقوم وجاه النبي صلى الله عليه و سلم فليجعل القنديل الذي عند القبر على رأسه .
و قال نافع : كان ابن عمر يسلم على القبر ، رأيته مائة مرة و أكثر يجيء إلى القبر فيقول : السلام على النبي صلى الله عليه و سلم ، السلام على أبي بكر ، السلام على أبي ، ثم ينصرف .
[ و رئي ابن عمر واضعاً يده على مقعد النبي صلى الله عليه و سلم من المنبر ، ثم وضعها على وجهه .
و عن ابن قسيط و العتبي : كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إذا خلا المسجد جسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم ، ثم استقبلوا القبلة يدعون ] .
و في الموطأ ـ من رواية [ 176 ] يحيى بن يحيى الليثي ـ أنه كان يقف على قبر النبي صلى الله عليه و سلم فيصلي على النبي ، و على أبي بكر ، و عمر .
و عن ابن القاسم و القعنبي : و يدعو لأبي بكر ، و عمر .
قال مالك ـ في رواي ة ابن وهب : يقول المسلم : السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته .
قال في المبسوط : و يسلم على أبي بكر ، و عمر .
قال القاضي أبو الوليد الباجي : و عندي أنه يدعو للنبي صلى الله عليه و سلم بلفظ الصلاة ، و لأبي بكر ، و عمر ، كما في حديث ابن عمر من الخلاف .
و قال ابن حبيب : و يقول إذا دخل مسجد الرسول : بسم الله ، و سلام على رسول الله عليه السلام ، السلام علينا من ربنا ، و صلى الله و ملائكته على محمد .
اللهم اغفر لي ذنوبي ، و افتح لي أبواب رحمتك و جنتك ، و احفظني من الشيطان الرجيم ، ثم اقصد إلى الروضة ، و هي ما بين القبر و المنبر فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر تحمد الله فيهما و تسأله تمام ما خرجت إليه و العون عليه .
و إن كانت ركعتاك في غير الروضة أجزأتاك ، و في الروضة أفضل .
و قد قال صلى الله عليه و سلم : ما بين منبري و قبري روضة من رياض الجنة ، و منبري على ترعة من ترع الجنة .
ثم تقف متواضعاً متوقراً ، فتصلي عليه و تثني بما يحضرك ، و تسلم على أبي بكر و عمر ، و تدعو لهما .
و أكثر من الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم بالليل و النهار ، و لا ت دع أن تأتي مسجد قباء و قبور الشهداء .      
و قال مالك [ 175 ] ـ في كتاب محمد : و يسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فادخل و خرج ـ يعني في المدينة ـ و فيما بين ذلك .
و قال محمد : و إذا خرج جعل آخر عهده الوقوف بالقبر ، و كذلك من خرج مسافراً .
و روى ابن وهب عن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه و سلم ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا دخلت المسجد فصل على النبي صلى الله عليه و سلم ، و قل : اللهم اغفر لي ذنوبي ، و افتح لي أبواب رحمتك . و إذا خرجت فصل على النبي صلى الله عليه و سلم ، و قل : اللهم اغفر لي ذنوبي ، و افتح لي أبواب فضلك .
و في رواية أخرى : فليسلم ـ مكان : فليصل فيه ، و يقول إذا خرج : اللهم إني أسألك من فضلك .
و في أخرى : اللهم احفظني من الشيطان الرجيم .
و عن محمد بن سيرين : كان الناس يقولون إذا دخلوا المسجد : صلى الله و ملائكته على محمد . السلام عليك أيها النبي و رحمة الله ، باسم الله دخلنا ، و باسم الله خرجنا ، و على الله توكلنا .
و كانوا يقولون إذا خرجوا مثل ذلك .
و عن فاطمة أيضاً : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا دخل المسجد قال : ص لى الله على محمد و سلم . ثم ذكر مثل حديث فاطمة قبل هذا .
و في رواية : حمد الله و سمى ، و صلى على النبي صلى الله عليه و سلم ، و ذكر مثله .
و في رواية : باسم الله ،و السلام على رسول الله .
و عن غيرها : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل المسجد قال : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، و يسر لي أبواب رزقك .
و عن أبي هريرة : إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى الله عليه و سلم ، و ليقل : اللهم افتح لي .
و قال مالك في المسبوط :و ليس يلزم من دخل المسجد و خرج منه من أهل المدينة الوقو ف بالقبر ، و إنما ذلك للغرباء .
و قال فيه أيضاً : لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، فيصلي عليه و يدعو له و لأبي بكر و عمر .
فقيل له : فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر و لايريدونه ، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر ، ربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة أو الأيام المرة و المرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون و يدعون ساعة ! .
فقال : لم يبلغني هذا على أحد من أهل الفقه ببلدنا ، و تركه واسع ، و لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ، و لم يبلغني ع ن أول هذه الأمة و صدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ، و يكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده .
قال ابن القاسم : و رأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها أتوا القبر فسلموا ، قال : و ذلك رأيي .
قال الباجي : ففرق بين أهل المدينة و الغرباء ، لأن الغرباء قصدوا لذلك ، و أهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر و التسليم .
و قال صلى الله عليه و سلم : اللهم لا تجعل قبري و ثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .
و قال : لا تجعلوا قبري عيداً .
و من كتاب أحمد بن سعيد[ 176 ] الهندي ـ فيمن و قف بالقبر : لا يلصق به ، و لا يمسه ، و لا يقف عنده طويلاً .
و في العتبية : يبدأ بالركوع قبل السلام في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم ، و أحب مواضع التنقل فيه مصلى النبي حيث العمود المخلق .
و أما في الفريضة فالتقدم إلى الصفوف و التنقل فيه للغرباء أحب إلي من التنقل في البيوت .


القسم الثالث : فيما يستحيل في حقه ، و ما يجوز عليه شرعاً ، و ما يمتنع و يصح من الأمور البشرية أن يضاف إليه .

 

 

 

فصل
عصمة النبي صلى الله عليه و سلم في أقواله و أفعاله

 

و أما أقواله صلى الله عليه و سلم فقامت الدلائل الواضحة بصحة المعجزة على صدقه ، و أجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منها بخلاف ما هو به ، لا قصداً و عمداً ، و لا سهواً و غلطاً .
أما تعمد الخلف في ذلك فمنتف ، بدليل المعجزة القائمة مقام قول الله فيما قال اتفاقا ، و بإطباق أهل الملة إجماعاً .
و أما وقوعه على جهة الغلط في ذلك فبهذه السبيل عند الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني و من قال بقوله ، و من جهة الإجماع فقط ، و ورود الشرع بانتقاء ذلك ، و عصمة النبي صلى الله عليه و سلم لا من مقتضى المعجزة نفسها عند القاضي أبي بكر الباقلاني و من وافقه لاختلاف بينهم في مقتضى دليل المعجزة لا تطول بذكره ، فنخرج عن غرض الكتاب ، فلنعتمد على ما وقع عليه إجماع المسلمين رسول أنه لا يجوز عليه خلف في القول في إبلاغ الشريعة ، و الإعلام بما أخبر به عن ربه ، و ما أوحاه إليه من وحيه ، لا على وجه العمد ، و لا على غير عمد ، ولا في حالي الرضا و السخط ، و الصحة و المرض .
و في حديث عبد الله بن عمرو : قلت يا رسول الله ، أكتب كل ما أسمع من ك ؟ قال : [ نعم ] . قلت : في الرضا و الغضب ؟ قال : [ نعم ، فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقا ] .
و لنزد ما أشرنا إليه من دليل المعجزة عليه بياناً ، فنقول :
إذا قامت المعجزة على صدقه ، و أنه لا يقول إلا حقا ، و لا يبلغ عن الله إلا صدقاً ، و أن المعجزة قائمة مقام قول الله له : صدقت فيما تذكره عني ، وهو يقول : إني رسول الله إليكم لأبلغكم ما أرسلت به إليكم ، و أبين لكم ما نزل عليكم ، وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى [ سورة النجم / 53 ، الآية 3 ، 4 ] .
و قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم [ سورة النساء /4 ، الآية : 170 ] .
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، فلا يصح أن يوجد منه في هذا الباب خبر بخلاف مخبره على أي وجه كان .
و لو جوزنا عليه الغلط و السهو لما تميز لنا من غيره ، و لا اختلط الحق بالباطل ، فالمعجزة مشتملة على تصديقه جملة واحدة من غير خصوص ، فتنزيه النبي عن ذلك كله واجب برهاناً و إجماعاً كما قاله أبو إسحاق .

 

فصل
 سؤالات لبعض الطاعنين

 

و قد توجهت هنا لبعض الطاعنين [195 ] سؤالات ، منها :
ما روي من أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قرأ والنجم ، و قال : أفرأيتم اللاتوالعزى * ومناة الثالثة الأخرى -قال : تلك الغرانيق العلا ، و إن شفاعتها لترتجى ويروى : ترتضى . و في رواية : إن شفاعتها لترتجي ، و إنها لمع الغرانيق العلا .
و في أخرى : و الغرانقة العلا ، تلك للشفاعة ترتجى .
فلما ختم السورة سجد ، و سجد معه المسلمون و الكفار لما سمعوه أثنى على آلهتهم .
و ما وقع في بعض الروايات أن الشيطان ألقاها على لسانه ، و أن النبي صلى الله عليهو سلم كان تمنى أن لو نزل عليه شيء يقارب بينه و بين قومه .
و في رواية أخرى : ألا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه ، و ذكر هذه القصة ، و أن جبريلعليه السلام جاء فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين قال له : ما جئتك بهاتين . فحزن لذلك النبي صلى الله عليه و سلم ، فأنزل الله تعالى تسلية له : وما أرسلنا منقبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقيالشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم [ سورة الحج / 22 ، الآية : 52 ] .
و قوله : وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوكخليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ سورة الإسراء / 17 ،الآية : 73 ، 74 ] .
فاعلم ـ أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين :
أحدهما : في توهين أصله ، و الثاني على تسليمه .
أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، و لا رواه ثقةبسند سليم متصل ، و إنما أولع به و بمثله المفسرون و المؤرخون المولعون بكل غريب ،المتلقفون من الصحف كل صحيح و سقيم .
و صدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير ، و تعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته و اضطراب رواياته ، و انقطاع إسناده ،و اختلاف كلماته ، فقائل يقول : إنه في الصلاة ، و آخر يقول : قالها في نادي قومهحين أنزلت عليه السورة ، و آخر يقول : قالها و قد أصابته سنة ، و آخر يقول : بل حدثنفسه فسها ، و آخر يقول : إن الشيطان قالها على لسانه ، و إن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال : ما هكذا أقرأتك ، و آخر يقول : بل أعلمهم الشيطان أنالنبي صلى الله ع ليه و سلم قرأها ، فلما بلغ النبي صلى الله عليه و سلم ذلك قال : و الله ما هكذا نزلت ـ إلى غير ذلك من اختلاف الرواة .
و من حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين و التابعين لم يسندها أحد منهم ، و لا رفعهاإلى صاحب ، و أكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية ، و المرفوع فيه حديث شعبة : عن أبيبشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال فيما أحسب ـ الشك في الحديث ـ أن النبيصلى الله عليه و سلم كان بمكة ... و ذكر القصة .
قال أبو بكر البزار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلمبإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا ، و لم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد ، و غيرهيرسله عن سعيد بن جبير ، و إنما يعرف عن الكلبي ، ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس فقدبين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا .
و فيه من [ 196 ] الضعف ما نبه عليه مع و قوع الشك فيه ، كما ذكرناه ، الذي لا يوثقبه ، و لا حقيقة معه .
و أما حديث الكلبي فمما لا تجوز الراوية عنه و لا ذكره لقوة ضعفه و كذبه ، كما أشارإليه البراز : رحمه الله .
و الذي منه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ : والنجم ـ و هو بمكة ،فسجد معه المسلمون و المشركون و الجن و الإنس .
هذا توهينه من طريق النقل فأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة ، و أجمهت الأمة علىعصمته صلى الله عليه و سلم و نزاهته عن مثل هذه الرذيلة ، إما من تمنيه أن ينزلعليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله ، و هو كفر ، أو أن يتسور عليه الشيطان ، ويشبهعليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ، و يعتقد النبي صلى الله عليه و سلم أن منالقرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام ، و ذلك كله ممتنع في حقه صلى اللهعليه و سلم ، أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه و سلم من قيل نفسه عمداً ، و ذلك كفر، أو سهواً ، و هو معصوم من هذا كله .
و قد قررنا بالبراهين و الإجماع عصمته صلى الله عليه و سلم من جريان الكفر على قلبهأو لسانه ، لا عمداً و لا سهواً ، أو أن يشبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل ، أو أن يتقول على الله ، لا عمداً و لا سهواً ، ما لمينزل عليه ، و قد قال الله تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منهباليمين * ثم لقطعنا منه الوتين [ سورة الحاقة / 69 ، الآية : [ 44 ، 46 ] .
قال تعالى : إذا لأذقنا ك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا [ سورةالإسراء /17 ، الآية 75 ] .
و وجه ثان ، و هو استحالة هذه القصة نظراً و عرفاً ، و ذلك أن هذا الكلام لو كان ـكما روي لكان بعيد الالتئام ، لكونه متناقص الأقسام ، ممتزج المدح بالذم ، متخاذلالتأليف و النظم . و لما كان النبي صلى الله عليه و سلم و لا من بحضرته من المسلمين، و صناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك ، و هذا لا يخفى على أدنى متأمل ، فكيف بمنرجع حلمه ، و اتسع في باب البيان و معرفة فصيح الكلام علمه .
و وجه ثالث أنه علم من عادة المنافقين ، و معاندي المشركين ، و ضعفة القلوب ، والجهلة من المسلمين ـ نفوزهم لأول وهلة ، و تخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة ، و تعييرهم المسلمين ، و الشمات بهم الفينة بعد الفينة ، و ارتدادمن في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة ، و لم يحك أحد في هذه القصة شيئاً سوىهذه الرواية الضعيفة الأصل ، و لو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة ، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة ، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلكلبعض الضعفاء ردة ، و كذلك ما روى في قصة القضية ، و لا فتنة أعظم من هذه البينة لووجدت ، و لا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت ، فما روى عن معاندفيها كلمة ، و لا عن مسلم بسببها بنت شفة ، فدل على بطلها و اجتثاث أصلها .
و لا شك في إدخال بعض شياطين الإنس أو [ 197 ] الجن هذا الحديث على بعض مغفليالمحدثين ، ليلبس به على ضعفاء المسلمين .
و وجه رابع : ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت : وإن كادوا ليفتنونك عن الذيأوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركنإليهم شيئا قليلا [ سورة الإسراء / 17 ، الآيتان : 73، 74 ] .
و هاتان الآيتان يردان الخبر الذي رووه ، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونهحتى يفتري ، و أنه ثبته لكاد يركن إليهم .
فمضمون هذا و مفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفتري ، و ثبته حتى لم يركن إليهمقليلاً ، فكيف كثيراً ! و هم يروون أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون و الإفتراءبمدح آلهتهم و أنه قال صلى الله عليه و سلم : افتريت على الله ، وقلت ما لم يقل ، وهذا ضد مفهوم الآية ، و هي تضعف الحديث لو صح ، فكيف و لا صحة له .
و هذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى : ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفةمنهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء [ سورة النساء / 4 ، الآية : 113 ] .
و قد روي عن ابن عباس : كل ما في القرآن كاد فهو ما لا يكون ، قال الله تعالى : يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ، و لم يذهب . و أكاد أخفيها ، و لم يفعل .
قال القشيري القاضي : و لقد طالبته قريش و ثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليهاو وعدوه الإيمان به إن فعل ، فما فعل ، و لا كان ليفعل .
قال ابن الأنباري : ما قارب الرسول و لا ركن .
و قد ذكرت في معنى هذه الآية تفاسير أخر ما ذكرناه من نص الله على عصمة رسوله يردسفسافها ، فلم يبق في الآية إلا أن الله تعالى امتن على رسوله بعصمته و تثبيته مماكاده به الكفار ، و راموا من فتنته ، و مرادنا من ذلك تنزيهه و عصمته صلى الله عليهو سلم ، و هو مفهوم الآية .
و أما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث لو صح ، و قد أعاذنا الله من صحته ،و لكن على كل حال فقد أجاب على ذلك أئمة المسلمين بأجوبة ، منها الغث و السمين ،فمنها ما روى قتادة و مقاتل ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم أصابته سنة عند قراءتههذه السورة فج رى هذا الكلام على لسانه بحكم النوم .
و هذا لا يصح ، إذ لا يجوز على النبي مثله في حالة من أحواله ، و لا يخلقه الله علىلسانه ، و لا يستولي الشيطان عليه في نوم و لا يقظة لعصمته في هذا الباب من جميعالعمد و السهو .
و في قول الكلبي : إن النبي صلى الله عليه و سلم ـ حدث نفسه ، فقال ذلك الشيطان علىلسانه .
و في رواية ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، قال : وسها ، فلما أخبر بذلك قال : إنما ذلك من الشيطان .
و كل هذا لا يصح أن يقوله النبي صلى الله عليه و سلم لا سهواً و لا قصداً ، و لايتقوله الشيطان على لسانه .
و قيل : لعل النبي صلى الله عليه و سلم قال في أثناءتلاوته على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار ، كقول إبراهيم عليه السلام : هذا ربي ـ على أحد التأويلات .
و كقوله : بل فعله كبيرهم هذا بعد السكت و بيان الفصل بين الكلامين ، ثم رجع إلىتلاوته .
و هذا [ 198 ] ممكن مع بيان الفصل و قرينة تدل على المراد ، و أنه ليس من المتلو ،و هو أحد ما ذكره القاضي أبو بكر .
و لا يعترض على هذا بما روي أنه كان في الصلاة ، فقد كان الكلام قبل فيها غير ممنوع .
و الذي يظهر و يترجح في تأويله عنده و عند غيره من المحققين على تسليمه أن النبيصلى الله عليه و سلم كان ـ كما أمره ربه ـ يرتل القرآن ترتيلا ، و يفصل الآي تفصيلافي قراءته ، كما رواه الثقات عنه ، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات و دسه فيها مااختلقه من تلك الكلمات محاكياً نغمة النبي صلى الله عليه و سلم بحيث يسمعه من دناإليه من الكفار ، فظنوها من قول النبي صلى الله عليه و سلم ، و أشاعوها ، و لم يقدحذلك عند المسلمين بحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله و تحققهم من حال النبيصلى الله عليه و سلم في ذم الأوثان و عيبها على ما عرف منه .
[
و قد حكى موسى بن عقبة في مغازيه نحو هذا ، و قال : إن المسلمين لم يسمعوها ، وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين و قلوبهم ] ، و يكون ما روي من حزن النبيصلى الله عليه و سلم لهذه الإشاعة و الشبهة ، و سبب هذه الفتنة .
و قد قال الله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقىالشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم، فمعنى تمنى : تلا ، قال الله تعالى : لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، أي تلاوة .
و قوله : ف ينسخ الله ما يلقي الشيطان ، أي يذهبه ، و يزيل اللبس به ، و يحكم آياته .
و قيل : معنى الآية هو ما يقع للنبي صلى الله عليه و سلم من السهو إذا قرأ فينتبهلذلك و يرجع عنه .
و هذا نحو قول الكلبي في الآية : إنه حدث نفسه ، و قال : إذا تمنى ، أي حدث نفسه .
و في رواية أبي بكر بن عبد الرحمن نحوه .
و هذا السهو في القراءة إنما يصح فيما ليس طريقه تغيير المعاني ، و تبديل الألفاظ ،و زيادة ما ليس من القرآن ، بل السهو عن إسقاط آية منه أو كلمة ، و لكنه لا يقر علىهذا السهو ، بل ينبه عليه ، و يذكر به للحين على ما سنذكره في حكم ما يجوز عليه منالسهو و ما لا يجوز .
و مما يظهر في تأويله أيضاً أن مجاهداً روى هذه القصة : و الغرانقة العلا ، فإنسلمنا القصة قلنا : لا يبعد أن هذا كان قرآناً ، و المراد بالغرانقة العلا ، و أنشفاعتهن لترتجى : الملائكة على هذه الرواية .
و بهذا فسر الكلبي الغرانقة أنها الملائكة ، و ذلك أن الكفار كانوا يعتقدون الأوثانو الملائكة بنات الله ، كما حكى عنهم ورد عليهم في هذه السورة بقوله : ألكم الذكروله الأنثى ، فأنكر الله هذا من قولهم ، و رجاء الشفاعة من الملائكة صحيح ، فلماتأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ، و لبس عليهم الشيطان ذلك ، وزينة في قلوبهم و ألقاه ، إليهم نسخ الله ما ألقى الشيطان ، و أحكم آياته ، و رفعتلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للإلباس ، كما نسخ كثير منالقرآن و رفعت تلاوته ، و كان في إنزال الله تعالى لذلك حكمة ، و في نسخه حكمة ،ليضل به من يشاء و يهدي من يشاء ، و ما يضل به إلا الفاسقين ، و ليجعل ما يلقيالشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد * وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن اللهلهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم [ سورة الحج / 22 ، الآيتان : 53 ، 54 ] .
و قيل : إن النبي صلى الله عليه و سلم ـ لما قرأ هذه السورة ، و بلغ ذكر اللات والعزى و مناة الثالثة الأخرى خاف الكفار أن يأتي بشيء من ذمها فسبقوا إلى مدحهابتلك الكلمتين ليخلطوا في تلاوة النبي صلى الله عليه و سلم ، و يشغبوا عليه علىعادتهم و قولهم : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون [ سورة فصلت ،الآية : 26 ] .
و نسب هذا الفعل إلى الشيطان لحمله لهم عليه ، و أشاعوا ذلك و أذاعوه ، و أنالنبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ قاله ، فحزن لذلك من كذبهم و افترائهم عليه ،فسلاه الله

 

 تعالى بقوله :      
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ، و بين للناس الحق من ذلك من الباطل ، و حفظ القرآن ، و أحكم آياته ، و دفع ما لبس به العدو ، كما ضمنه تعالى من قوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ سورة الحجر / 15 ، الآية : 9 ] .
و من ذلك ما روي من قصة يونس عليه السلام ـ و أنه وعد قومه بالعذاب عن ربه ، فلما تابوا كشف عنهم العذاب ، فقال : لا أرجع كذاباً أبداً ، فذهب مغاضباً .
فاعلم ـ أكرمك الله ـ أن ليس في خبر من الأخبار الواردة في هذا الكتاب أن يونس ـ عليه السلام ـ قال لهم : إن الله مهلككم ، و إنما فيه أنه دعا عليهم بالهلاك ، و الدعاء ليس بخبر يطلب صدقة من كذبه ، لكنه قال لهم : إن العذاب مصبحكم وقت كذا ، فكان ذلك ، كما قال ، ثم رفع الله تعالى عنهم العذاب و تداركهم ، قال الله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ سورة يونس / 10 ، الآية : 98 ] .
و روي في الأخبار انهم رأوا دلائل العذاب و مخايله ، قاله ابن مسعود .
و قال سعيد بن جبير : غشاهم العذاب كما يغشى الثواب القبر .
فإن قلت : فما معنى ما روي من أن عبد الله بن أبي سرح كان يكتب لرسول صلى الله عليه و سلم ، ثم ارتد مشركاً ، و صار إلى قريش تعالى فقال لهم : إني كنت أصرف محمداً حيث أريد ، كان يملى على [ عزيزحكيم ] فأقول أو [ عليم حكيم ] ؟ فيقول : نعم ، كل صواب .
و في حديث أخر : فيقول له النبي صلى الله عليه و سلم : اكتب كذا فيقول : أكتب كذا ؟ فيقول : اكتب كيف شئت و يقول : اكتب عليماً حكيماً ، فيقول أكتب : سيمعاً بصيراً ، فيقول له : اكتب كيف شئت .
و في الصحيح عن أنس رضي الله عنه ـ أن نصرانياً كان يكتب للنبي صلى الله عليه و سلم بعد ما أسلم ثم ارتد ، و كان يقول : ما يدري محمد إلا ما كتبت له .
فاعلم ـ ثبتنا الله و إياك على الحق ، و لا جعل للشيطان و تلبيسه الحق بالباطل إلينا سبيلاً ـ أن مثل هذه الحكاية أولاً لا توقع في قلب مؤمن ريناً ، إذ هي حكاية عمن ارتد و كفر بالله ، و نحن لا نقبل خبر المسلم المتهم ، فكيف بكافر اف ترى هو و مثله على الله و رسله ما هو أعظم من هذا ! .
و العجب لسليم العقل بشغل بمثل [ 200 ] هذه الحكاية سره ، و قد صدرت من عدو كافر مبغض للدين ، مفتر على الله و رسوله ، و لم ترد عن أحد من المسلمين ، و لا ذكر أحد من الصحابة أنه شاهد ما قاله و افتراه على نبي الله ، و إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ، و أولئك هم الكاذبون .
[ و ما و قع من ذكرها في حديث أنس رضي الله عنه و ظاهر حكايتها ، فليس فيه ما يدل على أنه شاهدها ، و لعله حكى ما سمع .
و قد علل البزار حديثه ذلك ، و قال : رواه ثابت عنه ، و لم يتابع عليه ، و رواه حميد عن أنس ، قال : و أظن إنما سمعه من ثابت .
قال القاضي أبو الفضل ـ و فقه الله : و لهذا ، و الله أعلم ، لم يخرج أهل الصحيح حديث ثابت و لا حميد . و الصحيح حديث عبد العزيز بن رفيع عن أنس رضي الله عنه الذي خرجه أهل الصحة و ذكرناه ، و ليس فيه عن أنس قول شيء من ذلك من قبل نفسه إلا من حكايته عن المرتد النصراني ] ، و لو كانت صحيحة لما كان فيها قدح و لا تو هيم للنبي صلى الله عليه و سلم فيما أوحي إليه ، و لا جواز للنسيان و الغلط عليه و التحريف فيما بل غه و لا طعن في نظم القرآن ، و أنه من عند الله ، إذ ليس فيه لو صح ـ أكثر من أن الكاتب قال له : عليم حكيم ـ و كتبه ، فقال له النبي ـ صلى الله عليه و سلم : كذلك هو ، فسبقه لسانه أو قلمه لكلمة أو كلمتين مما نزل على الرسول قبل إظهار الرسول لها ، إذ كان ما تقدم مما أملاه الرسول يدل عليها و يقتضي وقوعها بقوة قدرة الكاتب على الكلام و معرفته به ، و جودة حسه و فطنته ، كما يتفق ذلك للعارف إذا سمع البيت أن يسبق إلى قافيته ، أو مبتدأ الكلام الحسن إلى ما يتم به ، و لا يتفق في جملة الكلام ، كما لا يتفق ذلك في آية و لا سورة .
و كذلك قوله صلى الله عليه و سلم : كل صواب إن صح ، فقد يكون هذا فيما كان فيه من مقاطع الآي و جهان و قراءتان أنزلتا جميعاً على النبي صلى الله عليه و سلم ، فأملى إحداها ، و توصل الكاتب بفطنته و معرفته بمقتضى الكلام إلى الأخرى ، فذكرها للنبي ـ صلى الله عليه و سلم كما قدمناه ، فصوبها له النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم أحكم الله من ذلك ما أحكم ، و نسخ ما نسخ كما قد وجد ذلك في بعض مقاطع الآي ، مثل قوله تعالى : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [ س ورة المائدة /5 ، الآية : 118 ] .
و هذه قراءة الجمهور و قد قرأ جماعة : [ فإنك أنت الغفور الحكيم ] . و ليست من المصحف .
و كذلك كلمات جاءت على وجهين في غير المقاطع ، قرأ بهما جميعاً الجمهور ، وثبتنا في المصحف ، مثل : وانظر إلى العظام كيف ننشزها و ننشزها و يقتضي الحق ـ و يقص الحق .
و كل هذا لا يوجب ريناً ، و لا ينسب للنبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ غلطة و لا وهماً .
و قد قيل : إن هذا يحتمل أن يكون فيما يكتبه عن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ إلى الناس غير القرآن ، فيصف الله و يسميه في ذلك كيف يشاء .


فصل
فيما يتصل بأمور الدنيا و أحوال نفسه

 

هذا القول فيما طريقه البلاغ ، و أما ما ليس سبيله من الأخبار التي لا مستند لها إلى الأحكام ، و لا أخبار المعاد ، و لا تضاف إلى وحي ، بل في أمور الدنيا و أحوال نفسه ـ فالذي يجب اعتقاده تنزيه النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أن يقع خبره في شيء من ذلك بخلاف مخبره ، لا عمداً و لا سهواً و لا غلطاً ، و أنه معصوم من ذلك في حال رضاه و في سخطه ، و جده و مزحه و صحته و مرضه .
و دليل ذلك اتفاق السلف و إجماعهم عليه ، و ذلك أنا نعلم من دين الصحابة و عادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله ، و الثقة بجميع أخباره في أي باب كانت ، و عن أي شيء وقعت ، و أنه لم يكن لهم توقف و لا تردد في شيء منها ، و لا استثبات عن حاله عند ذلك ، هل وقع فيها سهو أم لا ؟
و لما [ 201 ] احتج ابن أبي الحقيق اليهودي على عمر حين أجلاهم من خيبر بإقرار رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ، و احتج عليه عمر رضي الله عنه بقوله ـ صلى الله عليه و سلم : كيف بك إذا أخرجت من خيبر ؟ فقال اليهودي : كانت هزيلة من أبي القاسم . فقال عمر : كذبت يا عدو الله .
و أيضاً فإن أخباره و آثاره و سيره و شمائله م عتنى بها مستقصى تفاصيلها ، و لم يرد في شيء منها استدراكه صلى الله عليه و سلم لغلط في قول قاله ، أو اعترافه بوهم في شيء أخبربه ، و لو كان ذلك لنقل كما نقل من قصته عليه السلام في رجوعه صلى الله عليه و سلم عما أشار به على الأنصار في تلقيح النخل ـ و كان ذلك رأياً لا خبرا ، و غير ذلك من الأمور التي ليست من هذا الباب ، كقوله صلى الله عليه و سلم : و الله لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيراً منها إلا فعلت الذي حلفت عليه و كفرت عن يميني .
و قوله : إنكم تختصمون إلي ... الحديث .
قوله : اسق يا زبير حتى يبلغ الماء الجدر كما سنبين كل ما في هذا من مشكل ما في هذا الباب و الذي بعده إن شاء الله ، مع أشباهها .
و أيضاً فإن الكذب متى عرف من أحد في شيء من الأخبار بخلاف ما هو على أي وجه كان استريب بخيره ، و اتهم في حديثه ، و لم يقع قوله في النفوس موقعاً ، و لهذا ما ترك المحدثون و العلماء الحديث عمن عرف بالوهم و الغفلة و سوء الحفظ ، و كثرة الغلط للمروءة ، مع ثقة .
و أيضاً فإن تعمد الكذب في أمور الدنيا معصية ، و الإكثار منه كبيرة بإجماع ، مسقط للمروءة .
و كل هذا مما ينزه عنه منصب النب وة ، و المرة الواحدة منه فيا يستبشع و يستشنع و يشيع مما يخل بصاحبها ، و يزري بقائلها لا حقة بذلك .
و أما فيما لا يقع هذا الموقع فإن عددناها من الصغائر فهل يجري على حكمها في الخلاف فيها ؟ مختلف فيه . و الصواب تنزيه النبوة عن قليله و كثيره ، سهوه و عمده ، إذ عمدة النبوة البلاغ و الإعلام و التبين ، و تصديق ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم . و تجويز شيء من هذا قادح في ذلك ، و مشكك فيه ، مناقض للمعجزة ، فلنقطع عن يقين بأنه لا يجوز على الأنبياء خلف في القول في وجه من الوجوه ، لا بقصد و لا بغير قصد ، و لا تتسامح مع من سامح في تجويز ذلك عليهم حال السهو مما ليس طريقه البلاغ ، نعم ، و بأنه لا يجوز عليهم الكذب قبل النبوة ، و لا الاتسام به في أمورهم و أحوال دنياهم ، لأن ذلك كان يزري و يريب ، و ينفر القلوب عن تصديقهم بعد .
و انظر أحوال أهل عصر النبي صلى الله عليه و سلم من قريش و غيرها من الأمم و سؤالهم عن حاله في صدق لسانه ، و ما عرفوا به من ذلك و اعترفوا به مما عرف ، و اتفق النقل على عصمة نبينا صلى الله عليه و سلم منه قبل و بعد ، و قد ذكرنا من الآثار فيه في الباب الثاني أول الكتاب ما يبين ل ك صحة ما أشرنا إليه .

 

فصل
في حديث السهو

 

فإن قلت : فما معنى قوله صلى الله عليه و سلم في حديث السهو الذي حدثنا به الفقيه أبو إسحاق [ 202 ] إبراهيم بن جعفر حدثنا القاضي أبو الأصبغ بن سهل ، حدثنا حاتم بن محمد ، حدثنا أبو عبد الله بن الفخار ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا عبيد الله ، حدثنا يحيى ، عن مالك ، عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد أنه قال : سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة العصر ، فسلم في ركعتين ، فقام ذو اليدين ، فقال : يا رسول الله ، أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : كل ذلك لم يكن .
و في الرواية الآخرى : ما قصرت و ما نسيت .. الحديث بقصته ، فأخبره بنفي الحالتين ، و أنها لم تكن ، و قد كان أحد ذلك كما قال ذو اليدين : قد كان بعض ذلك يا رسول الله ...
فاعلم ـ وفقنا لله و إياك ـ أن للعلماء في ذلك أجوبة ، بعضها بصدد الإنصاف ، و منها ما هو بنية التعسف و الاعتساف ، و هأنا أقول :
أما على القول بتجويز الوهم و الغلط فيما ليس طريقه من القول البلاغ ، و هو الذي زيفناه من القولين ـ فلا اعتراض بهذا الحديث و شبهه .
و أما على مذهب من يمنع السهو في أفعاله جملة ، و يرى أنه في مثل هذا عامد لصورة النسيان ليسن ، فهو صادق في خبره ، لأنه لم ينس و لا قصرت ، و لكنه على هذا القول تعمد هذا الفعل في هذه الصورة لمن اعتراه مثله ، و هو قول مرغوب عنه و نذكره في موضعه
و أما على إحالة السهو عليه في الأقوال و تجويز السهو عليه فيما ليس طريقه القول ـ كما سنذكره ـ ففيه أجوبة ، منها :
أن النبي صلى الله عليه و سلم أخبر عن اعتقاده و ضميره ، أما إنكار القصر فحق و صدق باطناً و ظاهراً . و أما النسيان فأخبر ـ صلى الله عليه و سلم ـ عن اعتقاده ، و أنه لم ينس في ظنه ، فكأنه قصد الخبر عن ظنه و إن لم ينطق به ، و هذا صدق أيضاً .
و وجه ثاني : أن قوله : و لم أنس ـ راجع إلى السلام ، أي إني سلمت قصداً ، و سهوت عن العدد ، أي لم أسه في نفس السلام ، و هذا محتمل ، و فيه بعد .
و وجه ثالث ـ و هو أبعدهما ـ ما ذهب إليه بعضهم ، و إن احتمله اللفظ من قوله : كل ذلك لم يكن : أي لم يجتمع القصر و النسيان ، بل كان أحدهما . و مفهوم اللفظ خلافه مع الرواية الأخرى الصحيحة ، و هو قوله : ما قصرت الصلاة و ما نسيت .
هذا ما رأيت فيه لأئمتنا ، و كل من ه ذه الوجوه محتمل للفظ على بعد بعضها و تعسف الآخر منها .
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله : و الذي أقول ـ و يظهر لي أنه أقرب من هذه الوجوه كلها ـ أن قوله صلى الله عليه و سلم : لم أنس إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه ، و أنكره على غيره بقوله : بئس ما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كذا و كذا ، و لكنه نسي .
و بقوله في بعض روايات الحديث الآخر : لست أنسى ، و لكن أنسى . فلما قال له السائل : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ أنكر قصرها كما كان ، و نسيانه هو من قبل نفسه ، وإنه إن كان جرى شيء من ذلك فقد نسي حتى سأل غيره ، فتحقق أنه نسي ، و أجرى عليه ذلك [ 203 ] ليسن ، فقوله على هذا : لم أنس و لم تقتصر ، و كل ذلك لم يكن ـ صدق و حق ، لم تقصر ، و لم ينس حقيقة ، و لكنه نسي .
و وجه آخر استثرته من كلام بعض المشايخ ، و ذلك أنه قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسهو و لا ينسى ، و لذلك نفى عن نفسه النسيان ، قال : لأن النسيان غفلة و آفة ، و السهو إنما هو شغل بال ، قال : فكان النبي صلى الله عليه و سلم يسهو في صلاته و لا يغفل عنها ، و كان يشغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة ، شغلاً بها لا غفلة عنها .
فهذا إن تحقق على هذا المعنى لم يكن في قوله : ما قصرت و لا نسيت خلف في قول .
[ و عندي أن قوله : ما قصرت الصلاة و ما نسيت بمعنى الترك الذي هو أحد وجهي النسيان ، أراد ـ و الله أعلم ـ أني لم أسلم من ركعتين تاركاً لإكمال الصلاة ، و لكني نسيت ، و لم يكن من تلقاء نفسي .
و الدليل على ذلك قوله في الحديث الصحيح : إني لأنسى أو أنسى لأسن ] .
و أما قصة كلمات إبراهيم المذكورة في الحديث أنها كذباته الثلاث المنصوصة في القرآن منها اثنتان : قوله : إني سقيم . و قوله : قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا . و قوله للملك عن زوجته : إنها أختي ـ فاعلم ـ أكرمك الله أن هذه كلها خارجة عن الكذب ، لا في القصد و لا في غيره ، و هي داخلة في باب المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب .
أما قوله : إني سقيم ـ فقال الحسن و غيره : معناه سأسقم ، أي إن كل مخلوق معرض لذلك ، فاعتذر لقومه من الخروج معهم إلى عيدهم بهذا .
و قيل : بل سقيم بما قدر علي من الموت .
و قيل : سقيم القلب بما أشاهده من كفركم و عنادكم .
و قيل : بل كانت الحمى تأخذه عند طلوع نجم معلوم ، فلما رآه اعتذر ب عادته .
و كل هذا ليس فيه كذب ، بل هو خبر صحيح صدق .
و قيل : بل عرض بسقم حجته عليهم ، و ضعف ما أراد بيانه لهم من جهة النجوم التي كانوا يشتغلون بها ، و أنه أثناء نظره في ذلك ، و قبل استقامة حجته عليهم في حال سقم و مرض حال ، مع أنه لم يشك هو و لا ضعف إيمانه ، و لكنه ضعف في استدلاله عليهم و سقم نظره ، كما يقال : حجة سقيمة ، و نظر معلول ، حتى ألهمه الله باستلاله و صحة حجته عليهم بالكواكب و الشمس و القمر ـ ما نصه الله تعالى ، و قد قد منا بيانه .
و أما قوله : بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ـ فإنه علق خبره بشرط نطقه ، كأنه قال : إن كان ينطق فهو فعله على طريق التبكيت لقومه . و هذا صدق أيضاً ، و لا خلف فيه .
و ما قوله : أختي ـ فقد بين في الحديث ، و قال : فإنك أختي في الإسلام ، و هو صدق ، و الله تعالى يقول : إنما المؤمنون إخوة [ سورة الحجرات / 49 ، الآية : 10 ] .
فإن قلت : فهذا النبي صلى الله عليه و سلم قد سماها كذبات ، و قال : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات و قال ـ في حديث الشفاعة : و يذكر كذباته فمعناه أنه لم يتكلم بكلام صورته صورة الكذب و إن كان حقاً في الباطن إلا هذه الكلمات .
و لما كان مفهوم ظاهرها خلاف باطنها أشفق إبراهيم عليه الصلاة و السلام من مؤاخذته بها .
و أما الحديث : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها ـ فليس فيه خلف في القول ، إنما هو ستر مقصده ، لئلا يأخذ عدوه حذره ، و كتم وجه ذهابه بذكر السؤال عن موضع آخر و البحث عن أخباره و التعريض بذكره ، لا أنه [ 204 ] يقول : تجهزوا إلى غزوة كذا ، أو وجهتنا إلى موضع كذا خلاف مقصده ، فهذا لم يكن ، و الأول ليس فيه خبر يدخله الخلف .
فإن قلت : فما معنى قول موسى عليه السلام ـ و قد سئل : أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا أعلم ، فعتب الله عليه ذلك ، إذ يرد العلم إليه ـ الحديث ، و فيه قال : بل عبد لنا بمجمع البحرين أعلم منك .
و هذا خبر قد أنبأنا الله أنه ليس كذلك .
فاعلم أنه قد وقع في هذا الحديث من بعض طرقه الصحيحة ، عن ابن عباس : هل تعلم أحداً أعلم منك ؟ .
فإذا كان جوابه على علمه فهو خبر حق و صدق لا خلف فيه و لا شبهة .
و على الطريق الآخر فمحمله على ظنه و معتقده ، كما لو صرح به ، لأن حاله في النبوة و الاصطفاء يقتضي ذلك ، فيكون إخباره بذلك أيضاً عن اعتقاده و حسب انه صدقاً لا خلف فيه .
و قد يريد بقوله : أنا أعلم بما تقتضيه وظائف النبوة من علوم التوحيد ، و أمور الشريعة ، و سياسة الأمة ، و يكون الخضر أعلم منه بأمور أخر مما لا يعلمه أحد إلا بإعلام الله من علوم غيبه ، كالقصص المذكورة في خبرهما ، فكان موسى عليه السلام أعلم على الجملة بما تقدم . و هذا أعلم على الخصوص بما أعلم .
و يدل عليه قوله تعالى : وعلمناه من لدنا علما [ سورة الكهف / 18 ، الآية : 65 ] .
و عتب الله ذلك عليه ـ فيما قاله العلماء ـ إنكار هذا القول عليه ، لأنه لم يرد العلم إليه ، كما قالت الملائكة : لا علم لنا إلا ما علمتنا ، أو لأنه لم يرض قوله شرعاً ، و ذلك ـ و الله أعلم ـ لئلا يقتدي به فيه من لم يبلغ كماله في تزكية نفسه و علو درجته من أمته ، فيهلك لما تضمنه من مدح الإنسان نفسه ، و يورثه ذلك من الكبر و العجب و التعاطي و الدعوى ، و إن نزه عن هذه الرذائل الأنبياء فغيرهم بمدرجة سبيلها و درك ليلها إلا من عصمه الله ، فالتحفظ أولى لنفسه ، و ليقتدى به ، و لذا قال صلى الله عليه و سلم ـ تحفظاً من مثل هذا مما قد أعلم به : أنا سيد ولد آدم و لا فخر .
و هذا الحديث إحدى حجج القائلين بنبوة الخضر ، لقوله فيه : أنا أعلم من موسى . و لا يكون الولي أعلم من النبي .
و أما الأنبياء فيتفاضلون في المعارف .
و بقوله : وما فعلته عن أمري ، فدل أنه بوحي . و من قال : إنه ليس بنبي قال : يحتمل أن يكون فعله بأمر نبي آخر .
و هذا يضعف ، لأنه ما علمنا أنه كان في زمن موسى نبي غيره إلا أخاه هارون ، و ما نقل أحد من أهل الأخبار في ذلك شيئاً يعول عليه .
و إذا جعلنا [ أعلم منك ] ليس على العموم ، و إنما هو على الخصوص ، و في قضايا معينة ـ لم يحتج إلى إثبات نبوة الخضر ، و لهذا قال بعض الشيوخ : كان موسى أعلم من الخضر فيما أخذ عن الله ، و الخضر أعلم فيما رفع إليه من موسى .
و قال آخر : إنما ألجيء موسى إلى الخضر للتأديب لا للتعليم .

 

فصل
في عصمة الأنبياء من الفواحش و الكبائر الموبقات

 

و أما ما يتعلق بالجوارح من الأعمال ، و لا يخرج من جملتها القول باللسان فيما عدا الخبر الذي و قع فيه الكلام و الاعتماد بالقلب فيما عدا التوحيد ، و ما قدمناه من معارفه المختصة به ـ فأجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش و الكبائر الموبقات . [205 ] و مستند الجمهور في ذلك الإجماع الذي ذكرناه .
و هو مذهب القاضي أبي بكر ، و منعها غيره بدليل العقل مع الإجماع ، و هو قول الكافة و اختاره الأستاذ أبو اسحاق .
و كذلك لا خلاف أنهم معصومون من كتمان الرسالة و التقصير في التبليغ ، لأن كل ذلك تقتضي العصمة منه المعجزة ، مع الإجماع على ذلك من الكافة .
و الجمهور قائلون بأنهم معصومون من ذلك من قبل الله معتصمون باختيارهم و كسبهم إلا حسينا النجار ، فإنه قال : لا قدرة لهم على المعاصي أصلاً .
و أما الصغائر فجوزها جماعة من السلف و غيرهم على الأنبياء ، و هو مذهب أبي جعفر الطبري و غيره من الفقهاء و المحدثين و المتكلمين . و سنورد بعد هذا ما احتجوا به .
و ذهب طائفة أخرى إلى الوقف ، و قالوا : العقل لا يحيل و قوعها منهم ، و لم يأت في الش رع قاطع بأحد الوجهين .
و ذهبت طائفة أخرى من المحققيبن و المتكلمين إلى عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر ، قالوا : لا ختلاف الناس في الصغائر و تعيينها من الكبائر و إشكال ذلك ، وقول ابن عباس و غيره : إن كل ما عصي الله به فهو كبيرة ، و أنه إنما سمي منها الصغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه ، و مخالفة الباري في أمر كان يجب كونه كبيرة .
قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : لا يمكن أن يقال : إن في معاصي الله صغيرة إلا على معنى أنها تغتفر باجتناب الكبائر ، و لا يكون لها حكم مع ذلك بخلاف الكبائر إذا لم يتب منها فلا يحبطها شيء . و المشيئة في العفو عنها إلى الله تعالى ، و هو قول القاضي أبي بكر و جماعةأئمة الأشعرية و كثير من أئمة الفقهاء .
قال القاضي رحمه الله : و قال بعض أئمتنا : و لا يجب على القولين أن يختلف أنهم معصومون عن تكرار الصغائر و كثرتها ، إذ يلحقها ذلك بالكبائر ، و لا في صغيرة أدت إلى إزالة الحشمة ، و أسقطت المروءة ، و أوجبت الازراء و الخساسة ، فهذا أيضاً مما يعصم عنه الأنبياء إجماعاً ، لأن مثل هذا يحط منصبه المتسم به ، و يزري بصاحبه ، و ينفر القلوب عنه ، و الأنبياء منزهون عن ذلك بل يلحق بهذا ما كان من قبل المباح ، فأدى إلى مثله ، لخروجه بما أدى إليه عن اسم المباح إلى الحظر .
و قد ذهب بعضهم إلى عصمتهم من مواقعه المكروه قصداً .
و قد استدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر بالمصير إلى امتثال أفعالهم ، و اتباع آثارهم و سيرهم مطلقاً .
و جمهور الفقهاء على ذلك من أصحاب مالك و الشافعي و أبي حنيفة من غير التزام قرينة ، بل مطلقاً عند بعضهم ، و إن اختلفوا حكم ذلك .
و حكى ابن خويز منذا ذو أبو الفرج ، عن مالك ، التزام ذلك وجوباً ، و هو قول الأبهري و ابن القصار و أكثر أصحابنا .
و قول أكثر أهل العراق و ابن سريج و الإصطخري ، و ابن خيران من الشافعية .
و أثر الشافعية على أن ذلك ندب .
و ذهب طائفة إلى الإباحة .
و قيد بعضهم الاتباع فيما كان من الأمور الدينية و علم به مقصد القربة .
و من قال بالإباحة في أفعاله لم يقيد . قال : فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم في أفعالهم ، إذ ليس كل فعل من أفعاله يتميز مقصده [ 206 ] من القربة أو الإباحة ، أو الخطر ، أو المعصية . و لا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية ، لا سيما على من يرى من الأصوليين تقديم ا لفعل على القول إذا تعارضاً .
و نزيد هذا حجة بأن نقول : من جوز الصغائر و من نفاها عن نبينا صلى الله عليه و سلم مجمعون على أنه لا يقر على منكر من قول أو فعل ، و أنه متى رأى شيئاً فسكت عنه صلى الله عليه و سلم دل على جوازه ، فكيف يكون هذا حاله في حق غيره ، ثم يجوز و قوعه منه في نفسه .
و على هذا المأخذتجب عصمتهم من مواقعه المكروه ، كما قيل . و إذ الحظر أو الندب على الاقتداء بفعله ينافي الزجر و النهي عن فعل المكروه .
و أيضاً فقد علم من دين الصحابة قطعاً الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه و سلم كيف توجهت ، و من كل فن كالاقتداء باقواله ، فقد نبذوا خواتيمهم حين نبذ خاتمه ، و خلعوا نعالهم حين خلع ، و احتجاجهم برؤية ابن عمر إياه جالساً لقضاء حاجته مستقبلاً بيت المقدس .
و احتج غير واحد منهم في غير شيء مما بابه العبادة أو العادةبقوله : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعله ، و قال : هلا خبرتيها أني أقبل و أنا صائم ! و قالت عائشة ـ محتجة : كنت أفعله أنا و رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و غضب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي أخبر بمثل هذا عنه ، و قال : يحل الله لرسوله ما يشاء : إن ي لأخشاكم الله و أعلمكم بحدوده .
و الآثار في هذا أكثر من أن نحيط عليها ، لكنه يعلم من مجموعها على القطع اتباعهم أفعاله و اقتداؤهم بها . و لو جوزوا عليه المخالفة في شيء منها لما اتسق هذا ، و لنقل عنهم و ظهر بحثهم عن ذلك ، و لما أنكر صلى الله عليه و سلم على الآخر قوله و اعتذاره بما ذكرناه .
و أما المباحات فجائز وقوعها منهم ، إذ ليس فيها قدح ، بل هي مأذون فيها ، و أيديهم كأيدي غيرهم مسلطة عليها ،إلا أنهم بما خصوا به من رفيع المنزلة ، و شرحت له صدورهم من أنوار المعرفة ، و اصطفوا به من تعلق هممهم با الله و الدار الآخرة ـ لا يأخذون من المباحات إلا الضرورات مما يتقوون به على سلوك طريقهم ، و صلاح دينهم ، و ضرورة دنياهم ، و ما أخذ على هذه السبيل التحق طاعة ، و صار قربة ،كما بينا منه أول الكتاب طرفاً في نبينا صلى الله عليه و سلم ، فبان لك عظيم فضل لله على نبينا و على سائر أنبيائه عليهم السلام بأن جعل أفعالهم قربات و طاعات بعيدة عن وجه المخالفة و رسم المعصية .


فصل
في عصمة الأنبياء قبل النبوة

 

و قد اختلف في عصمتهم من المعاصي قبل النبوة ، فمنعها قوم ، و جوزها آخرون . و الصحيح أن شاء الله تنزيههم من كل عيب ، و عصمتهم من كل ما يوجب الريب ، فكيف و المسألة تصورها كالممتنع ، فإن المعاصي و النواهي إنما تكون بعد تقرر الشرع .
و قد اختلف الناس في حال نبينا صلى الله عليه و سلم قبل أن يوحى إليه ، قل كان متبعاً لشرع [207 ] قبله أم لا ؟ فقال جماعة : لم يكن متبعاً لشيء ، و هذا قول الجمهور ، فالمعاصي على هذا القول غير موجودة و لا معتبرة في حقه حينئذ ، إذ الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالأوامر و النواهي و تقرر الشريعة .
ثم اختلف حجج القائلين بهذه المقالة عليها ، فذهب سيف السنة ، و مقتدى فرق الأمة القاضي أبو بكر إلى أن طريق العلم بذلك النقل و موارد الخبر من طريق السمع ، و حجته أنه لو كان ذلك لنقل ، و لما أمكن كتمه و ستره في العادة ، إذ كان من مهم أمره ، و أولى ما اهتبل به سيرته ، و لفخر به أهل تلك الشريعة ، و لا حتجوا به عليه ، و لم يؤثر شيء من ذلك جملة .
و ذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلاً ، قالوا : لأنه يبعد أن يكون متبوعاً من عرف تابعاً ، و بنوا هذا على التحسين و التقبيح ، و هي طريقة غير سديدة ، و استناد ذلك إلى النقل كما تقدم للقاضي أبي بكر أولى و أظهر .
و قالت فرقة أخرى بالوقف في أمره صلى الله عليه و سلم و ترك قطع الحكم عليه بشيء في ذلك ، إذ لم يحل أحد الوجهين منها العقل ، و لا استبان في أحدهما طريق النقل ، و هو مذهب أبي المعالي .
و قالت فرقة ثالثة : إنه كان عاملاً بشرع من قبله ، ثم اختلفوا : هل يتعين ذلك الشرع أم لا ؟ فوقف بعضهم عن تعيينه ، و أحجم . و جسر بعضهم على التعيين و صمم . ثم اختلفت هذه المعينة فيمن كان يتبع ، فقيل نوح ، و قيل إبراهيم ، و قيل موسى ، و قيل عيسى صلوات الله عليهم . فهذه جملة المذاهب في هذه المسألة .
و الأظهر فيها ما ذهب إليه القاضي أبو بكر ، و أبعدها مذاهب المعينين ، إذ لو كان شيء من ذلك لنقل كما قدمنا ، و لم يخف جملة ، و لا حجة لهم في أن عيسى آخر الأنبياء ، فلزمت شريعته من جاء بعدها ، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى ، بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا صلى الله عليه و سلم ، و لا حجة أيضاً للآخرة في قوله : أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ، و لا للآخرين في قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، فتحمل هذه الآية على اتباع في التوحيد ، كقوله تعالى : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ سورة الأنعام / 6 ، الآية : 90 ] .
و قد سمى الله تعالى فيهم من لم يبعث ، و لم تكن له شريعة تخصه ، كيوسف بن يعقوب على قول من يقول : إنه ليس برسول .
و قد سمى الله تعالى جماعة منهم في هذه الآية شرائعهم مختلفة لا يمكن الجمع بينها ، فدل أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد و عبادة الله تعالى .
و بعد هذا فهل يلزم من قال بمنع الاتباع هذا القول في سائر الأنبياء غير نبينا صلى الله عليه و سلم ، أو يخالفون نبيهم ؟ .
أما من منع الاتباع عقلاً فيطرد أصله في كل رسول بلا مرية . و أما من مال إلى النقل فأينما تصور له و تقرر اتبعه .
و من قال بالوقف فعلى أصله . و من قال بوجوب الاتباع لمن قبله فيلتزمه بمساق حجته في كل نبي .

 

فصل
في الكلام على الأحاديث المذكور فيها السهو منه صلى الله عليه و سلم

 

في الكلام على الأحاديث [ 209 ] المذكور فيها السهو منه صلى الله عليه و سلم .
فقد قدمنا في الفصول قبل هذا ما يجوز فيه عليه السهو صلى الله عليه و سلم و ما يمتنع ، و أحلناه في الأخبار جملة ، و في الأقوال الدينية قطعاً ، و أجزنا وقوعه في الأفعال الدينية على الوجه الذي رتبناه ، و أشرنا إلى ما ورد في ذلك ، و نحن نبسط القول فيه و نقول : الصحيح من الأحاديث الواردة في سهوه صلى الله عليه و سلم في الصلاة ثلاثة أحاديث :
أولها : حديث ذي اليدين في السلام من اثنتين .
الثاني : حديث ابن بحينة في القيام من اثنتين .
الثالث : حديث ابن مسعود رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى الظهر خمساً .
و هذه الأحاديث مبنية على السهو في الفعل الذي قررناه ، و حكمة الله فيه ليستن به ، إذ البلاغ بالفعل أجلى منه بالقول ، و أرفع للاحتمال ، و شرطه ألا يقر على السهو ، بل يشعر به ليرتفع الالتباس ، و تظهر فائدة الحكمة فيه كما قدمناه ، فإن النسيان و السهو في الفعل في حقه صلى الله عليه و سلم غير مضاد للمعجزة ، و لا قادح في التصديق ، و قد قال صلى الله عليه و سلم : إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني .
و قال صلى الله عليه و سلم : رحم الله فلاناً ، لقد أذكرني كذا و كذا آية كنت أسقطهن ـ و يروى : أنسيهن .
و قال صلى الله عليه و سلم : إني لأنسى ، أو أنسى ، لأسن .
قيل : هذا اللفظ شك من الراوي . و قد روى : إني لا أنسى ، و لكن أنسى لأسن .
و ذهب ابن نافع ، و عيسى بن دينار أنه ليس بشك ، فإن معناه التقسيم ، أي أنسى أنا ، أو ينسيني الله .
قال القاضي أبو الوليد الباجي : يحتمل ما قالاه أن يريد أني أنسى في اليقظة ، و أنسى في النوم ، أو أنسى على سبيل عادة البشر من الذهول عن الشيء و السهو ، و أنسى مع إقبالي عليه و تفرغي له ، فأضاف أحد النسيانين إلى نفسه ، إذ كان له بعض السبب فيه ، و نفى الآخر عن نفسه ، إذ هو فيه كالمضطر .
و ذهبت طائفة من أصحاب المعاني و الكلام على الحديث إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسهو في الصلاة و لا ينسى ، لأن النسيان ذهول و غفلة و آفة ، قال : و النبي صلى الله عليه و سلم منزه عنها ، و السهو شغل ، فكان النبي صلى الله عليه و سلم يسهو في صلاته ، و يشغله عن حركات ال صلاة ما في الصلاة ، شغلاً بها لا غفلة عنها .
و احتج بقوله في الرواية الأخرى : إني لا أنسى .
و ذهبت طائفة إلى منع هذا كله عنه ، و قالوا : إن سهوه عليه السلام كان عمداً و قصداً ليسن .
و هذا قول مرغوب عنه ، متناقض المقاصد ، لا يحلى منه بطائل ، لأنه كيف يكون معتمداً ساهياً في حال . و لا حجة لهم في قولهم : إنه أمر بتعمد صورة النسيان ليسن ، لقوله : إني لأنسى أو أنسى . و قد أثبت أحد الوصفين ، و نفى مناقضة التعمد و القصد ، و قال : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، [ فإذا نسيت فذكروني ] .
و قد مال إلى هذا عظيم من المحققين من أئمتنا ، و هو أبو المظفر الإسفرايني ، و لم يرتضه غيره منهم ، و لا أرتضيه ، و لا حجة لهاتين الطائفتين في قوله : إني لا أنسى [ 210 ] ، و لكن أنسى ، إذ ليس فيه نفي حكم النسيان بالجملة ، و إنما فيه نفي لفظه و كراهة لقبه ، كقوله : بئس ما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كذا ، و لكنه نسي ، أو نفي الغفلة و قلة الاهتمام بأمر الصلاة عن قلبه ، لكن شغل بها عنها ، و نسي بعضها ببعضها ، كما ترك الصلاة يوم الخندق حتى خرج وقتها ، و شغل بالتحرز من العدو عنها ، فشغل بطاعة عن طاعة .
و قي ل : إن الذي ترك يوم الخندق أربع صلوات : الظهر ، و العصر ، و المغرب ، و العشاء ، و به احتج من ذهب إلى جواز تأخير الصلاة في الخوف ، إذا لم يتمكن من أدائها إلى وقت الأمن ، و هو مذهب الشاميين .
و الصحيح أن حكم الصلاة الخوف كان بعد هذا ، فهو ناسخ له .
فإن قلت : فما تقول في نومه صلى الله عليه و سلم عن الصلاة يوم الوادي ، و قد قال : إن عيني تنامان و لا ينام قلبي .
فاعلم أن للعلماء في ذلك أجوبة ، منها : أن المراد بأن هذا حكم قلبه عند نومه و عينيه في غالب الأوقات ، و قد يندر منه غير ذلك ، كما يندر منة غيره خلاف عادته .
و يصحح هذا التأويل قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث نفسه : إن الله قبض أرواحنا .
و قول بلال فيه : ما ألقيت علي نومه مثلها قط ، و لكن مثل هذا إنما يكون منه لأمر يريده الله من إثبات حكم ، و تأسيس سنة ، و إظهار شرع ، كما قال في الحديث الآخر : لو شاء الله لأيقظنا ، و لكن أراد أن يكون لمن بعدكم .
الثاني ـ أن قلبه لا يستغرقه النوم حتى يكون منه الحدث فيه ، لما روي أنه كان محروساً ، و أنه كان ينام حتى ينفخ ، و حتى يسمع غطيطه ثم يصلي و لا يتوصأ .
و حديث ابن عباس المذكور فيه و ضوءه عند قيامه من النوم ، فيه نومه مع أهله ، فلا يمكن الاحتجاج به على و ضوئه بمجرد النوم إذ لعل ذلك لملامسته الأهل أو لحدث آخر ، فكيف و في آخر الحديث نفسه : ثم نام حتى سمعت غطيطه ، ثم أقيمت الصلاة فصلى و لم يتوضأ .
و قيل : لا ينام قلبه من أجل أنه يوحى إليه في النوم ، و ليس في قصة الوادي إلا نوم عينه عن رؤية الشمس . و ليس هذا من فعل القلب ، و قد قال صلى الله عليه و سلم : إن الله قبض أرواحنا و لو شاء لردها إلينا في حين غير هذا .
فإن قيل : فلولا عادته من استغراق النوم لما قال لبلال : أكلا لنا الصبح .
فقيل في الجواب : إنه كان من شأنه ـ صلى الله عليه و سلم ـ التفليس بالصبح ، و مراعاة أول الفجر لا تصح ممن نامت عينه ، إذ هو ظاهر يدرك بالجوارح ، فوكل بلالاً بمراعاة أوله ليعلمه بذلك ، كما لو شغل بشغل غير النوم عن مراعاته .
فإن قيل : فما معنى نهيه صلى الله عليه و سلم عن القول : نسيت ، و قد قال صلى الله عليه و سلم : إني أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني . و لقد أذكرني كذا و كذا آية كنت أنسيتها .
فاعلن ـ أكرمك الله ـ أنه لا تعارض في هذه الألفاظ ، أما نهيه عن أن يقال ن سيت آية كذا فمحمول على ما نسخ حفظه من القرآن ، أي إن الغفلة في هذا لم تكن منه ، و لكن الله تعالى اضطره إليها ليمحو ما يشاء و يثبت . و ما كان من سهو أو غفلة من [ 211 ] قبله تذكرها صلح أن يقال فيه : أنسى .
و قد قيل : إن هذه منه صلى الله عليه و سلم على طريق الاستحباب أن يضيف الفعل إلى خالقه ، و الآخر على طريق الجواز لاكتساب العبد فيه ، و إسقاطه ـ صلى الله عليه و سلم ـ لما أسقط من هذه الآيات جائز عليه بعد بلاغ ما أمر ببلاغه ، و توصيله إلى عباده ، ثم يستذكرها من أمته ، أو من قبل نفسه ، إلا ما قضى الله نسخه و محوه من القلوب و ترك استذكاره .
و قد يجوز أن ينسى النبي صلى الله عليه و سلم ما هذا سبيله كرة ، و يجوز أن ينسيه منه قبل البلاغ ما لا يغير نظماً ، و لا يخلط حكماً ، مما لا يدخل خللاً في الخبر ، ثم يذكره إياه و يستحيل دوام نسيانه له ، لحفظ الله كتابه ، و تكليفه بلاغه .

 

فصل
في الرد على من أجاز عليهم الصغائر

 

اعلم أن المجوزين للصغائر على الأنبياء من الفقهاء و المحدثين و من شايعهم على ذلك من المتكلمين احتجوا على ذلك بظواهر كثيرة من القرآن و الحديث إن التزموا ظواهرها أفضت بهم إلى تجويز الكبائر و خرق الإجماع ، و هو ما لا يقول به مسلم ، فكيف و كل ما احتجوا به مما اختلف المفسرون في معناه ، و تقابلت الاحتمالات في مقتضاه ، و جاءت أقاويل فيها للسلف بخلاف ما التزموه من ذلك ، فإذا لم يكن مذهبهم إجماعاً ، و كان الخلاف فيما احتجوا به قديماً ، و قامت الدلالة على خطأ قولهم ، و صحة غيره ، وجب تركه ، و المصير إلى ما صح .
و ها نحن نأخذ في النظر فيها إن شاء الله .
فمن ذلك قوله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم :
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 2 ] .
و قوله : واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات [ سورة محمد / 47 ، الآية : 19 ] .
و قوله : ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك [ سورة الشرح / 94 ، الآية : 2 ، 3 ] .
و قوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 43 ] .
و قوله : لولا كتاب من ا لله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 68 ] .
و قوله : عبس وتولى * أن جاءه الأعمى الآية .
و ما قص من قصص غيره من الأنبياء ، كقوله : وعصى آدم ربه فغوى [ سورة طه / 20 ، الآية : 121 ] .
و قوله : فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون [ سورة الأعراف / 7 الآية : 190 ] .
و قوله : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [ سورة الأعراف / 7 ، الآية : 23 ] .
و قوله ـ عن يونس : سبحانك إني كنت من الظالمين [ سورة الأنبياء / 21 ، الآية : 87 ] .
و ما ذكر من قصته و قصة داود ، و قوله : وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب [ سورة ص / 38 ، الآية : 24 ، 25 ] .
و قوله : ولقد همت به وهم بها ، و ما قص من قصته مع إخوته .
و قوله ـ عن موسى : فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان [ سورة القصص / 28 ، الآية : 15 ] .
و قول النبي ـ صلى الله عليه و سلم في دعائه : اغفر لي ما قدمت و ما أخرت ، و ما أسررت وما أعلنت و نحوه م ن أدعيته صلى الله عليه و سلم .
و ذكر الأنبياء في الموقف ذنوبهم في حديث الشفاعة .
و قوله : إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله .
و في حديث أبي هريرة : إني لأستغفر الله و أتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة . و قوله تعالى ـ عن نوح : وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين .
و قد كان [ 212 ] قال الله له : ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون [ سورة هود / 11 ، الآية : 37 ] .
و قال ـ عن إبراهيم : والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين [ سورة الشعراء / 26 ، الآية : 82 ] . و قوله ـ عن موسى : تبت إليك [ سورة الأعراف / 7 ، الآية : 143 ] .
و قوله : ولقد فتنا سليمان ... إلى ما أشبه هذه الظواهر .
قال القاضي رحمه الله : فأما احتجاجهم بقوله : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر : فهذا قد اختلف فيه المفسرون ، فقيل : المراد ما كان قبل النبوة و بعدها .
و قيل : المراد ما وقع لك من ذنب وما لم يقع ـ أعلمه أنه مغفور له .
و قيل : المتقدم ما كان قبل النبوة ، و المتأخر عصمتك بعدها ، حكاه أحمد بن نصر .
و قيل : المراد بذلك أمته .
و قيل : المراد ما كان عن سهو و غفلة ، و تأويل ، حكاه الطبري ، و اختاره القشيري .
و قيل : ما تقدم لأبيك آدم ، و ما تأخر من ذنوب أمتك ، حكاه السمرقندي و السلمي عن ابن عطاء .
و بمثله و الذي قبله يتأول قوله : واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ،
قال مكي : مخاطبة النبي صلى الله عليه و سلم ها هنا هي مخاطبة لأمته .
و قيل : إن النبي صلى الله عليه و سلم لما أمر أن يقول : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ـ سر بذلك الكفار ، فأنزل الله تعالى : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر الآية ، و بمآل المؤمنين في الآية الأخرى بعدها ، قاله ابن عباس ، فمقصد الآية : إنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب إن لو كان . قال بعضهم : المغفرة ها هنا تبرئة من العيوب .
و أما قوله : ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك ، فقيل : ما سلف من ذنبك قبل النبوة ، و هو قول ابن زيد و الحسن ، و معنى قول قتادة .
و قيل : معناه أنه حفظ قبل نبوته منها ، و عصم ، و لولا ذلك لأثقلت ظهره ، حكى معناه السمرقندي .
و قيل : المراد بذلك ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتى بلغها ، حكاه الماوردي ، و السلمي .
و قيل : حططنا عنك ثقل أيام الجاهلية ، حكاه مكي .
و قيل : ثقل شغل سرك و حيرتك و طلب شريعتك حتى شرعنا ذلك لك ، حكى معناه القشيري .
و قيل المعنى : خففنا عليك ما حملت بحفظنا لما استحفظت ، و حفظ عليك .
و معنى أنقض ظهرك ، أي كاد ينقضه ، فيكون المعنى على من جعل ذلك لما قبل النبوة ـ اهتمام النبي صلى الله عليه و سلم بأمور فعلها قبل نبوته ، و حرمت عليه بعد النبوة ، فعدها أوزار ، و ثقلت عليه ، و أشفق منها .
أو يكون الوضع عصمة الله له و كفايته من ذنوب لو كانت لأنقضت ظهره .
أو يكون من ثقل الرسالة ، أو ما ثقل عليه و شغل قلبه من أمور الجاهلية ، و إعلام الله تعالى له بحفظ ما استحفظه من وحيه .
و أما قوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم ـ فأمر لم يتقدم للنبي صلى الله عليه و سلم من الله تعالى نهي فيعد معصية ، و لا عده الله تعالى عليه معصية ، بل لم يعده أهل العلم معاتبة . و غلطوا من ذهب إلى ذلك ، قال نفطويه [ 213 ] : و قد حاشاه الله تعالى من ذلك ، بل كان مخيراً في أمرين ، قالوا : و قد كان له أن يفعل ما شاء فيما لم ينزل عليه فيه وحي ، فكيف و قد قال الله تعالى : فأذن لمن شئت منهم . فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا ، و أنه لا حرج عليه فيما فعل ، و ليس عفا هنا بمعنى غفر ، بل كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : عفا الله لكم عن صدقة الخيل و الرقيق . و لم تجب عليهم قط ، أي لم يلزمكم ذلك .
و نحوه للقشيري ، قال : و إنما يقول العفو : لا يكون إلا عن ذنب ـ من لم يعرف كلام العرب ، و معنى عفا الله عنك ـ أي لم يلزمك ذنباً .
قال الداودي : روي أنها تكرمة .
و قال مكي : هو استفتاح كلام ، مثل أصلحك الله و أعزك .
و حكى السمرقندي أن معناه عفاك الله .
و أما قوله في أسارى بدر : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم . فليس فيه إلزام ذنب للنبي صلى الله عليه و سلم ، بل فيه بيان ما خص به وفضل من بين سائر الأنبياء ، فكأنه قال : ما كان هذا لنبي غيرك ، كما قال صلى الله عليه و سلم : أحلت لي الغنائم ، و لم تحل لنبي قبلي .
فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : تريدون عرض الدني ا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 67] .
قيل : المعنى بالخطاب لمن أراد ذلك منهم ، و تجرد غرضه لعرض الدنيا وحده ، و الاستكثار منها ، و ليس المراد بهذا النبي صلى الله عليه و سلم ، و لا عليه أصحابه ، بل قد روى عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر ، و اشتغل الناس بالسلب و جمع الغنائم عن القتال ، حتى خشي عمر أن يعطف عليهم العدو .
ثم قال تعالى : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ، فاختلف المفسرون في معنى الآية ، فقيل : معناها لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحداً إلا بعد النهي لعذبتكم .
فهذا ينفي أن يكون أمر الأسرى معصية .
و قيل : المعنى لو لا إيمانكم بالقرآن ، و هو الكتاب السابق فاستوجبتم به الصفح ـ
لعوقبتم على الغنائم .
و يزاد هذا القول تفسيراً و بياناً بأن يقال : لو لا ما كنتم مؤمنين بالقرآن ، و كنتم ممن أحلت لهم الغنائم لعوقبتم ، كما عوقب من تعدى .
و قيل : لولا أنه سبق في اللوح المحفوظ أنها حلال لكم لعوقبتم .
فهذا كله ينفي الذنب و المعصية ، لأن من فعل ما أحل له لم يعص ، قال الله تعالى : فكلوا مما غنمتم حلالا طي با [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 69 ] .
و قيل : بل كان صلى الله عليه و سلم قد خير في ذلك ، و قد روي عن علي رضي الله عنه ، قال : جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه و سلم يوم بدر ، فقال : خير أصحابك في الأساري ، إن شاءوا القتل ، و إن شاءوا الفداء ، على أن يقتل منهم في العام المقبل مثلهم .
فقالوا : الفداء و يقتل منا .
و هذا دليل على صحة ما قلناه ، و أنهم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه ، و لكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين مما كان الأصلح غيره من الإثخان و القتل ، فعوتبوا على ذلك ، و بين لهم ضعف اختيارهم و تصويب اختيار غيرهم ،، و كلهم غير عصاة ولا مذنبين ، و إلى نحو هذا أشار الطبري .
و قوله ـ صلى الله عليه و سلم في هذه القضية : لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر . [ 412 ] ـ إشارة إلى هذا من تصويب رأيه و رأي من أخذ بمأخذه ، في إعزاز الدين و إظهار كلمته ، و إبادة عدوه ، و أن هذه القضية لو استوجبت عذاباً نجا منه عمر و مثله ، و عين عمر لأنه أول من أشار بقتلهم ، و لكن الله لم يقدر عليهم في ذلك عذاباً لحله لهم فيما سبق .
و قال الداودي : و الخبر بهذا لا يثبت ، و لو ثبت لما جاز أن يظن أن النبي صلى الله عليه و سلم حكم لما لا نص فيه و لا دليل من نص ، و لا جعل الأمر فيه إليه ، و قد نزهه الله تعالى عن ذلك .
و قال القاضي بكر بن العلاء : أخبر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن تأويله وافق ما كتبه له من إحلال الغنائم و الفداء ، و قد كان قبل هذا فادوا في سرية عبد الله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي بالحكم بن كيسان و صاحبه ، فما عتب الله ذلك عليهم ، و ذلك قبل بدر بأزيد من عام .
فهذا كله يدل على أن فعل النبي صلى الله عليه و سلم في شأن الأسرى كان على تأويل و بصيرة ، و على ما تقدم قبل مثله ، فلم ينكره الله تعالى عليهم ، لكن الله تعالى أراد ـ لعظم أمر بدر و كثرة أسراها ، و الله أعلم ـ إظهار نعمته ، و تأكيد منته ، بتعريفهم ما كتبه في اللوح المحفوظ من حل ذلك لهم ، لا على وجه عتاب و إنكار و تذبيب . هذا معنى كلامه .
و أما قوله : عبس وتولى * أن جاءه الأعمى [ سورة عبس / 80 ، الآية : 1 ] .
فليس له إثبات ذنب له صلى الله عليه و سلم ، بل إعلام الله أن ذلك المتصدي له ممن لا يتزكى ، و ان الصواب و الأولى ـ لو كشف لك حال الرجلين ـ الإقبال على الأعمى .
و فعل النبي صلى الله عليه و سلم لما فعل ، و تصديه لذلك الكافر ، كان طاعة لله و تبليغاً عنه و استئلافاً له ، كما شرعه الله له ، لا معصية ، و لا مخالفة له .
و ما قصه الله عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين و توهين أمر الكافر عنده و الإشارة إلى الإعراض عنه ، بقوله : وما عليك أن لا يزكى [ سورة عبس / 80 ، الآية : 3 ] .
و قيل : أراد بـ [ عبس ] ، و [ تولى ] ـ الكافر الذي كان مع النبي صلى الله عليه و سلم ، قاله أبو تمام .
و أما قصة آدم عليه السلام ، و قوله تعالى : فأكلا منها ـ بعد قوله : ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين . و قوله ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ، و تصريحه تعالى عليه بالمعصية بقوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى ، أي جهل .
و قيل أخطأ ، فإن الله تعالى قد أخبر بعذره بقوله : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ، قال ابن زيد : نسي عداوة إبليس له ، و ما عهد الله إليه من ذلك بقوله : إن هذا عدو لك ولزوجك الآية .
و قيل : نسي ذلك بما أظهر لهما .
و قال ابن عباس : إنما سمي الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسي .
و قيل : لم يقصد المخالفة است حلالاً لها ، و لكنهما اغتراً بحلف إبليس لهما : إني لكما لمن الناصحين ، و توهما أن أحداً لا يحلف بالله حانثاً .
و قد روي عذر آدم بمثل هذا في بعض الآثار .
و قال ابن جبير : حلف بالله لهما حتى غرهما ، و المؤمن يخدع .
و قد قيل : نسي ، و لو ينو المخالفة ، فلذلك قال : ولم نجد له عزما ، و أي قصداً [ 215 ] للمخالفة .
و أكثر المفسرين على أن العزم هنا الجزم و الصبر .
و قيل : كان عند أكله سكران ، و هذا فيه ضعف ، لأن الله تعالى وصف خمر الجنة أنها لا تسكر ، فإذا كان ناسياً لم تكن معصية ، و كذلك إن كان ملبساً عليه غالطاً ، إذ الاتفاق على خروج الناسي و الساهي عن حكم التكليف .
قال الشيخ أبو بكر بن فورك و غيره : إنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوة ، و دليل ذلك قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ، فذكر أن الاجتباء و الهداية كانا بعد العصيان .
و قيل : بل أكلها متأولاً ، و هو يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها ، لأنه تأول نهي الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس ، و لهذا قيل : إنما كانت التوبة من ترك التحفظ ، لا من المخالفة .
و قيل : تأول أن الله لم ينهه عنه ا نهي تحريم .
فإن قيل : فعلى كل حال فقد قال الله تعالى : وعصى آدم ربه ، و قال : فتاب عليه وهدى . و قوله في حديث الشفاعة : و يذكر ذنبه ، و قال : إني نهيت عن أكل الشجرة فعصيت ، فسيأتي الجواب عنه و عن أشباهه مجملاً آخر الفصل إن شاء الله .
و أما قصة يونس فقد مضى الكلام على بعضها آنفاً ، و ليس في قصة يونس نص على ذنب ، و إنما فيها : أبق و ذهب مغاضباً و قد تكلمنا عليه .
و قيل : إنما نقم الله عليه خروجه عن قومه فاراً من نزول العذاب .
و قيل : بل لما وعدهم العذاب ثم عفا الله عنهم قال : و الله لا ألقاهم بوجه كذاب أبداً .
و قيل : بل كانوا يقتلون من كذب فخاف ذلك .
و قيل : ضعف عن حمل أعباء الرسالة . و قد يقدم الكلام أنه لم يكذبهم .
و هذا كله ليس فيه نص على معصية إلا على قول مرغوب عنه .
و قوله : إذ أبق إلى الفلك المشحون ـ قال المفسرون تباعد .
و أما قوله : إني كنت من الظالمين ، فالظلم وضع الشيء في غير موضعه ، فهذا اعتراف منه عند بعضهم بذنبه ، فإما أن يكون لخروجه عن قومه بغير إذن ربه ، أو لضعفه عماحمله ، أو لدعائه بالعذاب على قومه . و قد دعا نوح بهلاك قومه فلم يؤاخذ .
و ق ال الواسطي في معناه : نزه ربه عن الظلم ، و أضاف الظلم إلى نفسه اعترافاً و استحقاقاً . و مثل هذا قول آدم و حواء : ربنا ظلمنا أنفسنا ، إذ كانا السبب في وضعهما غير الموضع الذي أنزلا فيه ، و اخراجهما من الجنة ، و إنزالهما إلى الأرض .
و أما قصة داود عليه السلام فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره فيه الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا و غيروا ، و نقله بعض المفسرين . و لم ينص الله على شيء من ذلك ، و لا ورد في حديث صحيح . و الذي نص عليه قوله : وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب [ سورة ص / 38 ، الآية : 24 ، 25 ] .
و قوله فيه : أواب .
فمعنى فتناه : اختبرناه . و أواب : قال قتادة : مطيع .
و هذا التفسير أولى .
و قال ابن عباس ، و ابن مسعود : ما زاد داود على أن قال للرجل : انزل لي عن امرأتك و أكفلنيها ، فعاتبه الله على ذلك ، و نبهه عليه ، و أنكر عليه [ 216 ] شغله بالدنيا ، و هذا الذي ينبغي أن يعول عليه من أمره .
و قيل : خطبها على خطبته .
و قيل : بل أحب بقلبه أن تستشهد .
و حكى السمرقندي أن ذنبه الذي اس تغفر منه قوله لأحد الخصمين : لقد ظلمك ، فظلمه بقول خصمه .
و قيل : بل لما خشي على نفسه ، و ظن من الفتنة بما بسط له من الملك و الدنيا .
و إلى نفي ما أضيف في الأخبار إلى داود من ذلك ـ ذهب أحمد بن نصر ، و أبو تمام ، و غيرهما من المحققين .
و قال الداودي : ليس في قصة داود و أوريا خبر يثبت ، و لا يظن بنبي محبة قتل مسلم .
[ و قيل : إن الخصمين اللذين اختصما إليه رجلان في نعاج غنم ، على ظاهر الآية ] .
و أما قصة يوسف و إخوته فليس على يوسف فيها تعقب ، و أما إخوته فلم تثبت نبوتهم فليزم الكلام على أفعالهم . و ذكر الأسباط و عدهم في القرآن عند ذكر الأنبياء ليس صريحاً في كونهم من أهل الأنبياء .
قال المفسرون : يريد من نبئ من أنباء الأسباط .
و قد قيل : إنهم كانوا حين فعلوا بيوسف ما فعلوه صغار الأسنان ، و لهذا لم يميزوا يوسف حين اجتمعوا به ، و لهذا قالوا : أرسله معنا غداً نرتع و نلعب ، و إن ثبتت لهم نبوة فبعد هذا ، و الله أعلم .
و أما قول الله تعالى فيه : ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ـ فعلى طريق كثير من الفقهاء المحدثين أن هم النفس لا يؤاخذ به ، و ليس سيئة ، لقوله صلى الله عليه و سلم ـ عن ربه : [ إذا هم عبدي بسيئة فلم يعلمها كتبت له حسنة ] ، فلا معصية في همه إذاً .
و أما على مذهب المحققين من الفقهاء و المتكلمين فإن الهم إذا وطنت عليه النفس سيئة . و أما ما لم توطن عليه النفس من همومها و خواطرها فهو المعفو عنه .
هذا هو الحق ، فيكون ـ إن شاء الله ـ هم يوسف من هذا ، و يكون قوله : وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم [ سورة يوسف / 1 ، الآية : 53 ] .
ي ما أبرئها من هذا الهم ، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع و الإعتراف بمخالفة النفس لما زكي قبل و برىء ، فكيف و قدحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة ـ أن يوسف لم يهم ، و ان الكلام فيه تقديم و تأخير ، أي : و لقد همت به ، و لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، و قد قال الله تعالى ـ عن المرأة ـ : لقد راودته عن نفسه فاستعصم . و قال تعالى : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء . قال تعالى : وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي الآية .
قيل في ربي الله تعالى . و قيل : الملك .
و قيل : هم بها ، أي بزجرها و وعظها
و قيل هم بها ، أي غمها امتناعه عنها .
و قي ل هم بها : نظر إليها .
و قيل هم بضربها و دفعها .
و قيل هذا كله كان قبل نبوته .
و قد ذكر بعضهم : ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله ، فألقى عليه هيبة النبوة ، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه .
و أما خبر موسى صلى الله عليه و سلم مع قتيله الذي و كزه فقد نص الله تعالى أنه من عدوه ، قال : كان من القبط الذين على دين فرعون .
و دليل السورة في هذا كله أنه قبل نبوة موسى .
و قال قتادة : وكزه بالعصا ، و لم يتعمد قتله ، فعلى هذا لا معصية في ذلك .
و قوله : هذا من عمل الشيطان . و قوله : [ 217 ] ظلمت نفسي فاغفر لي ـ قال ابن جريح : قال ذلك من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر .
و قال النقاش : لم يقتله عن عمد مريداً للقتل ، و إنما وكزه و كزة يريد بها دفع ظلمة ، قال : و قد قيل : إن هذا كان قبل النبوة ، و هو مقتضى التلاوة .
و قوله تعالى ـ في قصته : : وفتناك فتونا ، أي ابتليناك ابتلاء بعد ابتلاء . قبل في هذه القصة و ما جرى له مع فرعون . و قيل : إلقاؤه في التابوت و اليم ، و غيرذلك .
و قيل : معناه أخلصناك إخلاصاً ، قاله ابن جبير و مجاهد ، من قولهم : فتنت الفضة في النار إذا خلصتها . و أصل الفتنة معنى الاختبار ، و إظهار ما بطن ، إلا أنه استعمل في عرف الشرع في اختبار أدى إلى ما يكره .
و كذلك ما روي في الخبر الصحيح ، من ان ملك الموت جاءه فلطم عينه ففقأها . . .
ألحديث .. ليس فيه ما يحكم به على موسى بالتعدي و فعل ما لايجب له ، إذ هو ظاهر الأمر ، بين الوجه ، جائز الفعل ، لأن موسى دافع عن نفسه من أتاه لإتلافها ، و قد تصور به في صورة آدمي ، و لا يمكن أنه علم حينئذ أنه ملك الموت ، فدافعه عن نفسه مدافعة أدت إلى ذهاب عين تلك الصور التي تصور له فيها الملك امتحاناً من الله ، فلما جاءه بعد ، و أعلمه الله تعالى أنه رسوله إليه استسلم .
و للمتقدمين و المتأخرين على هذا الحديث أجوبةهذا أسدها عندي ، و هو تأويل شيخنا الإمام أبي عبد الله المازري .
و قد تأوله قديماً ابن عائشة و غيره على صكه و لطمه بالحجة ، و فقء عين حجته ، و هو كلام مستعمل في هذا الباب في اللغة معروف .
و أما قصة سليمان و ما حكى فيها أهل التفاسير من ذنبه و قوله : ولقد فتنا سليمان ، فمعناه ابتلينا ، و ابتلاؤه : ما حكي عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال : لأطوفن الليلة على مائة امراة أو تسع وتسعين كلهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله . فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل . فلم تحمل منهم إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل . قال النبي صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله .
قال أصحاب المعاني : و الشق هو الجسد الذي ألقى على كرسيه حين عرض عليه ، وهي عقوبته و محنته .
و قيل بل مات فألقي على كرسيه ميتاً .
و قيل : ذنبه حرصه على ذلك و تمنيه .
و قيل : لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص ، و غلب عليه من التمني .
و قيل : عقوبته أن سلب ملكه ، و ذنبه أن احب بقلبه أن يكون الحق لأختانه على خصمهم .
و قيل : أوخذ بذنب قارفه بعض نسائه . و لا يصح ما نقله الأخباريون من تشبه الشيطان به ، و تسلطه على ملكه تعالى و تصرفه في في أمته بالجور في حكمه ، لأن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا ، و قد عصم الانبياء من مثله [218 ] .
و إن سئل : لم لم يقل سليمان في القصة المذكورة : إن شاء الله ـ فعنه أجوبة :
أحدها : ما روي في الحديث الصحيح أنه نسى أن يقولها ، و ذلك لينفذ مراد الله تعالى .
و الثاني : أنه لم يسمع صاحبه و شغل عنه .
و قوله : وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي . لم يفعل هذا سليمان غيره على الدنيا و لا نفاسة بها ، و لكن مقصده في ذلك ـ على ما ذكره المفسرون ـ ألا يسلط عليه أحد كما سلط عليه الشيطان الذي سلبه إياه مدة امتحانه على قول من قال ذلك .
و قيل : بل أراد أن يكون له من الله فضيلة و خاصة يختص بها كاختصاص غيره من أنبياء الله و رسله بخواص منه .
و قيل : ليكون ذلك دليلاً و حجة على نبوته ، كالإنة الحديد لأبيه ، و إحياء الموتى لعيسى ، و اختصاص محمد صلى الله عليه و سلم بالشفاعة ، و نحو هذا .
و أما قصة نوح عليه السلام فظاهرة العذر ، و إنه أخذ فيها بالتأويل و ظاهر اللفظ ، لقوله تعالى : [ و أهلك ] ، فطلب مقتضى هذا اللفظ ، و أراد علم ما طوي عليه من ذلك ، لا أنه شك في وعد الله تعالى ، فتبين الله عليه أنه ليس من أهله الذين وعده بنجاتهم لكفره و عمله الذي هو غير صالح ، و قد أعلمه أنه مغرق الذين ظلموا ، و نهاه عن مخاطبته فيهم ، فووخذ بهذا التأويل ، و عتب عليه ، و أشفق هو من إقدامه على ربه لسؤاله ما لم يؤذن له في السؤال فيه ، و كان نوح ـ فيما حكاه النقاش ـ لا يعلم بكفر ابنه .
و قيل في الآية غير هذا ، و كل هذا لا يقضي على نوح بمعصية سوى ما ذكرنا من تأويله و إقدامه بالسؤال فيما لم يؤذن له فيه ، و لا نهى عنه .
و ما روي في الصحيح من أن نبياً قرصته نملة فحرق قرية النمل ، فأوحى الله إليه : أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح ... فليس في هذا الحديث أن هذا الذي أتى معصية ، بل فعل ما رآه مصلحة و صواباً بقتل من يؤذي جنسه ، و يمنع المنفعة مما أباح الله .
ألا ترى أن هذا النبي كان نازلاً تحت الشجرة ، فلما آذته النملة تحول برجله عنها مخافة تكرار الأذى عليه و ليس فيما أوحى الله إليه ما يوجب معصية ، بل ندبه إلى احتمال الصبر و ترك التشفي ، كما قال تعالى : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ، إذا ظاهر فعله إنما كان لأجل أنها آذته هو في خاصته ، فكان انتقاماً لنفسه ، و قطع مضرة يتوقعها من بقية النمل هناك ، و لم يأت في كل هذا أمراً نهي عنه ، فيعصى به ، و لا نص فيما أوحى الله إليه بذلك ، و لا بالتوبة و الاستغفار منه . و الله أعلم .
فإن قيل : فما معنى قوله عليه السلام : ما من أحد إلا ألم بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا ، أو كما قال النبي صلى الله عليه و سلم .
فالجواب عنه : كما تقدم م ن ذنوب الأنبياء التي وقعت عن غير قصد و عن سهو و غفلة ] .


فصل
معقود لدفع شبه نشأت مما قدمه

 

فإن قلت : فإذا نفيت عنهم صلوات الله عليهم الذنوب و المعاصي بما ذكزته من اختلاف المفسرين و تأويل المحققين ـ فما معنى قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى ، و ما تكرر في القرآن و الحديث الصحيح من اعتراف الأنبياء بذنوبهم و توبتهم و استغفارهم [219 ] ، و بكائهم على ما سلف منهم ، وإشفاقهم. و هل يشفق و يتاب و يستغفر من لا شيء ؟ .
فاعلم ـ و فقنا الله و إياك ـ أن درجة الأنبياء في الرفعة و العلو و المعرفة با الله ، و سنته في عباده و عظم سلطانه ، و قوة بطشه ، مما يحملهم على الخوف منه جل جلاله ، و الإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم ، و أنهم ـ في تصرفهم بأمور لم ينهوا عنها ،و لا أمروا بها ، ثم أخذوا عليها ، و عوتبوا بسببها ، أو حذروا من المؤاخذة بها ، و أتوها على وجه التأويل أو السهو ، أو تزيد من أمور الدنيا المباحة ـ خائفون و جلون ، و هي ذنوب بالإضافة إلى علي منصبهم ، و معاص بالنسبة إلى كمال طاعتهم ، لا أنها كذنوب غيرهم و معاصيهم ، فإن الذنب مأخوذ من الشيء الدني الرذل ، و منه ذنب كل شيء أي آخره . و أذناب الناس رذالهم ، فكأن هذه أدنى أفعالهم ، و أسوأ ما يجر ي من أحوالهم لتطهيرهم و تنزيههم ، و عمارة بواطنهم و ظواهرهم بالعمل الصالح ، و الكلم الطيب ، و الذكر الظاهر و الخفي ، و الخشية الله ، و إعظامه في السر و العلانية ، و غيرهم يتلوث من الكبائر و القبائح و الفواحش ما تكون بالإضافة إليه هذه الهنات في حقه كالحسنات ، كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، أي يرونها بالإضافة إلى علي أحوالهم كالسيئات .
و كذلك العصيان الترك و المخالفة ، فعلى مقتضى اللفظة كيفما كانت من سهو أو تأويل فهي مخالفة و ترك .
قوله تعالى : غوى ، أي جهل أن تلك الشجرة هي التي نهي عنها ،و الغي : الجهل .
و قيل : أخطأ ما طلب من الخلود ، إذ أكلها و خابت أمنيته .
و هذا يوسف عليه السلام قد أوخذ بقوله لأحد صاحبي السجن : اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين [ سورة بوسف /12 الآية : 42 ] .
قيل : أنسي يوسف ذكره الله .
و قيل : أنسي صاحبه أن يذكره لسيده الملك ، قال النبي صلى الله عليه و سلم : لولا كلمة يوسف مالبث في السجن ما لبث .
قال ابن دينار : لما قال ذلك يوسف قيل له : اتخذت من دوني وكيلا ، لأطيلن حبسك . فقال : يارب ، أنسى قلبي كثر ة البلوى .
و قال بعضهم : يؤاخذ الأنبياء بمثا قيل الذر ، لمكانتهم عنده ، و يجاوز عن سائر الخلق لقلة مبالاته بهم في أضعاف ما أتوا به من سوء الأدب .
و قد قال المحتج للفرقة الأولى على سياق ما قلناه : إذا كان الأنبياء يؤاخذون بهذا مما لا يؤاخذ به غيرهم من السهو و النسيان ، و ما ذكرته ، و حالهم أرفع فحالهم إذًا في هذا أسوأ حالاً من غيرهم .
فاعلم ـ أكرمك الله ـ أنا لا نثبت لك المؤاخذة في هذا على حد مؤاخذة غيرهم ، بل نقول : إنهم يؤاخذون بذلك في الدنيا ، ليكون ذلك زيادة في درجاتهم ، و يبتلون بذلك ، ليكون استشعارهم له سبباً لمنماة رتبهم ، كما قال : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ سورة طه /20 ، الآية :122] .
قال [ 220 ] لداود : فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب [ سورة ص /23 ، الآية : 25 ] .
قال ـ بعد قول موسى : تبت إليك : إني اصطفيتك على الناس .
و قال ـ بعد ذكر فتنة سليمان و إنابته : فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد * هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب [ سورة ص/38 ، الآية : 36 ، 40 ] .
و قال بعض المتكلمين : زلات الأنبياء في الظاهر زلات ، و في الحقيقة كرامات وزلف ، وأشار إلى نحو مما قدمناه .
و أيضاً فلينبه غيرهم من البشر منهم ، أو ممن ليس في درجتهم بمؤاخذتهم بذلك ، فيستشعروا الحذر ، ويعتقدوا المحاسبة ليلتزموا الشكر على النعم ، ويعدوا الصبر على المحن بملاحظة ما وقع بأهل هذا النصاب الرفيع المعصوم ، فكيف بمن سواهم ، ولهذا قال صالح المري : ذكر داود بسطة للتوابين .
قال ابن عطاء : لم يكن ما نص الله تعالى عليه من قضية صاحب الحوت نقصا له ، و لكن استزادة من نبينا صلى الله عليه و سلم .
و أيضاً فيقال لهم : فإنكم و من وافقكم تقولون بغفران الصغائر باجتناب الكبائر .
و لا خلاف في عصمة الأنبياء من الكبائر ، فما جوزتم من وقوع الصغائر عليهم هي مغفورة على هذا ، فما معنى المؤاخذة بها إذاً عندكم و خوف الأنبياء و توبتهم منها ، و هي مغفورة لو كانت ؟
فما أجابوا به فهو جوابنا عن المؤاخذة بأعمال السهو و التأويل .
و قد قيل : إن كثرة استغفار النبي صلى الله عليه و سلم و توبته ، و غيره من الأنبياء على و جه ملازمة الخضوع و العبودية ، و الاعتراف بالتقصير ، شكراً الل ه على نعمه ، كما قال ـ صلى الله عليه و سلم ـ و قد أمن من المؤاخذة مما تقدم و تأخر : أفلا أكون عبداً شكوراً .
و قال : إني أخشاكم الله ، و أعلمكم بما أتقي .
قال الحارث بن أسد : خوف الملائكة و الأنبياء خوف إعظام و تعبد الله ، لأنهم آمنون .
و قيل : فعلوا ذلك ليقتدي بهم ، و تستن بهم أممهم ، كما قال صلى الله عليه و سلم : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً و لبكيتم كثيراً .
و أيضاً فإن في التوبة و الإستغفار معنى آخر لطيفاً أشار إليه بعض العلماء ، و هو استدعاء محبة الله ، قال الله تعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ سورة البقرة / 2، الآية : 222 ] .
فإحداث الرسل و الأنبياء الإستغفار و التوبة و الإنابة و الأوبة في كل حين ـ استدعاء لمحبة الله ! والإستغفار فيه معنى التوبة ، وقد قال الله لنبيه ـ بعد أن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 117 ] .
و قال تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [ سورة النصر / 110 ، الآية : 3 ] .

 

فصل
في تنزيه النبي عما لا يجب أن يضاف إليه

 

قد استبان لك أيها أبها الناظر بما قررناه ، ما هو الحق من عصمته صلى الله عليه و سلم عن الجهل با لله و صفاته ، و كونه علىحاله تنافي العلم بشيء من ذلك كله بعد النبوة عقلاً و اجماعاً ، و قبلها سمعاً و نقلاً ، و لا بشيء مما قرره من أمور الشرع ، و أداه عن ربه من الوحي قطعاً عقلاً و شرعاً ، و عصمته عن الكذب و خلف القول منذ نبأه الله و أرسله قصداً أو غير قصد ، و استحالة ذلك عليه شرعاً و إجماعاً ، و نظراً و برهاناً ، و تنزيهه عنه قبل النبوة قطعاً ، و تنزيهه [ 221 ] عن الكبائر إجماعاً و عن الصغائر تحقيقاً ، و عن استدامة السهو و الغفلة ، و استمرار الغلط و النسيان عليه فيما شرعه للأمة ، و عصمته في كل حالاته ، من رضاً و غضب ، و جد و مزح ، فيجب عليك أن تتلقاه باليمين ، و تشد عليه يد الضنين و تقدر هذه الفصول حق قدرها ، و تعلم عظيم فائدتها و خطرها ، فإن من يجهل ما يجب للنبي صلى الله عليه و سلم ، أو يجوز له ، أو يستحيل عليه ، و لا يعرف صور أحكامه ، لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه ، و لا ينزهه عما لا يجب أن يضاف إليه ، فيهلك من حيث لا يدري ، و يس قط في هوة الدرك الأسفل من النار حدثنا إذ ظن الباطل به ، و اعتقاده ما لا يجوز عليه يحل بصاحبه دار البوار .
و لهذا ما احتاط عليه السلام على الرجلين اللذين رأياه ليلاً ، و هو معتكف في المسجد مع صفية ، فقال لهما : إنها صفية . ثم قال لهما : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، و إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً فتهلكا .
هذه ـ أكرمك الله ـ إحدى فوائد ما تكلمنا عليه في هذه الفصول ، و لعل جاهلاً لا يعلم بجهله إذا سمع شيئاً منها برى أن الكلام فيها جملة من فصول العلم ، و أن السكوت أولى . و قد استبان لك أنه متعين للفائدة التي ذكرناها .
و فائدة ثانية يضطر إليها في أصول الفقه ، و تبني عليها مسائل لا تنعد من الفقه ، يتخلص بها من تشغيب مختلفي الفقهاء في عدة منها ، وهي الحكم في أقوال النبي صلى الله عليه و سلم و أفعاله ، و هو باب عظيم ، و أصل كبير من أصول الفقه ، و لا بد من بنائه على صدق النبي صلى الله عليه و سلم في إخباره و بلاغه ، و أنه لا يجوز عليه السهو فيه تعالى و عصمته من المخالفة في أفعاله عمداً ، و بحسب اختلافهم في وقوع الصغائر وقع خلاف في امتثال الفعل ، بسط بيانه في كتب ذلك العلم حدثنا فلا نطول به .
و فائدة ثالثة يحتاج إليها الحاكم و المفتى فيمن أضاف إلى النبي صلى الله عليه و سلم شيئاً من هذه الأمور ، و وصفه بها ، فمن لم يعرف ما يجوز و ما يمتنع عليه ، و ما وقع الإجماع فيه و الخلاف ، كيف يصمم في الفتيا في ذلك ، و من أين يدري ؟ هل ما قاله فيه نقص أو مدح ، فإما أن يجترىء على سفك دم مسلم حرام ، أو يسقط حقاً ، أو يضيع حرمه للنبي صلى الله عليه و سلم .
و اسبيل هذا ما قد اختلف أرباب الأصول و أئمة العلماء و المحققين في عصمة الملائكة .

 

فصل
في القول في عصمة الملائكة

 

أجمع المسلمون على أن الملائكة مؤمنون فضلاء ، واتفق أئمة المسلمين أن حكم المرسلين منهم حكم النبيين سواء في العصمة مما ذكرنا عصمتهم منه ، وأنهم في حقوق الأنبياء والتبليغ إليهم كالأنبياء مع الأمم .
واختلفوا في غير المرسلين منهم ، فذهبت طائفة إلى عصمة جميعهم عن المعاصي ، واحتجوا بقوله تعالى : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . و بقوله : وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون . [ 222 ] و بقوله : ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون . و بقوله : إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون . و بقوله : كرام بررة و لا يمسه إلا المطهرون ، و نحوه من السمعيات .
و ذهبت طائفة إلى أن هذا خصوص للمرسلين منهم و المقربين . و احتجوا بأشياء ذكرها أهل الأخبار و التفاسير ، نحن نذكرها إن شاء الله بعد ، و نبين الوجه فيها إن شاء الله .
و الصواب عصمة جميعهم ، و تنزيه نصابهم الرفيع عن جميع ما يحط من رتبتهم ومنزلتهم عن جليل مقدارهم .
ورأيت بعض شيوخنا أشرا أن لا حاجة بالفقيه إلى الكلام في عصمتهم ، و أنا أقول : إن للكلام في ذلك ما للكلام في عصمة الأنبياء من الفوائد التي ذكرناها سوى فائدة الكلام في الأقوال و الأفعال ، فهي ساقطة ها هنا .
فما احتج به من لم يوجب عصمة جميعهم قصة هاروت و ماروت ، و ما ذكر فيها أهل الأخبار و نقله المفسرين ، و ما روي عن علي و ابن عباس في خبرهما و ابتلائهما .
فاعلم ـ أكرمك الله ـ أن هذه الأخبار لم يرو منها شيء لا سقيم و لا صحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ليس هو شيئاً يؤخذ بقياس .
و الذي منه في القرآن اختلف المفسرون في معناه ، و أنكر ما قال بعضهم فيه كثير من السلف كما سنذكره . وهذه الأخبار من كتب اليهود وافترائهم ، كما نصه الله أول الآيات من افترئهم بذلك على سليمان و تكفيرهم إياه .
و قد انطوت القصة على شنع عظيمة . و ها نحن نخبر في ذلك ما يكشف غطاء هذه الإشكالات إن شاء الله :
فاختلف أولاً في هاروت و ماروت ، هل هما ملكان أو إنسيان ؟ وهل هما المراد بالملكين أم لا ؟ و هل القراءة ملكين أو ملكين ؟ و هل ما في قوله : وما أنزل على الملكين . وما يعلمان من أحد ـ نافية أو موجبة ! .
فأكثر المفسرين أن الله تعالى امتحن الناس بالملكين لتعليم السحر وتبيينه ، و أن عمله كفر ، فمن تعلمه كفر ، و من تركه آمن ، و قال الله تعالى : إنما نحن فتنة فلا تكفر و تعليمها الناس له تعليم إنذار ، أي يقولان لمن جاء يطلب تعلمه : لا تفعلوا كذا : فإنه يفرق بين المرء و زوجه ، و لا تتحيلوا بكذا ، فإنه سحر ، فلا تكفروا .
فعلى هذا فعل الملكين طاعة ، و تصر فهماً فيما أمرا به ليس بمعصية ، و هي لغيرهما فتنة .
و روى ابن وهب ، عن خالد بن أبي عمران ـ أنه ذكر عنده هاروت و ماروت ، و أنهما يعلمان السحر ، فقال : نحن ننزههما عن هذا .
فقرأ بعضهم : وما أنزل على الملكين . فقال خالد : لم ينزل عليهما .
فهذا خالد على جلالته و علمه نزههما عن تعليم السحر الذي قد ذكر غيره أنهما مأذون لهما في تعليمه بشريطة أن يبينا أنه كفر ، ، و أنه امتحان من الله و ابتلاء ، فكيف لا ينزههما عن كبائر المعاصي و الكفر المذكورة في تلك الأخبار .
و قول خالد : [ 223 ] لم ينزل : يريد أن ما نافية ، و هو قول ابن عباس ، قال مكي : و تقدير الكلام : و ما كفر سليمان ـ يريد بالسحر الذي افتعلته الشياطين ، فاتبعتهم في ذلك اليهود ، و م ا أنزل على الملكين ، قال مكي : هما جبريل و ميكائيل :
ادعى اليهود عليهما المجيء به ، كما ادعوا على سليمان ، فأكذبهم الله في ذلك .
و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت و ماروت قيل : هما رجلان تعلماه .
قال الحسن : هاروت و ماروت علجان من أهل بابل ، و قرأ : و ما أنزل على الملكين ـ بكسر اللام ، و تكون [ ما ] ايجاباً على هذا .
و كذلك قراءة عبد الرحمن بن أبزى ـ بكسر اللام ، و لكنه قال : الملكان هنا داود و سليمان ، و تكون [ ما ] نفياً على ما تقدم .
و قيل : كانا ملكين من بني اسرائيل ، فمسخهما الله ، حكاه السمرقندي .
و القراءة بكسر اللام شاذة ، فحمل الآية على تقدير أبي محمد مكي حسن ينزه الملائكة و يذهب الرجس عنهم ، و يطهرهم تطهيراً .
و قد وصفهم الله مطهرون ، و كرام بررة ، و لا يعصون الله ما أمرهم .
و مما يذكرونه قصة إبليس ، و أنه كان من الملائكة و رئيساً فيهم ، و من خزان الجنة ... إلى آخر ما حكوه ، و أنه استثناه من الملائكة بقوله : فسجدوا إلا إبليس
و هذا أيضاً لم يتفق عليه ، بل الأكثر ينفون ذلك ، و أنه أبو الجن ، كما أن آدم أبو الإنس ، و هو قول الحسن ، و قتادة ، و ابن زيد .
و قال شهر بن حوشب : كان من الجن الذين طردتهم الملائكة في الأرض حين أفسدوا ، و الاستثناء من غير الجنس شائع في كلام العرب سائغ ، و قد قال الله تعالى : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [ سورة النساء / 4 ، الآية : 157 ] .
و مما رووه من الأخبار أن خلقاً من الملائكة عصوا الله فحرقوا ، و أمروا أن يسجدوا لأدم فأبوا فحرقوا ، ثم آخرون كذلك ، حتى سجدوا له من ذكر الله إلا إبليس ، في أخبار لا أصل لها تردها صحاح الأخبار ، فلا يشتغل بها . و الله أعلم .
 الباب الثاني : فيما يخصهم في الأمور الدنيوية ويطرأ عليهم من العوارض البشرية
قد قدمنا أنه ـ صلى الله عليه و سلم ـ و سائر الأنبياء و الرسل من البشر ، و أن جسمه ، و ظاهره خالص للبشر ، يجوز عليه من الآفات و التغييرات ، و الآلام و الأسقام ، و تجرع كأس الحمام ما يجوز على البشر ، و هذا كله ليس بنقيصة فيه ، لأن الشيء إنما يسمى ناقصاً بالإضافة إلى ما هو أتم و أكمل من نوعه ، و قد كتب الله تعالى على أهل هذه الدار : فيها تحيون ، و فيها تموتون ، و منها تخرجون ، ، و خلق جميع البشر بمدرجة الغير ، فقد مرض صلى الله عليه و سلم ، و اشتكى ، و أصابه الحر و القر ، و أدركه الجوع و العطش ، و لحقه الغضب و الضجر ، و ناله الإعياء و التعب ، و مسه الضعف و الكبر ، و سقط فجحش شقه ، و شجه الكفار ، و كسروا رباعيته ، و سقي السم ، و سحر ، [ 224 ] و تداوى ، و احتجم ، و تنشر و تعوذ ، ثم قضى نحبه فتوفي صلى الله عليه و سلم ، و لحق بالرفيق الأعلى ، و تخلص من دار الامتحان و البلوى ، و هذه سمات البشر التي لا محيص عنها ، و أصاب غيره من الأنبياء ما هو أعظم منه ، فقتلوا قتلاً .
و رموا في النار ، و وشروا بالمياشير . و منهم من وقاه الله ذلك في بعض الأوقات . و منهم من عصمه كما عصم بعد نبينا من الناس ، فلئن لم يكف نبينا ربه يد ابن قميئة يوم أحد ، و لا حجبه عن عيون عداه عند دعوته أهل الطائف ، فلقد أخذ على عيون قريش عند خروجه إلى ثور ، و أمسك عنه سيف غورث ، و حجر أبي جهل ، و فرس سراقة ، و لئن لم يقه من سحر ابن الأعصم فلقد وقاه ما هو أعظم ، من سم اليهودية .
و هكذا سائر أنبيائه مبتلى و معافى ، و ذلك من تمام حكمته ، ليظهر شرفهم في هذه المقامات ، و يبين أمرهم ، و يتم كلمته فيهم ، و ليحقق بامتحانهم بشريتهم ، و يرتفع الالتباس عن أهل الضعف فيهم لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب على أيديهم ضلال النصارى بعيسى ابن مريم ، و ليكون في محنهم تسلية لأممهم ، و وفور لأجورهم عند ربهم تماماً على الذي أحسن إليهم .
قال بعض المحققين : و هذه الطوارئ و التغيرات المذكورة إنما تختص بأجسامهم البشرية المقصود بها مقاومة البشر ، و معاناة بني آدم لمشاكلة الجنس .
و أما بواطنهم فمنزهة غالباً عن ذلك معصومة منه ، متعلقة بالملأ الأعلى و الملائكة لأخذها عنهم ، و تلقيها الوحي منهم .
قال : و قد قال صلى الله عليه و سلم : إن عيني تنامان و لا ينا م قلبي .
و قال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت يطعمني ربي و يسقيني .
و قال : لست أنسى ، و لكن أنسى ، ليستن بي .
فأخبر أن سره و باطنه و روحه بخلاف جسمه و ظاهره ، و أن الآفات التي تحل ظاهره من ضعف و جوع ، و سهر و نوم ، لا يحل منها شيء باطنه ، بخلاف غيره من البشر في حكم الباطن ، لأن غيره إذا نام استغرق النوم جسمه و قلبه ، و هو صلى الله عليه و سلم في نومه حاضر القلب كما هو في يقظته حتى قد جاء في بعض الآثار أنه كان محروساً من الحدث في نومه لكونه قلبه يقظان كما ذكرناه .
و كذلك غيره إذا جاع ضعف لذلك جسمه ، و خارت قوته ، فبطلت بالكلية جملته ، و هو صلى الله عليه و سلم قد أخبر أنه لا يعتريه ذلك ، و أنه بخلافهم ، لقوله : لست كهيئتكم : إني أبيت يطعمني ربي و يسقيني .
و كذلك أقول : إنه في هذه الأحوال كلها ، من وصب و مرض ، و سحر و غضب ، لم يجز على باطنه ما يحل به ، و لا فاض منه على لسانه و جوارحه ما لا يريق به ، كما يعتري غيره من البشر مما نأخذ بعد في بيانه .

 

فصل
الأخبار التي وردت في أنه صلى الله عليه و سلم سحر

 

فإن قلت : فقد جاءت الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه و سلم سحر كما حدثنا الشيخ أبو محمد العتابي بقراءتي عليه ، قال : حدثنا حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن علي بن خلف ، حدثنا محمد بن أحمد [ 225 ] ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبيد بن إسماعيل ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هاشم بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء و ما فعله .
و في رواية أخرى : حتى كان يخيل إليه أنه كان يأتي النساء و لا يأتيهن .. الحديث .
و إذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور فكيف حال النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك ؟ و كيف جاز عليه ـ و هو معصوم ؟ .
فاعلم ـ وفقنا الله و إياك ـ أن هذا الحديث صحيح متفق عليه ، و قد طعنت فيه الملحدة ، و تدرعت به لسخف عقولها و تلبيسها على أمثالها إلى التشكيك في الشرع ، و قد نزه الله الشرع و النبي عما يدخل في أمره لبسأً و إنما السحر مرض من الأمراض ، و عارض من العلل ، يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر و لا يقدح في نبوته .
و أما ما و رد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء و لا يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخله في شيء من تبلغيه أو شريعته ، أو يقدح في صدقه ، لقيام الدليل و الإجماع على عصمته من هذا ، و إنما هذا ، فيما يجوز طروءة عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها ، و لا فضل من أجلها ، و هو فيها للأفات كسائر البشر ، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ، ثم ينجلي عنه ، كما كان .
و أيضاً فقد فسر هذا الفصل الحديث الآخر من قوله : حتى يخيل إليه أنه يأتي أهله و لا يأتيهن .
و قد قال سفيان ـ و هذا أشد ما يكون من السحر ، و لم يأت في خبر منها أنه نقل عنه في ذلك قول بخلاف ما كان أخبر أنه فعله و لم يفعله ، و إنما كانت خواطر و تخيلات .
و قد قيل : إن المراد بالحديث أنه : كان يتخيل الشيء أنه فعله ، و ما فعله ، لكنه تخييل لا يعتقد صحته ، فتكون اعتقاداته كلها على السداد ، و أقواله على الصحة .
هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث مع ما أوضحناه من معنى كلامهم ، و زدناه بياناً من تلويحاتهم . و كل وجه منها مقنع ، لكنه قد ظهر لي في الحديث تأويل أجلى و أبعد من مطاعن ذوي الأضاليل يستفاد من نفس الحديث ، و هو أن عبد الرزاق قد روى هذا الحديث عن ابن المسيب ، و عروة بن الزبير ، و قال فيه عنهما : سحر يهود بني زريق رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فجعلوه في بئر حتى كاد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينكر بصره ، ثم دله الله على ما صنعوا فاستخرجه من البئر .
[ و روي نحوه عن ، عن الواقدي ، و عن عبد الرحمن بن كعب ، و عمر بن الحكم ] .
و ذكر عن عطاء الخرساني ، عن يحيى بن يعمر : حبس رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عائشة سنة ، فبينا هو نائم أتاه ملكان ، فقعد أحدهما عند رأسه و الآخر عند رجليه ... الحديث .
قال عبد الرزاق : حبس رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عائشة خاصة سنة حتى أنكر بصره .
[ و روى محمد بن سعد ، عن ابن عباس : مرض رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فحبس عن النساء و الطعام و الشراب ، فهبط عليه ماكان ... و ذكر القصة ] .
فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره و جوارحه [ 226 ] ، لا على قلبه و اعتقاده و عقله ، و أنه إنما أثر في بصره ، و حبسه عن وطء نسائه [ و طعامه ، و أضعف جسمه و أمرضه ] ، و يكون معنى قوله : يخيل إليه أنه يأتي أهله و لا يأتيهن ، أي يظه ر له من نشاطه و متقدم عادته القدرة على النساء ، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر ، فلم يقدر على إتيانهن ، كما يعتري من أخذ و اعترض .
و لعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله : و هذا أشد ما يكون من السحر . و يكون قول عائشة في الرواية الآخرى : إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء و ما فعله ، من باب ما اختل من بصره ، كما ذكر في الحديث ، فيظن أنه رأى شخصاً من بعض أزواجه ، أو شاهد فعلاً من غيره ، و لم يكن على ما يحيل إليه لما أصابه في بصره و ضعف نظره ، لا لشيء طرأ عليه في ميزه .
و إذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابته السحر له و تأثيره فيه ما يدخل لبساً و لا يجد به الملحد المعترض أنساً .


فصل
في أحواله صلى الله عليه و سلم في أمور الدنيا

 

هذه حاله في جسمه ، فأما أحواله في أمور الدنيا فنحن نسبرها على أسلوبنا المتقدم بالعقد و القول و الفعل .
أما العقد منها فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه و يظهر خلافه ، أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع ، كما حدثنا أبو بحر سفيان بن العاصي و غير واحد سماعاً و قراءة ، قالوا : حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر ، ، قال : حدثنا أبو العباس الرازي ، حدثنا أبو أحمد بن عمرويه ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم ، حدثنا عبد الله بن الرومي ، و عباس العنبري ، و أحمد المعقري ، قالوا : حدثنا النضر بن محمد ، قال : حدثني عكرمة ، حدثنا أبو النجاشي ، قال : حدثنا رافع بن خديج ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و هم يأبرون النخل ، فقال : ما تصنعون ؟ قالوا : كنا نصنعه . قال : لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً ، فتركوه ، فنقصت ، فذكروا ذلك له ، فقال : إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، و إذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر .
و في رواية أنس : أنتم أعلم بأمر دنياكم .
و في حديث آخر : إنما ظننت ظناً ، فلا تؤاخذوني بالظن .
و في حديث ابن عباس في قصة الخرص ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق ، و ما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطيء و أصيب .
و هذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا و ظنه من أحوالها ، لا ما قاله من قبل نفسه و اجتهاده في شرع شرعه ، و سنة سنها .
و كما حكى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه و سلم لما نزل بأدنى مياه بدر قال له الحباب بن المنذر : أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، أم هو الرأي و الحرب و المكيدة ؟
قال : [ لا ، بل هو الرأي و الحرب و المكيدة ] . قال : فإنه ليس بمنزل ، انهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ، ثم نعور ما وراءه من القلب ، فنشرب و لا يشربون . فقال : [ أشرت بالرأي ] ، و فعل ما قاله .
و قد قال له الله [ 227 ] تعالى : وشاورهم في الأمر [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 159 ] .
و أراد مصالحة بعض عدوه على ثلث ثمر المدينة ، فاستشار الأنصار . فلما أخبروه برأيهم رجع عنه .
فمثل هذا و أشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة و لا اعتقادها و لا تعليمها ، يجوز عليه في ه ما ذكرناه ، إذ ليس في هذا كله نقيصة و لا محطة ، و إنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها ، و جعلها همة ، و شغل نفسه بها ، و النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ مشحون القلب بمعرفة الربوبية ملآن الجوانح بعلوم الشريعة ، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية و الدنيوية ، و لكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ، و يجوز في النادر فيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا و استثمارها ، لا في الكثير المؤذن بالبله و الغفلة .
و قد تواتر بالنقل عنه صلى الله عليه و سلم من المعرفة بأمور الدنيا و دقائق مصالحها ، و سياسة فرق أهلها ما هو معجز في البشر مما قد نبهها عليه في باب معجزاته من هذا الكتاب .

 

فصل
 فيما يعتقد من أمور أحكام البشر الجارية على يديه و قضاياهم

 

و أما ما يعتقد في أمور أحكام البشر الجارية على يديه و قضاياهم ، و معرفة المحق من المبطل ، و علم المصلح من المفسد ، فبهذه السبيل ، لقوله صلى الله عليه و سلم : إنما أنا بشر ، و إنكم تختصمون إلي ، و لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئاً ، فإنما أقطع له قطعة من النار .
حدثنا الفقيه أبو الوليد رحمه الله ، حدثنا الحسين بن محمد الحافظ ، حدثنا أبو عمر ، حدثنا أبو محمد ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ... الحديث .
و في رواية الزهري ، عن عروة : فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ، فأحسب أنه صادق فأقضي له .
و تجري أحكامه صلى الله عليه و سلم على الظاهر و موجب غلبات الظن بشهادة الشاهد ، و يمين الحالف ، و مراعاة الأشبه ، و معرفة العفاص و الوكاء ، مع مقتضى حكمه الله في ذلك ، فإنه تعالى لو شاء لأطلعه على سرائر عباده و مخبآت ضمائر أمته ، فتولى الحكم بينهم بمجرد يقينه وعلمه دون حاجة إلى اعتراف أو بينة أو يمين أو شبهة ، و لكن لما أمر الله أمته باتباعه و الإقتداء به في أفعاله و أحواله و قضاياه و سيره ، و كان هذا لو كان مما يختص بعلمه و يؤثره الله به ، لم يكن للأمة سبيل إلى الاقتداء به في شيء من ذلك ، و لا قامت حجة بقضية من قضاياه لأحد في شريعته ، لأنا لا نعلم ما أطلع عليه هو في تلك القضية لحكمه هو إذاً في ذلك بالمكنون من إعلام الله له بما أطلعه عليه من سرائرهم ، و هذا ما لا تعلمه الأمة ، فأجرى الله تعالى أحكامه على ظواهرهم التي يستوي في ذلك هو و غيره من البشر ، ليتم اقتداء أمته به في تعيين قضاياه ، و تنزيل أحكامه ، و يأتون ما أتوا من ذلك [ 228 ] على علم و يقين من سنته ، إذ البيان بالفعل أوقع منه بالقول ، و أدفع لاحتمال اللفظ و تأويل المتأول ، و كان حكمه على الظاهر أجلى في البيان ، و أوضح في وجوه الأحكام ، و أكثر فائدة لموجبات التشاجر و الخصام ، و ليقتدي بذلك كله حكام أمته ، و يستوثق بما يؤثر عنه ، و ينضبط قانون شريعته ، و طي ذلك عنه من علم الغيب الذي استأثر به عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى م ن رسول ، فيعلمه منه بما شاء ، و يستأثر بما شاء ، و لا يقدح هذا في نبوته ، و لا يفصم عروة عن عصمته .

 

فصل
و أما أقواله الدنيوية

 

و أما أقواله الدنيوية من أخباره عن أحواله و أحوال غيره و ما يفعله أو فعله ـ فقد قدمنا أن الخلف فيها ممتنع عليه في كل حال ، و على أي وجه ، من عمد أو سهو ، أو صحة أو مرض ، أو رضا أو غضب ، و أنه معصوم منه صلى الله عليه و سلم .
هذا فيما طريقه الخبر المحض مما يدخله الصدق و الكذب ، فأما المعاريض الموهم ظاهرها خلاف باطنها فجائز ورودها منه في الأمور الدنيوية لا سيما لقصد المصلحة ، كتوريته عن وجه مغازيه لئلا يأخذ العدو جذره .
و كما روي من ممازحته و دعابته لبسط أمته و تطييب قلوب المؤمنين من صحابته ، و تأكيداً في تحببهم و مسرة نفوسهم ، كقوله : لأحملنك على ابن الناقة . و قوله للمرأة التي سألته عن زوجها : أهو الذي بعينه بياض .
و هذا كله صدق ، لأن كل جمل ابن ناقة ، و كل إنسان بعينه بياض و قد قال صلى الله عليه و سلم : إني لأمزح و لا أقول إلا حقاً .
هذا كله فيما بابه الخبر ، فأما ما بابه غير الخبر مما صورته صورة الأمر و النهي في الأمور الدنيوية فلا يصح منه أيضاً ، ولا يجوز عليه أن يأمر أحداً بشيء أو ينهي أحداً عن شيء وهو يبطن خلافه .
وقد قال صلى الله عليه و سلم : ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ، فكيف أن تكون له خيانة قلب .
فإن قلت : فما معنى إذاً قوله تعالى في قصة زيد : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 37 ] .
فاعلم ـ أكرمك الله ، و لا تسترب في تنزيه النبي صلى الله عليه و سلم عن هذا الظاهر
و أن يأمر زيداً بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها ، كما ذكر عن جماعة من المفسرين .
و أصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن علي بن حسين ـ أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه ، فلما شكاها إليه زيد قال له : أمسك عليك زوجك واتق الله . و أخفى في نفسه ما أعلمه الله به من أنه سيتزوجها مما الله مبديه و مظهره بتمام التزويج وتطليق زيد لها .
وروى نحوه عمرو بن فائد ، عن الزهري ، قال : نزل جبريل على النبي يعلمه أن الله يزوجه زينب بنت جحش ، فذلك الذي أخفى في نفسه ويصحح هذا قول المفسرين في قوله تعالى بعد هذا : وكان أمر الله مفعولا ، أي لا بد لك [ 229 ] أن تتزوجها .
ويوضح هذا أن الله لم يبد من أمره معها غير زواجه لها ، فدل أنه الذي أخفاه صلى الله عليه و سلم مما كان أعلمه به تعالى .
و قوله تعالى في القصة : ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 37 ] .
فدل أنه لم يكن عليه حرج في الأمر .
قال الطبري : ما كان الله ليؤثم نبيه فيما أحل مثال فعله لمن قبله من الرسل ، قال الله تعالى : سنة الله في الذين خلوا من قبل ، أي من النبيين فيما أحل لهم ، ولو كان على ما روي في حديث قتادة من وقوعها من قلب النبي صلى الله عليه و سلم عندما أعجبته ، ومحبته طلاق زيد لها لكان فيه أعظم الحرج ، وما لا يليق به من مد عينيه لما نهي عنه من زهرة الحياة الدنيا ، و لكان هذا نفس الحسر المذموم الذي لا يرضاه ولا يتسم به الأتقياء ، فكيف سيد الأنبياء ؟ .
قال القشيري : و هذا إقدام عظيم من قائله ، و قلة معرفة بحق النبي صلى الله عليه و سلم و بفضله .
و كيف يقال : رآها فأعجبته وهي بنت عمه ، و لم يزل يراها منذ ولدت ، و لا كان النساء      
يحتجبن منه صلى الله عليه و سلم ، و هو زوجها لزيد ، و إنما جعل الله طلاق زيد لها ، و تزويج النبي صلى الله عليه و سلم إياها ، لإزالة حرمة التبني و إبطال سنته ، كما قال : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم . و قال : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 40 ] .
و نحوه لابن فورك .
و قال أبو الليث السمرقندي : فإن قيل : فما الفائدة في أمر النبي صلى الله عليه و سلم لزيد بإمساكها ؟ فهو أن الله أعلم نبيه أنها زوجته ، فنهاه النبي صلى الله عليه و سلم عن طلاقها ، إذ لم تكن بينهما ألفة ، و أخفى في نفسه ما أعلمه الله به فلما طلقها زيد خشي قول الناس : يتزوج إمرأة ابنه ، فأمره الله بزواجها ليباح مثل ذلك لأمته ، كما قال تعالى : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 37 ] .
و قد قيل : كان أمره لزيد بإمساكها قمعاً للشهوة ، و رداً للنفس عن هواها . و هذا إذا جوزنا عليه أنه رآها فجأة و استحسنها . و مثل هذا لا نكرة فيه ، لما طبع عليه ابن آدم من استحسانه للحسن ، و نظرة الفجاءة معفو عنها ، ثم قمع نفسه عنها ، و أمر زيداً بإمساكها ، و إنما تنكر تلك الزيادات في القصة . و التعوي ل و الأولى ما ذكرناه عن علي بن حسين ، و حكاه السمرقندي ، و هو قول ابن عطاء ، و صححه و استحسنه القاضي القشيري ، [ و عليه عول أبو بكر بن فورك ، و قال : إنه معنى ذلك عند المحققين من أهل التفسير ، قال : و النبي صلى الله عليه و سلم منزه عن استعمال النفاق في ذلك ، و إظهار خلاف ما في نفسه ، و قد نزهه الله عن ذلك بقوله تعالى : ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ، و من ذلك بالنبي صلى الله عليه و سلم فقد أخطأ .
قال : و ليس معنى الخشية هنا الخوف ، و إنما معناه الاستحياء ، أي يستحي منهم أن يقولوا : تزوج زوجة ابنة ] .
و أن خشيته صلى الله عليه و سلم من الناس كانت من إرجاف المنافقين و اليهود و تشغيبهم على المسلمين بقولهم : تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء ، كما كان ، فعتبة الله على هذا ، و نزهه عن الالتفاف إليهم فيما أحله له ، كما عتبه على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله : لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم . و كذلك قوله له ها هنا : وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 37 ] .
و قد روي عن الحسن و عائشة : لو كتم رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ شيئاً كتم هذه الآية لما في من عتبه [ 230 ] و إبداء ما أخفاه .


فصل
في معنى الحديث في وصيته صلى الله عليه و سلم

 

فإن قلت : قد قررت عصمته صلى الله عليه و سلم في أقواله في جميع أحواله ، و أنه لا يصح منه فيها خلف و لا اضطراب في عمد و لا سهو ، و لا صحة و لا مرض ، و لا جد و لا هزل ، و لا رضا و لا غضب . و لكن ما معنى الحديث في وصيته صلى الله عليه و سلم الذي حدثنا به القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله ، قال : حدثنا القاضي أبو الوليد ، حدثنا أبو ذر ، حدثنا أبو محمد ، و أبو الهيثم ، و أبو إسحاق ، قالوا : حدثنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا عبد الرزاق ابن همام ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : لما حضر رسول الله صلى الله عليه و سلم و في البيت رجال فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هلموا أكتب كتاباً لن تضلوا بعده .
فقال بعضهم : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد غلبه الوجع ... الحديث .
و في رواية : ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً ، فتنازعوا فقالوا : ماله أهجر ! استفهموه ، فقال دعوني ، فإن الذي أنا فيه خير .
و في بعض طرقه : أن النبي صلى الله عليه و سلم يهجر .
و في رواية : هجر . و يروى : أهجر . و يروى : أهجراً .
و فيه فقال عمر : إن النبي صلى الله عليه و سلم قد اشتد به الوجع ، و عندنا كتاب الله حسبنا .
و كثر اللغط ، فقال : قوموا عني .
و في رواية : و اختلف أهل البيت و اختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاباً .
و منهم من يقول ما قال عمر .
قال أئمتنا في هذا الحديث : النبي صلى الله عليه و سلم غير معصوم من الأمراض ، و ما يكون من عوارضها من شدة وجع و غشي و نحوه مما يطرأ على جسمه ، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته ، و يؤدي إلى فساد في شريعته من هذيان و اختلال كلام .
و على هذا لا يصح ظاهر رواية من روى في الحديث : هجر إذ معناه هذى يقال : هجر هجراً ، إذا هذى . و أهجر هجراً ، إذا أفحش ، و أهجر تعديه هجر ، و إنما الأصح و الأولى أهجر ، على طريق الإنكار على من قال : لا نكتب .
و هكذا روايتنا فيه في صحيح البخاري من رواية جميع الرواة في حديث الزهري المتقدم ، و في حديث محمد بن سلام ، عن عيينة ، و كذا ضبطه الأصيلي بخطه في كتابه ، و غيره من هذه الطرق ، و كذا رويناه عن مسلم في حديث سفيان ، و عن غيره .
و قد تحمل عليه رواية من رواه هجر على حذف ألف الاستفهام ، و التقدير :
أهجر ، أو أن يحمل قول القائل هجر أو أهجر دهشة من قائل ذلك و حيرة لعظيم ما شاهد من حال الرسول صلى الله عليه و سلم ، و شدة وجعه ، و هو المقام الذي اختلف فيه عليه ، و الأمر الذي هم بالكتاب فيه ، حتى لم يضبط هذا القائل لفظه ، و أجرى الهجر مجرى شدة الوجع ، لا أنه اعتقد أنه يجوز عليه الهجر ، كما حملهم الإشفاق على حراسته ، و الله تعالى يقول : والله يعصمك من الناس ، و نحو هذا .
و أما على [ 261 ] رواية : أهجراً ـ و هي رواية أبي إسحاق المستملي في الصحيح في حديث ابن جبير ، عن ابن عباس ، من رواية قتيبة ـ فقد يكون هذا راجعاً إلى المختلفين عنده صلى الله عليه و سلم ، و مخاطبة لهم من بعضهم ، أي جئتم باختلافكم على رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين يديه ـ هجراً و منكراً من القول .
و الهجر ـ بضم الهاء : الفحش في المنطق .
و قد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث ، و كيف اختلفوا بعد أمره لهم ـ عليه السلام ـ أن يأتوه بالكتاب ، فقال بعضهم ، أوامر النبي صلى الله علي ه و سلم يفهم إجابها من ندبها من إباحتها بقرائن ، فلعله قد ظهر من قرائن قوله صلى الله عليه و سلم لبعضهم ما فهموا أنه لم تكن منه عزمة ، بل أمر رده إلى اختيارهم ، و بعضهم لم يفهم ذلك ، فقال : استفهموه ، فلما اختلفوا كف عنه ، إذا لم يكن عزمة ، و لما رأوه من صواب رأي عمر ، ثم هؤلاء قالوا و يكون امتناع عمر إما إشفاقاً على النبي صلى الله عليه و سلم من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب ، أو تدخل عليه مشقة من ذلك ، كما قال : أن النبي صلى الله عليه و سلم اشتد به الوجع .
و قيل : خشي عمر أن يكتب أموراً يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة ، و رأى أن الأفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد ، و حكم النظر ، و طلب الصواب ، فيكون المصيب و المخطيء مأجوراً .
و قد علم عمر تقرر الشرع ، و تأسيس الملة ، و أن الله تعالى قال : اليوم أكملت لكم دينكم . و قوله صلى الله عليه و سلم أوصيكم بكتاب الله و عترتي .
و قول عمر : حسبنا كتاب الله ـ رد على من نازعه ، لا على أمر النبي صلى الله عليه و سلم .
و قد قيل : إن عمر تطرق المنافقين و من في قلبه مرض لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة ، و أن يتقولوا في ذل ك الأقاويل ، كادعاء الرافضة الوصية و غير ذلك .
[ و قيل : إنه كان من النبي صلى الله عليه و سلم لهم على طريق المشورة و الاختيار . هل يتفقون على ذلك أم يختلفون ؟ فلما اختلفوا تركه ] .
و قالت طائفة أخرى : إن معنى الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان مجيباً في هذا الكتاب لما طلب منه ، لا أنه ابتدأ بالأمر به ، بل اقتضاه منه بعض أصحابه ، فأجاب رغبتهم ، و كره ذلك غيرهم للعلل التي ذكرناها .
و استدل في مثل هذه القصة بقول العباس لعلي : انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فإن كان الأمر فينا علمناه ، و كراهة علي هذا ، و قوله : و الله لا أفعل ... الحديث .
و استدل بقوله : دعوني ، فإن الذي أنا فيه خير ، أي الذي أنا فيه خير من إرسال الأمر و ترككم و كتاب الله . و أن تدعوني مما طلبتم .
و ذكر أن الذي طلب كتابه أمر الخلافة بعده ، و تعيين ذلك .

 

فصل
في وجه حديث .... إنما محمد بشر ...

 

فإن قيل : فما وجه حديثه أيضاً الذي حدثناه الفقيه أبو محمد الخشني بقراءتي عليه ، حدثنا أبو علي الطبري ، حدثنا عبد الغافر الفارسي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، قال : حدثنا إبراهيم بن سفيان ، حدثنا مسلم بن حجاج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا ليت ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن سالم مولى النصريين ، قال :سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول اللهم إنما محمد بشر [ 232 ] ، يغضب كما يغضب البشر ، و إني قداتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه ، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها كفارة له ، و قربه تقربه بها إليك يوم القيامة .
و في رواية : فأيم أحد دعوت عليه دعوة .
و في رواية : ليس لها بأهل . و في رواية : فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة و صلاة و رحمة .
و كيف يصح أن يلعن النبي صلى الله عليه و سلم من لا يستحق اللعن ، و يسب من لا يستحق السب ، و يجلد من لا يستحق الجلد ، أو يفعل مثل ذلك عند الغضب ، و هو معصوم عن هذا كله ؟ .
فاعلم ـ شرح الله صدرك ـ أن قوله صلى الله عليه و سلم أولاً : ليس لها بأهل ، أي عندك يا ر ب ، في باطن أمره ، فإن حكمه صلى الله عليه و سلم على الظاهر ، كما قال : و للحكمة التي ذكرناها ، فحكم صلى الله عليه و سلم بجلده ، أو أدبه بسبه أو لعنه بما افتضاه عنده حال ظاهره ، ثم دعا صلى الله عليه و سلم لشفقته على أمته ، و رأفته و رحمته له مؤمنين ، التي و صفه الله بها ، و حذره أن يتقبل الله فيمن دعا عليه دعوة ـ أن يجعل دعاءه و لعنه له رحمة ، فهو معنى قوله : ليس لها بأهل ، لا أنه صلى الله عليه و سلم يحمله الغضب و يستفزه الضجر لأن يفعل مثل هذا بمن لا يستحقه من مسلم .
و هذا معنى صحيح ، و لا يفهم من قوله : أغضب كما يغضب البشر ـ أن الغضب حمله على ما لا يجب فعله ، بل يجوز أن يكون المراد بهذا أن الغضب لله حمله على معاقبته بلعنه أو سبه ، و أنه مما كان يحتمل و يجوز عفوه عنه ، أو كان مما خير بين المعاقبة فيه و العفو عنه .
و قد يحمل على أنه خرج مخرج الإشفاق و تعليم أمته الخوف و الحذر من تعدي حدود الله تعالى .
و قد يحمل ما ورد من دعائه هنا ، و من دعواته على غير واحد في غير موطن ، على غير العقد و القصد ، بل بما جرت به عادة العرب ، و ليس المراد بها الإجابة ، كقوله : تربت يمينك .
و لا أشبع ا لله بطنك . و وعقري حلقي . و غيها من دعواته .
و قد ورد في صفته في غير حديث ـ أنه صلى الله عليه و سلم لم يكن فحاشاً و قال أنس لم يكن سباباً ، و لا فاحشاً ، و لا لعاناً ، و كان يقول لأحدنا عند المعتبة ، ماله ! ترب جبينه ! .
فيكون حمل الحديث على هذا المعنى ، ثم أشفق صلى الله عليه و سلم من موافقة أمثالها إجابة ، فعاهد ربه ، كما قال في الحديث ، أن يجعل ذلك للمقول زكاة و رحمة و قربة .
و قد يكون ذلك إشفاقاً على المدعو عليه ، و تأنيساً له ، لئلا يلحقه من استشعار الخوف و الحذر من لعن النبي صلى الله عليه و سلم ، و تقبل دعائه ، ما يحمله على اليأس و القنوط .
و قد يكون ذلك سؤالاً منه لربه لمن جلده ، أو سبه على حق و بوجه صحيح أن يجعل ذلك له كفارة لما أصابه ، و تمحيه لما اجترم ، و أن تكون عقوبته له في الدنيا سبب العفو و الغفران ، كما جاء في الحديث الآخر : و من أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة .
فإن قلت : فما معنى حديث الزبير و قول النبي صلى الله عليه و سلم [ 233 ] حين تخاصمه مع الأنصاري في شراج الحرة : اسق يا زبير حتى يبلغ الكعبين . فقال له الأنصاري : إن كان ابن عمتك يا رسول الله ! فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ثم قال : اسق يازبير ثم احبس حتى يبلغ الجدر . . الحديث .
فالجواب أن النبي صلى الله عليه و سلم منزه أن يقع بنفس مسلم منه في هذه القصة أمر يريب ، و لكنه صلى الله عليه و سلم ندب الزبير أولاً إلى الاقتصار على بعض حقه على طريق التوسط و الصلح ، فلما لم يرض بذلك الآخر ، ولج و قال ما لا يجب استوفى النبي صلى الله عليه و سلم للزبير حقه .
و لهذا ترجم البخاري على هذا الحديث : باب . إذا أشار الإمام بالصلح فأبى حكم عليه بالحكم .
و ذكر في آخر الحديث : فاستوعى رسول الله حينئذ للزبير حقه .
و قدجعل المسلمون هذا الحديث أصلاً في قضيته .
و فيه الاقتداء به صلى الله عليه و سلم في كل ما فعله في حال غضبه و رضاه ، و أنه ـ و إن نهى أن يقضي القاضي و هو غضبان ، فإنه في حكمه في حال الغضب و الرضا سواء لكونه فيهما معصوماً . و غضب النبي صلى الله عليه و سلم في هذا إنما كان الله تعالى لا لنفسه، كما جاء في الحديث .
و كذلك الحديث في إقادته عكاشة من نفسه لم يكن لتعد حمله الغضب عليه ، بل و قع في الحديث نفسه أن عكاشة قال له : و ضربتني بالقضيب ، فلا أدري أعمد اً ، أم أردت ضرب الناقة ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أعيذك با الله يا عكاشة أن يتعمدك رسول الله .
و كذلك في حديثه الآخر مع الأعرابي حين طلب عليه السلام الاقتصاص منه ، فقال الأعرابي قد عفوت عنك . و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد ضربه بالسوط لتعلقه بزمام ناقته مرة بعد أخرى ، و النبي صلى الله عليه و سلم ينهاه و يقول له : تدرك حاجتك ، و هو يأبى ، فضربه بعد ثلاث مرات .
و هذا منه ـ صلى الله عليه و سلم ـ لمن لم يقف عند نهيه صواب و موضع أدب ، لكنه عليه الصلاة السلام :أشفق إذ كان حق نفسه من الأمر حتى عفا عنه .
و أما حديث سواد بن عمرو : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم و أنا متخلق ، فقال عليه الصلاة السلام : و رس ! و رس ! حط ، حط ! و غشيني بقضيب في يده في بطني فاوجعني .
قلت : القصاص يا رسول الله . فكشف لي عن بطنه.
و إنما ضربه صلى الله عليه و سلم لمنكر رآه به ، و لعله لم يرد بضربه بالقضيب إلا تنبيهه ، فلما كان منه إيجاع لم يقصده طلب التحلل منه على ما قدمنا .


فصل
 في أفعاله . صلى الله عليه و سلم الدنيوية

 

و أما أفعاله صلى الله عليه و سلم الدنيوية فحكمه فيها من توفى المعاصي و المكروهات ما قد قدمناه ، و من جواز السهو الغلط في بعضها ما ذكرناه .
و كله غير قادح في النبوة ، بلى ، إن هذا فيها على الندور ، إذ عامة أفعاله على السداد و الصواب ، بل أكثرها أو كلها جارية مجرى العبادات و القرب على ما بينا إذ كان صلى الله عليه و سلم لا يأخذ منها لنفسه إلا ضرورتة ، و ما يقيم رمق جسمه ، و فيه مصلحة ذاته التي بها يعبد ربه ، و يقيم شريعته ، و يسوس أمته ، و ما كان فيما بينه و بين الناس من ذلك فبين معروف يصنعه ، أو بر [ 234 ] يوسعه ، أو كلام حسن يقوله أو يسمعه ، أو تألف شارد ،أو قهر معاند ، أو مداراة حاسد ، و كل هذا لاحق بصالح أعماله ، متتظم في زاكي وظائف عباداته ، و قدكان يخالف في أفعاله الدنيوية بحسب اختلاف الحوال ، و يعد للأمور أشباهها ، فيركب ـ في تصرفه لما قرب ـ الحمار ، و في أسفاره الراحلة ، و يركب البغلة في معارك الحرب دليلاً على الثبات ، و يركب الخيل و يعدها ليوم الفزع و إجابه الصارخ .
و كذلك في لباسه و سائر أحواله بحسب اعتبار مصالحه و مصالح أمته .
و كذلك يفعل الفعل في أمور الدنيا مساعدة لأمته و سياسة و كراهية لخلافها و إن كان قد يرى غيره خيراً منه ، كما يترك الفعل لهذا ، و قد يرى فعله خيراً منه و قديفعل هذا في الأمور الدينية مما له الخيرة في أحد و جهيه ، كخروجه من المدينة لاحد ، و كان مذهبه التحصن بها ، و تركه قتل المنافقين ، و هو على يقين من أمرهم مؤالفة لغيرهم ، و رعاية للمؤمنين من قرابتهم ، و كراهة لأن يقول الناس : إن محمداً يقتل أصحابه ، كما جاء في الحديث ، و تركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لقلوب قريش و تعظيمهم لتغييرها ، و حذراً من نفار قلوبهم لذلك ، و تحريك متقدم عداوتهم للدين و أهله ، فقال لعائشة في الحديث الصحيح : لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم .
و يفعل الفعل ثم يتركه ، لكون غيره خيراً منه ، كانتقاله من أدنى مياه بدر إلى أقربها للعدو من قريش ، و قوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي .
و بسط وجهه للكافر و العدو رجاء استئلافه .
و يصبر للجاهل ، رواية يقول كان إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره . و يبذل له الرغائب ليحبب إليه شريعته و دين ربه . و يتولى في منزله ما يتولى الخادم من مهنته ، و يتسمت في ملئه ، حتى لا يبدو شيء من أطرافه ، و حتى كأن على رؤوس جلسائه الطير ، و يتحدث مع جلسائه بحديث أولهم ، و يتعجب مما يتعجبون منه ، و يضحك مما يضحكون منه ، قد وسع الناس بشره و عدله ، لا يستفزه الغضب ، و لا يقصر عن الحق و لا يبطن على جلسائه ، يقول ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين .
فإن قلت : فما معنى قوله لعائشة رضي الله عنها في داخل عليه : بئس ابن العشيرة . فلما دخل ألان له القول و ضحك معه ، فلما سأله عن ذلك قال كان إن من شرالناس من اتقاه الناس لشره .
و كيف جاز أن يظهر لهما خلاف ما يبطن ، و يقول في ظهره ما قال ؟
فالجواب أن فعله صلى الله عليه و سلم كان استئلافاً لمثله ، و تطييباً لنفسه ، ليتمكن إيمانه ، و يدخل في الإسلام بسبب أتباعه ، و يراه مثله فينجذب بذلك إلى الإسلام . و مثل هذا على هذا الوجه قد خرج من حد مداراة الدنيا إلى السياسة الدينية . و قد كان النبي يستألفهم بأموال الله العريضة فكيف بالكلمة اللينة ؟ .
قال صفوان : لقد أعطاني [ 235 ] و هو أبغض الخلق إيلي ، فما زال يعطيني حتى صار أحب الخلق إلي .
و قوله فيه : بئس ابن العشيرة ـ هو غير غيبة ، بل هو تعريف ما علمه منه لمن لم يعلم ليحذر حاله ، و يحترز منه ، و لا يوثق بجانبه كل الثقة و لا سيما و كان مطاعاً متبوعاً .
و مثل هذا إذا كان لضرورة و دفع مضرة لم يكن بغيبة ، بل كان جائزاً ، بل واجباً في بعض الأحيان كعادة المحدثين في تجريح الرواة و المزكين في الشهود .
فإن قيل : فما معنى المفضل الوارد في حديث بريرة من قوله صلى الله عليه و سلم لعائشة ، و قد أخبرته أن موالي بريرة أبو بيعها إلا أن يكون لهم الولاء ، فقال صلى الله عليه و سلم : اشتريها و اشترطي لهم الولاء .
ففعلت ، ثم قام خطيباً ،فقال : ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل و النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ قد أمرها بالشرط لهم ، و عليه باعوها ، و لولاه ـ و الله أعلم ـ لما باعوها من عائشة ، كما لم يبيعوها قبل حتى شرطوا ذلك عليها ، ثم أبطله صلى الله عليه و سلم ، و هو قد حرم الغش و الخديعة .
فاعلم ـ أكرمك الله ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم منزه عما يقع في بال الجاهل من هذا ، و لتنزيه النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك ما قد أنكر قوم هذه الزيادة : قوله : اشتر لهم الولاء ، إذ ليست في أكثر طرق ا لحديث ، و مع ثباتها فلا اعتراض بها ، إذ يقع لهم بمعنى عليهم ، قال الله تعالى : أولئك لهم اللعنة . و قال : وإن أسأتم فلها [ سورة الإسراء /17، الآية : 7 ] .
فعلى هذا اشترطي عليهم الولاء لك ، و يكون قيام النبي صلى الله عليه و سلم و وعظه لما سلف من شرط الولاء لأنفسهم قبل ذلك .
و وجه ثاني : أن قوله صلى الله عليه و سلم : اشترطي لهم الولاء ،ليس على معنى الأمر ، لكن على معنى التسوية و الإعلام بأن شرطه لهم لا ينفعم بعد بيان النبي صلى الله عليه و سلم لهم قبل أن الولاء لمن أعتق ، فكأنه قال : اشترطي أو لا تشترطي ، فإنه شرط غير نافع .
و إلى هذا ذهب الداودي و غيره ، و توبيخ النبي صلى الله عليه و سلم لهم ، و تقريعهم على ذلك يدل على علمهم به قبل هذا .
الوجه الثالث : أن معنى قوله : اشترطي لهم الولاء ، أي أظهري لهم حكمه ، و بيني سنتة بأن الولاء إنما هو لمن أعتق . ثم بعد هذا قام هو صلى الله عليه و سلم مبيناً ذلك و موبخاً على مخالفة ما تقدم منه فيه .
فإن قيل : فما معنى فعل يوسف عليه السلام بأخيه ، إذ جعل السقاية في رحله و أخذه باسم سرقتها ، و ما جرى علىإخوته في ذلك و قوله تعالى : إنكم لسارقون ، و لم يسرقوا .
فاعلم ـ أكرمك الله ـ أن الآية تدل على أن فعل يوسف كان عن أمر الله ، لقوله تعالى : كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم [ سورة يوسف /12، الآية : 76 ] .
فإذا كان كذلك فلا اعتراض به ، كان فيه ما فيه .
و أيضاً فإن يوسف كان أعلم أخاه بأني أنا أخوك فلا تبتئس ، فكان ما جرى عليه بعد هذا من و فقه و رغبته ، و على يقين من عقبى الخير له به ، و إزاحة السوء و المضرة [ 236] عنه بذلك .و أما قوله : أيتها العير إنكم لسارقون ، فليس من قول يوسف . فيلزم عليه جواب لحل شبهه . و لعل قائله إن حسن له التأويل كائناً من كان ظن على صورة الحال ذلك و قد قيل قال ذلك لفعلهم قبل بيوسف و بيعهم له و قيل غير هذا : و لا يلزم أن نقول الأنبياء ما لم تأت انهم قالوه ، حتى يطلب الخلاص منه ، و لا يلزم الا عتزار عن زلات غيرهم .

 

فصل
بيان الحكمة في إجراء الأمراض و شدتها عليه و على غيره من الأنبياء

 

فإن قيل : فما الحكمة في إجراء الأمراض و شدتها عليه و على غيره من الأنبياء على
جميعهم السلام ؟ و ما الوجه فيما ابتلاهم الله به من البلاء ، وامتحانهم بما امتحنوا به كأيوب ، و يعقوب و دانيال ، و يحيى ، و زكريا ، و عيسى ، و إبراهيم ، و يوسف ، و غيرهم ، صلوات الله عليهم ، و هم خيرته من خلقه و احباؤه و أصفياؤه .
فاعلم ـ وفقنا الله و إياك ـ أن أفعال الله تعالى كلها عدل ، و كلماته جميعها صدق لا مبدل لكلماته ، يبتلي عباده كما قال تعالى لهم : لننظر كيف تعملون [ سورة يونس /10 ، الآية : 14] .
و ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ سورة هود / 49 ، الآية : 7 ] .
وليعلم الله الذين آمنوا [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 140] .
ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [ سورة آل عمران /3، الآية : 142 ] .
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ سورة محمد /47، الآية : 31 ] .
فامتحانه إياهم بضروب المحن زيادة في مكانتهم ، و رفعه في درجاتهم ، و أسباب لاستخراج حالات الصبر و الرضا ، و الشكر و التسليم ، و التوكل ، و التفويض ، و الدعاء ، و التضرع منهم ، و تأكيد لبصائرهم في رحمة الممتحنين ، و الشفقة على المبتلين ، و تذكرة لغيرهم ، و موعظة لسواهم ليتأسوا في البلاء بهم ، فيتسلوا في المحن بما جرى عليهم ، و يقتدوا بهم في الصبر ، و محو لهنات فرطت منهم ، أو غفلات سلفت لهم ، ليلقوا الله طيبين مهذبين ، و ليكون أجرهم أكمل ، و ثوابهم أوفر و أجزل .
حدثنا القاضي أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو الحسين الصيرفي و أبو الفضل ابن خيرون ، قالا : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا محمد ابن محبوب ، حدثنا أبو عيسى الترمزي ، حدثنا قتيبة ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه حدثنا قال : قلت يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاء ؟ قال الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة .
و كما قال تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين [ سورة آل عمران /3، الآيات : 146 ، 148] .
و عن أبي هريرة : ما يزال البلاء بالمؤمن و المؤمنة في نفسه و ولده و ماله حتى يلقى الله و ما عليه خطيئة .
و عن أنس ، عنه صلى الله عليه و سلم : إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، و إذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة .
و في حديث آخر إذا أحب الله عبداً ابتلاه ليسمع تضرعه .
و حكى السمرقندي أن كل من كان أكرم على الله تعالى كان بلاؤه أشد كي يتبين فضله ، و يتسوجب الثواب ، كما روي عن لقمان أنه قال : يابني ، الذهب و الفضة يختبران بالنار ، و المؤمن يختبر بالبلاء .
و قد حكي أن ابتلاء يعقوب بيوسف كان سببه التفاته في صلواته إليه ، و يوسف نائم محبة [ 237 ] له .
و قيل : بل اجتمع يوماً هو و ابنه يوسف على أكل حمل مشوي ، و هما يضحكان ، وكان لهم جار يتيم ، فشم ريحه و اشتهاه و بكى ، و بكت له جدة له عجوز لبكائه ، و بينهما جدار ، و لا علم عند يعقوب و ابنه ، فعوقب يعقوب بالبكاء أسفاً على يوسف إلى أن سالت حدقتاه ، و ابيضت عيناه من الحزن . فلما علم بذلك كان بقية حياته يأمر منادياً ينادي على سطحه : ألا من كان مفطراً فليتغذ عن آل يعقوب . و عوقب يوسف بالمحنة التي نص الله عليها .
و روى عن الليث أن سبب بلاء أيوب أنه دخل مع أهل قريته على ملكهم فكلموه في ظلمه ، و أغلظوا له إلا أيوب ، فإنه رفق به مخافة على زرعه ، فعاقبه الله ببلائه .
و منحه سليمان لما ذكرناه من نيته في كون الحق في جنبه أصهاره ، أو للعمل بالمعصية في داره ، و لا علم عنده .
و هذه فائدة شدة المرض و الوجع بالنبي صلى الله عليه و سلم ، قالت عائشة : ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و عن عبد الله : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في مرضه ، يوعك و عكاً شديداً ،‍ قال : أجل ، إن أوعك كما يوعك رجلان منكم . قلت : ذلك أن الأجر مرتين ، قال : أجل ، ذلك كذلك .
و ف ي حديث أبي سعيد أن رجلاً وضع يده على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : و الله ما أطيق أضع يدي عليك من شدة حماك . فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء ، إن كان النبي ليبتلى بالقمل حتى يقتله ، و إن كان النبي ليبتل ى بالفقر ، و إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء .
و عن أنس ، عنه صلى الله عليه و سلم أن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، و إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، و من سخط فله السخط .
و قد قال المفسرون في قوله تعالى : من يعمل سوءا يجز به ، إن المسلم يجزى بمصائب الدنيا فتكون له كفارة . و روى هذا عن عائشة و أبي ، و مجاهد .
و قال أبو هريرة ، عنه صلى الله عليه و سلم : من يرد الله به خيراً يصب منه .
و قال في رواية عائشة :ما من مصيبة تصيب المسلم إلا يكفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاركها .
و قال في رواية أبي سعيد : ما يصيب المؤمن من نصب و لا وصب ، و قيل و لا هم و لا حزن ، و لا أذى و لا غم ، حتى الشوكة يشاكلها إلا كفر الله بها من خطاياه .
و في حديث ابن مسعود : ما من مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه كما تحات ورق الشجر .
و حكمة أخرى أودعها الله في الأمراض لأجسامهم ، و تعاقب الأوجاع عليها و شدتها عند مماتهم ، لتضعف قوى نفوسهم ، فيسهل خروجها عند قبضهم ، و تخف عليهم مؤنة النزع ، و شدة السكرات بتقدم المرض ، و ضعف الجسم و النفس لذلك .
و هذا خلاف موت الفجاء ة و أخذه ، كما يشاهد من اختلاف أحوال الموتى في الشدة و اللين ، و الصعوبة و السهولة . و قد قال صلى الله عليه و سلم : مثل المؤمن مثل خامة [ 238 ] الزرع تفيئها الريح هكذا و هكذا .
و في رواية أبي هريرة عنه : من حيث أتتها الريح تكفؤها ، فإذا سكنت اعتدلت ، و كذلك المؤمن يكفأ بالبلاء . و مثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمه الله .
معناه أن المؤمن مرزاً ، مصاب بالبلاء و الأمراض ، راض بتصريفه بين أقدار الله تعالى ، منطاع لذلك ، لين الجانب برضاه و قلة سخطه ، كطاعة خامة الزرع و انقيادها للرياح ، و تمايلها لهبوبها و ترتحها من حيث ما أتتها ، فإذا أزاح الله عن المؤمن رياح البلايا ، و اعتدل صحيحاً كما اعتدلت خامة الزرع عند سكون رياح الجو رجع إلى شكر ربه معرفة نعمته عليه بلائه ، منتظراً رحمته و ثوابه عليه .
فإذا كان بهذه السبيل لم يصعب عليه مرض الموت ، و لا نزوله ، و لا اشتدت عليه سكراته و نزعه ، لعادته بما تقدم من الآلام و معرفة ما له فيها من الأجر و توطينه نفسه على المصائب و رقتها و ضعفها بتوالي المرض أو شدته ، و الكافر بخلاف هذا ، معافى في غالب حاله ، ممتع بصحة جسمه ، كالأرز ة الصماء ، حتى إذا أراد الله هلاكه قصمه لحينه على غرة ، و أخذه بغتة من غير لطف و لا رفق ، فكان موته أشد عليه حسرة ، و مقاساة نزعه مع قوة نفسه و صحة جسمه أشد ألماً و عذاباً ، و لعذاب الآخرة أشد ، كانجعاف الأرزة . و كما قال تعالى : فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ سورة الأعراف / 7 ، الآية : 95 ] .
و كذلك عادة الله تعالى في أعدائه ، كما قال تعالى : فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا ، ففجأ جميعهم بالموت على حال عتو و غفلة و صبحهم به على غير استعداد بغتة ، و لهذا ما كره السلف موت الفجاءة .
و منه في حديث إبراهيم : كانوا يكرهون أخذة كأخذة الأسف : أي الغضب ، يريد موت الفجاءة . و حكمه ثالثة أن الأمراض نذير الممات ، و بقدر شدة الخوف من نزول الموت ، فيستعد من أصابته ، و علم تعاهدها له ، للقاء ربه ، و يعرض عن دار الدنيا الكثيرة الأنكاد ، و يكون قلبه معلقاً بالمعاد ، فيتنصل من كل ما يخشى تباعته من قبل الله ، و قبل العباد ، و يؤدي الحقوق إلى أهلها ، و ينظر فيما يحتاج إليه من وصية فيمن يخلفه أو أمر يعهده .
و هذا نبين ا صلى الله عليه و سلم المغفور له ما تقدم و ما تأخر ، قد طلب التنصل في مرضه ممن كان له عليه مال أو حق في بدن ، و أقاد من نفسه و ماله ، و أمكن من القصاص منه ، على ما ورد حديث في الفضل ، و حديث الوفاة ، و أوصى بالثقلين بعده : كتاب الله ، و عترته و بالأنصار عيبته ، و دعى إلى كتب كتاب لئلا تضل أمته بعده ، إما في النص على الخلافة ، أو الله أعلم بمراده . ثم رأى الإمساك عنه أفضل و خيراً .
و هكذا سيرة عباد الله المؤمنين و أوليائه المتقين .
و هذا كله يحرمه غالباً الكفار ، لإملاء الله لهم ، ليزدادوا إثماً ، و ليستدرجهم من حيث لا يعلمون ، قال الله تعالى : ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون * فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون [ سورة يس / 36 ، الأيتان : 49 ، 50 ] .
و لذلك قال صلى الله عليه و سلم في رجل مات فجأة : سبحان الله ! كأنه على غضب ، المحروم من حرم وصيته . و قال : موت الفجأة راحة للمؤمن ، و أخذه أسف للكافر و الفاجر ، و ذلك لأن الموت يأتي المؤمن ، و هو غالباً مستعد له منتظر لحلوله ، فهان أمر عليه كيفما جاء ، و أقضى إلى راحته من نصب الدنيا و أذاها ، كما قال صل ى الله عليه و سلم : مستريح و مستراح منه . و تأتي الكافر و الفاجر منيته على غير استعداد و لا أهبة و لا مقدمات منذرة مزعجة ، بل تأتيهم بغتة فتبهتهم ، فلا يستطيعون ردها و لا هم ينظرون ، فكان الموت أشد شيء عليه .
و فراق الدنيا أفظع أمر صدمه ، و أكره شيء له ، و إلى هذا المعنى أشار صلى الله عليه و سلم بقوله : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، و من كره لقاء الله كره الله لقاءه .


القسم الرابع
في تصرف وجوه الأحكام فيمن تنقصه أو سبه صلى الله عليه و سلم

 


قال القاضي أبو الفضل رضي الله عنه : قد تقدم من الكتاب و السنة و إجماع الأمة ما يجب من الحقوق للنبي صلى الله عليه و سلم ، و ما يتعين له من بر و توقير ، و تعظيم و إكرام ، و بحسب هذا حرم الله تعالى أذاه في كتابه ، و أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين و سابه ، قال الله تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 57 ] .
و قال تعالى : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 61 ] .
و قال الله تعالى : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 53 ] .
و قال تعالى : في تحريم التعريض به : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 104 ] .
و ذلك أن اليهود كانوا يقولون : راعنا يا محمد ، أي أرعنا سمعك ، و اسمع منا ، و يعرضون بالكلمة ، يريدون الرعونة ، فنهى الله المؤمنين عن التشبه بهم ، و قطع الذريعة بنهي المؤمنين عنها ، لئلا يتوصل بها الكافر و المنافق إلى سبه و الاستهزاء به .
و قيل : بل لما من مشاركة اللفظ ، لأنها عند اليهود بمعنى اسمع لا سمعت .
و قيل : بل لما فيها من قله الأدب ، و عدم توقير النبي صلى الله عليه و سلم و تعظيمه ، لأنها في لغة الأنصار بمعنى ارعنا نرعك ، فنهوا عن ذلك ، إذ مضمنه أنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم ، و هو ـ صلى الله عليه و سلم ـ واجب الرعاية بكل حال ، و هذا هو صلى الله عليه و سلم قد نهى عن التكني بكنيته ، فقال : تسموا باسمي ، و لا تكنوا بكنيتي ، صيانة لنفسه ، و حماية عن أذاه ، إذ كان صلى الله عليه و سلم استجاب لرجل نادى : يا أبا القاسم ، فقال : لم أعنك ، إنما دعوت هذا ، فنهى حينئذ عن التكني بكنيته لئلا يتأذى بإجابة دعوة غيره لمن لم يدعه ، و يجد بذلك المنافقون و المستهزئون ذريعة إلى أذاه دعوة غيره فينادونه ، فإذا التفت قالوا : إنما أردنا هذا ـ لسواه ـ تعنيتاً له ، و استخفافاً بحقه على عادة المجان و المستهزئين ، فحمى صلى الله عليه و سلم حمى أذاه [ 240 ] بكل وجه ، فحمل محققوا العلماء نهيه عن هذا على مدة حياته ، و أجازوه بعد وفاته لارتفاع العلة .
و للناس في هذا الحديث مذاهب ليس هذا موضعها ، و ما ذكرناه هو مذهب الجمهور ، و الصواب إن شاء الله . و إن ذلك على طريق تعظيمه و توقيره ، و على سبيل الندب و الاستحباب ، لا على التحريم ، و لذلك لم ينه عن اسمه ، لأنه قد كان الله منع من ندائه به بقوله : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ، و إنما كان المسلمون يدعونه برسول الله ، و بنبي الله ، و قد يدعوه ـ بكنيته أبا القاسم ـ بعضهم في بعض الأحوال .
و قد روى أنس رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه و سلم ، ما يدل على كراهة التسمي باسمه ، و تنزيهه عن ذلك ، إذا لم يوقر ، فقال : تسمون أولادكم محمداً ثم تلعنوهم .
و روى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أهل الكوفة : لايسمى أحد باسم النبي صلى الله عليه و سلم ، حكاه أبو جعفر الطبري .
[ و حكى محمد بن سعد أنه نظر إلى رجل اسمه محمد ، و رجل يسبه و يقول له : فعل الله بك يا محمد و صنع . فقال عمر لابن أخيه محمد بن زيد بن الخطاب : لا أرى محمداً صلى الله عليه و سلم يسب بك ، و الله لا تدعى محمداً ما دمت حياً ، و سماه عبد الرحمن ، و أراد أن يمنع أن يسم ى أحد بأسماء الأنبياء إكراماً لهم بذلك ، و غير أسماء جماعة تسموا بأسماء الأنبياء ، ثم أمسك ] .
و الصواب جواز هذا كله بعده صلى الله عليه و سلم ، بدليل إطباق الصحابة على ذلك .
و قد سمى جماعة منهم ابنه محمداً ، و كناه بأبي القاسم .
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن في ذلك لعلي رضي الله عنه .
و قد أخبر صلى الله عليه و سلم أن ذلك اسم الهدي و كنيته .
[ و قد سمي به النبي صلى الله عليه و سلم محمد بن طلحة ، و محمد بن عمرو بن حزم ، و محمد بن ثابت بن قيس ، و غير واحد ، و قال : ما ضر أحدكم أن يكون في بيته محمد و محمدان و ثلاثة ] .
و قد فصلت الكلام في هذا القسم على بابين كما قدمناه :
 الباب الأول : في بيان ما هو ـ في حقه صلى الله عليه و سلم ـ سب أو نقص ، من تعريض أو نص
اعلم ـ وفقنا الله و إياك ـ أن جميع من سب النبي صلى الله عليه و سلم ، أو عابه ، أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه ، أو خصلة من خصاله ، أو عرض به ، أو شبهه بشيء على طريق السب له ، أو الإزراء عليه ، أو التصغير لشأنه ، أو الغض منه ، و العيب له ، فهو ساب له ، و الحكم فيه حكم الساب ، يقتل كما نبينه ، و لا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب على هذا المقصد ، و لا نمتري فيه تصريحاً كان أو تلويحاً . و كذلك من لعنه أو دعا عليه ، أو تمنى مضرة له ، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم ، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام و هجر ، و منكر من القول و زور ، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء و المحنة عليه ، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة و المعهودة لديه .
و هذا كله إجماع من العلماء و أئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جراً .
و قال أبو بكر بن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه و سلم يقتل ، و ممن قال ذلك مالك بن أنس ، و الليث ، و أحمد ، و إسحاق ، و هو م ذهب الشافعي .
قال القاضي أبو الفضل : و هو مقتضى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، و لا تقبل توبته عند هؤلاء المذكورين :
و بمثله قال أبو حنيفة ، و أصحابه ، و الثوري و أهل الكوفة ، و الأوزاعي في المسلم ، لكنهم قالوا : هي ردة .
روى مثله الوليد بن مسلم عن مالك .
و حكى الطبري مثله عن أبي حنيفة و أصحابه فيمن تنقصه صلى الله عليه و سلم ، أو برئ منه أو كذبه .
و قال سحنون فيمن سبه : ذلك ردة كالزندقة .
و على هذا وقع الخلاف في استتابته و تكفيره ، و هل قتله حد أو كفر ، كما سنبينه في الباب الثاني إن شاء الله تعالى ، و لا نعلم خلافاً في استباحة دمه بين علماء الأمصار و سلف الأمة ، و قد ذكر غير واحد الإجماع على قتله و تكفيره ، و أشار بعض الظاهرية ـ و هو أبو محمد علي بن أحمد الفارسي إلى الخلاف في تكفير المستخف به .
و المعروف ما قدمناه ، قال محمد بن سحنون : أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه و سلم المتقص له كافر . و الوعيد جار عليه بعذاب الله ، و حكمه عند الأمة القتل ، و من شك في كفره و عذابه كفر .
و احتج إبراهيم بن حسين بن خالد الفق يه في مثل هذا بقتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة لقوله ـ عن النبي صلى الله عليه و سلم صاحبكم .
و قال أبو سليمان الخطابي : لا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلماً .
و قال ابن القاسم ـ عن مالك في كتاب ابن سحنون ، و المبسوط ، و العتبية ، و حكاه مطرف عن مالك في كتاب ابن حبيب : من سب النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين قتل ، و لم يستتب .
قال ابن القاسم في العتبية : من سبه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل ، و حكمه عند الأمة القتل كالزنديق .
و قد فرض الله تعالى توقيره و بره . و في المبسوط ـ عن عثمان بن كنانة : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين قتل أو صلب حياً و لم يستتب و الإمام مخير في صلبه حياً أو قتله .
و من رواية أبي المصعب ، و ابن أبي أويس : سمعنا مالكاً يقول : من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، أو شتمه ، أو عابة ، أو تنقصه ـ قتل مسلماً كان أو كافراً ، و لا يستتاب .
و في كتاب محمد : أخبرنا أصحاب مالك أنه قال : من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو غيره من النبيين من مسلم أو كافر قتل و لم يستتب .
و قال أصبغ : يقتل على كل حال أسر ذلك أو ظهره ، و لا يستتاب ، لأن توبته لا تعرف .
و قال عبد الله بن الحكم : من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو كافر قتل و لم يستتب .
و حكى الطبري مثله عن أشهب ، عن مالك .
و روى ابن وهب ، عن مالك : من قال : إن رداء النبي صلى الله عليه و سلم ـ و يروى زر النبي صلى الله عليه و سلم ـ وسخ ، أراد عيبه ـ قتل .
قال بعض علمائنا : أجمع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل ، أو بشيء من المكروه ـ أنه يقتل بلا استتابة .
و أفتى أبو الحسن القابسي فيمن قال في النبي صلى الله عليه و سلم : الحمال يتيم أبي طالب [ 242 ] ـ بالقتل .
و أفتى أبو محمد بن أبي زيد بقتل رجل سمع قوماً يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه و سلم إذ مر بهم رجل قبيح الوجه و اللحية ، فقال لهم : تريدون تعرفون صفته ، هي في صفة هذا المار في خلقه و لحيته . قال : و لا تقبل توبته .
و قد كذب ـ لعنه الله ، و ليس يخرج من قلب سليم الإيمان .
و قال أحمد بن أبي سليمان صاحب سحنون : من قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم كان أسود يقتل .
و قال في رجل قيل له : لا ، و حق رسول الله . فقال فعل الله برسول الله كذا و كذا ـ و ذكر كلاماً قبيحاً ، فقيل له : ما تقول يا عدو الله ؟ فقال أشد من كلامه الأول ، ثم قال : إنما أردت برسول الله العقرب . فقال ابن أبي سليمان للذي سأله : اشهد عليه و أنا شريكك ـ يريد في قتله و ثواب ذلك .
قال حبيب بن الربيع : لأن ادعاءه التأويل في لفظ صراح لا يقبل ، لأنه امتهان ، وهو غير معزز لرسول الله صلى الله عليه و سلم ، ولا موقر له ، فوجب إباحة دمه .
وأفتى أبو عبد الله بن عتاب في عشار ، قال لرجل : أد واشك إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، و قال : إن سألت أو جعلت فقد جهل وسأل النبي صلى الله عليه و سلم ـ بالقتل .
وأفتى فقهاء الأندلس بقتل ابن حاتم المتفقه الطليطلي و صلبه بما شهد عليه به من استخفافه بحق النبي صلى الله عليه و سلم وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم ، وختن حيدرة ، و زعمه أن زهده لم يكن قصداً ، و لو قدر على الطيبات أكلها ، إلى أشباه لهذا .
و أفتى فقهاء القيروان و أصحاب سحنون بقتل إبراهيم الفزاري ، و كان شاعراً متفننا في كثير من العلوم ، و كان ممن يحضر مجلس القاضي أبي العباس بن طالب للمناظرة ، فرفعت عليه أمور منكرة من هذا الباب في الاستهزاء بالله وأنبيائه ونبينا صلى الله عليه و سلم ، فأحضر له القاضي يحيى بن عمر وغيره من الفقهاء ، وأمر بقتله وصلبه ، فطعن بالسكين ، وصلب منكسا ، ثم أنزل وأحرق بالنار .
وحكى بعض المؤرخين أنه لما رفعت خشبته ، و زالت عنها الأيدي استدارت ، و حولته عن القبلة ، فكان آية للجميع ، و كبر الناس ، و جاء كلب فولغ في دمه ، فقال يحيى بن عمر : صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ذكر حديثاً عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا يلغ الكلب في دم مسلم .
و قال القاضي أبو عبد الله بن المرابط : من قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم هزم يستتاب ، فإن تاب و إلا قتل ، لأنه تنقص ، إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته ، إذ هو على بصيرة من أمره ، ويقين من عصمته .
و قال حبيب بن ربيع القروي : مذهب مالك و أصحابه أن من قال فيه صلى الله عليه و سلم : ما فيه نقص ـ قتل دون استتابة .
و قال ابن عتاب : الكتاب و السنة موجبان أن من قصد النبي صلى الله عليه و سلم بأذى أو نقص ، معرضاً أو مصرحاً ، و إن قل ـ فقتله واجب ، فهذا الباب كله مما عده ا لعلماء سباً أو تنقصاً يجب قتل قائله ، لم يختلف في ذلك متقدمهم ولا متأخرهم ، و إن اختلفوا في حكم قتله على ما أشرنا إليه [ 243 ] و نبيه بعد .
و كذلك أقول حكم من غمصه أو عيره برعاية الغنم أو السهو أو النسيان أو السحر ، أو ما أصابه من جرح أو هزيمة لبعض جيوشه ، أو أذى من عدوه ، أو شدة من زمنه ، أو بالميل إلى نسائه ، فحكم هذا كله لمن قصد به نقصه القتل .
و قد مضى من مذاهب العلماء في ذلك ، و يأتي ما يدل عليه .


فصل
في الحجة في إيجاب قتل من سبه أو عابه صلى الله عليه و سلم

 

فمن القرآن لعنه تعالى لمؤذ به في الدنيا و الآخرة ، و قرانه تعالى أذاه بأذاه ، و لا خلاف في قتل من سب الله ، و أن اللعن إنما يستوجبه من هو كافر ، و حكم الكافر القتل ، فقال : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 57 ] .
و قال ـ في قاتل المؤمن مثل ذلك ، فمن لعنته في الدنيا القتل ، قال الله تعالى : لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 60 ، 61 ] .
و قال ـ في المحاربين ، و ذكر عقوبتهم إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 33 ] .
و قد يقع القتل بمعنى اللعن ، قال الله تعالى : قتل الخراصون . و قاتلهم الله أنى يؤفكون ، أي لعنهم الله ، و لأنه فرق بين أذاهما و أذى المؤمنين ، و في أذى المؤمنين ما دون القتل ، من الضرب و النكال ، فكان حكم مؤذي الله و نبيه أشد من ذلك ، و هو القتل . و قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ سورة النساء / 4 ، الآية : 65 ] .
فسلب اسم الإيمان عمن وجد في صدره حرجاً من قضائه ، و لم يسلم له ، و من تنقضه فقد ناقض هذا .
و قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ سورة الحجرات / 49 ، الآية : 2 ] .
و لا يحبط العمل إلا الكفر ، و الكافر يقتل .
و قال تعالى : وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ثم قال : حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير [ سورة المجادلة / 58 ، الآية : 8 ] .
و قال تعالى : ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن . ثم قال : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 61 ] .
و قال تعالى : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 65 ، 66 ] .
قال أهل التفسير : كفرتم بقولكم في رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و أما الإجماع فقد ذكرناه .
و أما الآثار فحدثنا الشيخ أبو عبد الله أحمد بن غلبون ، عن الشيخ أبي ذر الهروي إجازة ، قال : حدثنا أبو الحسن الدار قطني ، و أبو عمر ابن حيوة ، حدثنا محمد بن نوح ، حدثنا عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة ، حدثنا عبد الله بن موسى بن جعفر ، عن علي بن موسى ، عن أبيه ، عن جده ، عن محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن الحسين بن علي ، عن أبيه ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من سب نبينا فاقتلوه ، و من سب أصحابي فاضربوه .
و في الحديث الصحيح : أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل كعب ابن الأشرف . و قوله : من لكعب بن الأشرف ! فإنه يؤذي الله و رسوله . و وجه إليه من قتله غيلة دون دعوة ، بخلاف غيره من المشركين ، و علل قتله بأذاه له ، فدل أن قتله إياه لغير الإشراك ، بل للأذى .
و كذلك قتل أبا رافع ، قال البراء : و كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و يعين عليه .
و كذلك أمره يوم الفتح بقتل ابن خطل [ 244 ] و جاريته اللتين كانتا تغنيان بسبه صلى الله عليه و سلم .
و في حديث آخر أن رجلاً كان يسبه ـ صلى الله عليه و سلم ، فقال : من يكفيني عدوي ؟ فقال خالد : أنا . فبعثه صلى الله عليه و سلم فقتله .
و كذلك لم يقل جماعة ممن كان يؤذيه من الكفار و يسبه ، كالنضر بن الحارث ، و عقبة بن أبي معيط .
و عهد بقتل جماعة منهم قبل الفتح و بعده ، فقتلوا إلا من بادر بإسلامه قبل القدرة عليه .
و قد روى البزار ، عن ابن عباس ـ أن عقبة بن أبي معيط نادى : يا معشر قريش ، مالي أقتل من بينكم صبراً ! فقال له صلى الله عليه و سلم : بكفرك و افترائك على رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و ذكر عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه و سلم سبه رجل ، فقال : من يكفيني عدوي ؟ فقال الزبير : أنا ، فبارزه فقتله الزبير .
و روى أيضاً أن امرأة كانت تسبه صلى الله عليه و سلم ، فقال : فقال : من يكفيني عدوي ؟ فخرج إليها خالد بن الوليد فقتلها .
و روى أن رجلاً كذب على النبي صلى الله عليه و سلم ، فبعث علياً و الزبير إليه ليقتلاه .
و روى ابن قانع أن رجلاً جاء إلى النبي صل ى الله عليه و سلم ، فقال : يا رسول الله ، سمعت أبي يقول فيك قولاً قبيحاً فقتلته ! فلم يشق ذلك على النبي صلى الله عليه و سلم .
و بلغ المهاجر بن أبي أمية أمير اليمن لأبي بكر رضي الله عنه أن امرأة هناك في الردة غنت بسب النبي صلى الله عليه و سلم فقطع يدها ، و نزع ثنيتها ، فبلغ أبا بكر رضي الله عنه ذلك ، فقال له : لولا ما فعلت لأمرتك بقتلها ، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود . و عن ابن عباس : هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : من لي بها ؟ فقال رجل من قومها : أنا رسول الله . فنهض فقتلها ، فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : لا ينتطح فيها عنزان .
و عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تسب النبي صلى الله عليه و سلم فيزجرها فلا تنزجر ، فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه و سلم و تشتمه ، فقتلها ، و أعلم النبي صلى الله عليه و سلم بذلك ، فأهدر دمها .
و في حديث أبي برزة الأسلمي : كنت يوماً جالساً عند أبي بكر الصديق ، فغضب على رجل من المسلمين ـ و حكى القاضي إسماعيل و غير واحد من الأئمة في هذا الحديث أنه سب أبا بكر .
و رواه النسائي : أتيت أبا بكر ، و قد أغلظ لرجل فرد عليه ، قال : فقلت : يا خليفة رسول الله ، دعني أضرب عنقه . فقال : اجلس ، فليس ذلك لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه و سلم .
قال القاضي أبو محمد بن نصر : و لم يخالف عليه أحد ، فاستدل الأئمة بهذا الحديث على قتل من أغضب النبي صلى الله عليه و سلم بكل ما أغضبه أو أذاه أو سبه .
و من ذلك كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة ، و قد استشاره في قتل رجل سب عمر رضي الله عنه ، فكتب إليه عمر : إنه لا يحل قتل امرئ مسلم بسب أحد من الناس إلا رجلاً سب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فمن سبه [ 245 ] فقد حل دمه .
و سأل الرشيد مالكاً في رجل شتم النبي صلى الله عليه و سلم ، و ذكر له أن فقهاء العراق أفتوه بجلده ، فغضب مالك ، و قال : يا أمير المؤمنين ، ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها ! من شتم الأنبياء قتل ، و من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم جلد .
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى : كذا وقع في هذه الحكاية ، رواها غير واحد من أصحاب مناقب مالك و مؤلفي أخباره و غيرهم ، و لا أدري من هؤلاء الفقهاء بالعراق الذين أفتوا الرشيد بما ذكر ! و قد ذكرنا مذهب العراقيين يقتله ، و لعلهم ممن لم يشهر بعلم ، أو من لا يوثق بفتواه ، أو يميل به هواه ، أو يكون ما قاله يحمل على غير السب ، فيكون الخلاف : هل هو سب أو غير سب ؟ أو يكون رجع و تاب من سبه ، فلم يقله لمالك على أصله ، و إلا فالإجماع على قتل من سبه كما قدمناه .
و يدل على قتله من جهة النظر و الاعتبار أن من سبه أو تنقصه صلى الله عليه و سلم فقد ظهرت علامة مرض قلبه ، و برهان سر طويته و كفره ، و لهذا ما حكم له كثير من العلمء بالردة ، و هي رواية الشاميين عن مالك و الأوزاعي ، و قول الثوري ، و أبو حنيفة ، و الكوفيين .
و القول الآخر أنه دليل على الكفر فيقتل حداً ، و إن لم يحكم له بالكفر إلا أن يكون متمادياً على قوله ، غير منكر له ، و لا مقلع عنه ، فهذا كافر ، و قوله : إما صريح كفر كالتكذيب و نحوه ، أو من كلمات الاستهزاء و الذم ، فاعترافه بها و ترك توبته عنها دليل استحلاله لذلك ، و هو كفر أيضاً ، فهذا كافر بلا خلاف ، قال الله تعالى في مثله : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 74 ] .
قال أهل التفسير : هي قول هم : إن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شر من الحمير .
و قيل : قول بعضهم : ما مثلنا و مثل محمد إلا قول القائل : سمن كلبك يأكلك ، و لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأغر منها الأذل .
و قد قيل إن قائل مثل هذا إن كان مستتراً به إن حكمه حكم الزنديق يقتل ، و لأنه قد غير دينه ، و قد قال صلى الله عليه و سلم : من غير دينه فاضربوا عنقه ، و لأن لحكم النبي صلى الله عليه و سلم في الحرمة مزية على أمته ، و ساب الحر من أمته يحد ، فكانت العقوبة لمن سبه صلى الله عليه و سلم القتل ، لعظيم قدره ، و شفوف منزلته على غيره .

 

فصل
 لم لم يقتل النبي اليهودي الذي قال له : السام عليكم ؟

 

فإن قلت : فلم لم يقتل النبي صلى الله عليه و سلم اليهودي الذي قال له : السام عليكم، و هذا دعاء عليه ، و لا قتل الآخر الذي قال له : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، و قد تأذى النبي صلى الله عليه و سلم من ذلك ، و قال : قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر ، و لا قتل المنافقين الذين كانوا يؤذونه في أكثر الأحيان .
فاعلم ـ وفقنا الله و إياك ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان أول الإسلام يستألف عليه الناس و يميل قلوبهم ، و يحبب إليهم الإيمان ، و يزينه في قلويهم و يداريهم ، و يقول لأصحابه : إنما بعثتم مبشرين و لم تبعثوا منفرين .
و يقول : يسروا و لا تعسروا ، و سكنوا و لا تنفروا .
و يقول [246 ] : لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه .
و كان صلى الله عليه و سلم يداري الكفار و المنافقين ، و يجمل صحبتهم ، و يغضي عنهم ، و يحتمل من أذاهم و يصبر على جفائهم ما لا يجوز لنا اليوم الصبر لهم عليه ، و كان يرفقهم بالعطاء و الإحسان ، و بذلك أمره الله تعالى ، فقال تعالى : ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصف ح إن الله يحب المحسنين [ سورة المائدة /5، الآية : 13] .
و قال تعالى : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [ سورة فصلت /41 ، الآية :34 ] .
و ذلك لحاجة الناس للتألف أول الإسلام ، و جمع الكلمة عليه ، فلما استقر و أظهره الله على الدين كله قتل من قدر عليه ، و اشتهر أمره ، كفعله بابن خطل ، و من عهد بقتله يوم الفتح ، و من أمكنه قتله غيلة من يهود و غيرهم ، أو غلبه ممن لم ينظمه قبل سلك صحبته ، و الانخراط في جملة مظري الإيمان له ممن كان يؤذيه ، كابن الأشرف ، و أبي رافع ، و النضر ، و عقبة .
و كذلك نذر دم جماعة سواهم ، ككعب بن زهير ، و ابن الزبعري و غيرهما ممن آذاه حتى ألقوا بأيديهم ، و لقوه مسلمين .
و بواطن المنافقين مستترة ، و حكمه صلى الله عليه و سلم على الظاهر ، و أكثر تلك الكلمات إنما كان يقولها القائل منهم خفية و مع أمثاله ، و يحلفون عليها إذا نميت ، و ينكرونها ، و يحلفون با الله ما قالوا ، و لقد قالوا كلمة الكفر ، و كان مع هذا يطمع في فيئتهم ، و رجوعهم إلى الإسلام و توبتهم ، فيصبر صلى الله عليه و سلم على هناتهم و جفوتهم ، كما صبر أولوا العزم من الرس ل حتى فاء كثير منهم باطناً ، كما فاء ظاهراً ، و أخلص سراً كما أظهر جهراً ، و نفع الله بعد بكثير منهم ، و قام منهم للدين و زراء و أعوان و حماة و انصار كما جاءت به الأخبار .
و بهذا أجاب بعض أئمتنا رحمهم الله عن هذا السؤال .
و قال : لعله لم يثبت عنده صلى الله عليه و سلم من أقوالهم ما رفع ، وإنما نقله الواحد و من لم يصل رتبة الشهادة في مثل هذا الباب ، من صبي أو عبد أو امرأة ، و الدماء لا تستباح إلا بعدلين .
و على هذا يحمل أمر اليهود من السلام ، و أنهم لووا ألسنتهم ، و لم يبينوه ، ألا ترى كيف نبهت عليه عائشة ، و لوكان صرح بذلك لم تنفرد بعلمه ، و لهذا نبه النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه على فعلهم ، و قلة صدقهم في سلامهم ، و خيانتهم في ذلك لياً بألسنتهم ، و طعناً في الدين ، فقال : إن اليهود إذا سلم أحدهم فإنما يقول : السام عليكم ، فقولوا : عليكم .
و كذلك قال بعض أصحابنا البغداديين : إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقتل المنافقين بعلمه فيهم ، و لم يأت أنه قامت بينة على نفاقهم ، فلذلك تركهم .
و أيضاً فإن الأمر كان سراً و باطناً ، و ظاهرهم الإسلام و الإيمان ، و إن كان من أهل الذمة بالعهد و الجوار ، و الناس قريب عهدهم بالإسلام ، و لم يتميز بعد الخبيث من الطيب .
و قد شاع عن المذكورين في العرب كون من يتهم بالنفاق من جملة المؤمنين و صحابة سيد المرسلين ، و أنصار الدين بحكم ظاهرهم ، فلو قتلهم النبي صلى الله عليه و سلم لنفاقهم و ما يبدر منهم ، و علمه بما أسروا [ 247 ] في أنفسهم لوجد المنفر ما يقول ، و لارتاب الشارد ، و أرجف المعاند ، و ارتاع من صحبه النبي صلى الله عليه و سلم ، و الدخول في الإسلام غير واحد ، و لزعم الزاعم ، و ظن العدو الظالم ـ أن القتل إنما كان للعداوة و طلب أخذ الترة .
و قد رأيت معنى ما حررته منسوباً إلى مالك بن أنس رحمه الله ، ولهذا قال صلى الله عليه و سلم لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه . و قال : أؤلئك الذين نهاني الله عن قتلهم .
و هذا بخلاف إجراء الأحكام الظاهرة عليهم من حدود الزنا و القتل و شبهه ، لظهورها و استواء الناس في علمها .
و قد قال محمد بن المواز : لو أظهر المنافقون نفاقهم لقتلهم النبي صلى الله عليه و سلم ، و قاله القاضي أبو الحسن بن القصار .
و قال قتادة في تفسير قوله تعالى : لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا [ سورةالأحذاب /33 ، الآية : 60 ، 62 ] .
قال : معناه إذا أظهروا النفاق .
و حكى محمد بن مسلمة في المبسوط ، عن زيد بن أسلم ـ أن قوله تعالى : يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ، نسخها ما كان قبلها .
و قال بعض مشايخنا : لعل القائل : هذه قسمة ما أريد وجه الله : و قوله : اعدل ـ لم يفهم النبي صلى الله عليه و سلم منه الطعن عليه و التهمة له ، و إنما رآها من وجه الغلط في الرأي ، و أمور الدنيا و الاجتهاد في مصالح أهلها ، فلم ير ذلك سباً ، و رأى أنه من الأذى له العفو عنه و الصبر عليه ، فلذلك لم يعاقبه .
و كذلك يقال في اليهود إذا قالوا : السام عليكم ـ ليس فيه صريح سب و لا دعاء إلا بما لا بد منه من الموت الذي لا بد من لحاقه جميع البشر .
و قيل : بل المراد تسأمون دينكم . و السأم و السآمة : الملال .
و هذا دعاء على سآمة الدين ليس بصريح سب ، و لهذا ترجم البخاري على هذا الحديث ، باب ـ إذا عرض الذمي أو غيره بسبب النبي صلى الله عليه و سلم .
قال بعض علمائنا : و ليس هذا بتعريض بالسب ، و إنما هو تعريض بالأذى .
قال القاضي أبو الفضل : قد قدمنا أن الأذى و السب في حقه صلى الله عليه و سلم سواء .
و قال القاضي أبو محمد بن نصر مجيباً عن هذا الحديث ببعض ما تقدم ، ثم قال : و لم يذكر في الحديث : هل كان هذا اليهودي من أهل العهد و الذمة أو الحرب ، و لا يترك موجب الدلة للأمر المحتمل .
و الأولى في ذلك كله و الأظهر من هذه الوجوه مقصد الاستئلاف و المدارة على الدين لعلهم يؤمنون .
و لذلك ترجم البخاري على حديث القسمة و الخوارج : باب ـ من ترك قتال الخوارج للتألف .
و لئلا ينفر الناس عنه ، و لما ذكرنا معناه عن مالك ، و قررناه قبل .
و قد صبر لهم صلى الله عليه و سلم على سحره و سمه ، و هو أعظم من سبه إلى أن نصره الله عليهم ، و أذن له في قتل من حينه منهم و إنزالهم من صياصيهم ، و قذف في قلوبهم الرعب ، وكتب [ 248 ] على من شاء منهم الجلاء ، و أخرجهم من ديارهم ، و خرب بيوتهم بأيديهم و أيدي المؤمنين ، و كاشفهم بالسب ، فقال : يا إخوةالقردة و الخنازير ، و حكم فيهم سي وف المسلمين ، و أجلا هم من جوارهم [ و أورثهم أرضهم و ديارهم و أموالهم ، لتكون كلمة الله هي العليا و كلمة الذين كفروا السفلى ] .
فإن قلت : فقد جاء في الحديث الصحيح ، عن عائشة رضي الله عنها ـ أنه صلى الله عليه و سلم ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط ، إلا أن تنتهك حرمة الله ، فينتقم لله .
فاعلم أن هذا لا يقتضي أنه لم ينتقم ممن سبه أو آذاه أو كذبه ، فإن هذه من حرمات الله التي انتقم لها ، و إنما يكون ما لا ينتقم له فيما تعلق بسوء أدب أو معاملة من القول أو الفعل بالنفس و المال مما لم يقصد فاعله به أذاه ، لكن مما جبلت عليه الأعراب من الجفاء ، و الجهل ، أو جبل عليه البشر من الغفلة ، كجبذ الأعرابي بإزاره حتى أثر في عنقه ، و كرفع صوت الآخر عنده ، و كحجد الأعرابي شراءه منه فرسه التي شهد فيها خزيمة ، و لما كان من تظاهر زوجيه عليه ، و أشباه هذا مما يحسن الصفح عنه .
[ و قد قال بعض علمائنا : إن أذى النبي صلى الله عليه و سلم حرام لا يجوز بفعل مباح و لا غيره .
و أما غيره فيجوز بفعل مباح ما لا يجوز للإنسان فعله ، و إن تأذى به غيره . و احتج بعموم قوله تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ، و بقوله صلى الله عليه و سلم في حديث فاطمة : إنها بضعة مني ، يؤذيني ما يؤذيها ، ألا و إني لا أحرم ما أحل الله ، و لكن لا تجتمع ابنة رسول الله و ابنة عدو الله عند رجل أبداً ] أو يكون هذا مما آذاه به كافر و جاء بعد ذلك إسلامه ، كعفوه عن اليهودي الذي سحره ، و عن الأعرابي الذي أراد قتله ، و عن اليهودية التي سمته ، و قد قيل : قتلها .
و مثل هذا مما يبلغه من أذى أهل الكتاب و المنافقين ، فصفح عنهم رجاء استئلافهم و استئلاف غيرهم كما قررناه قبل ، و بالله التوفيق .

 

فصل
 الوجه الثاني : إذا كان غير قاصد للسب ..

 

تقدم الكلام في قتل القاصد لسبه و الإزراء به ، و غمصه بأي وجه كان من ممكن أو محال ، فهذا وجه بين لا إشكال فيه .
الوجه الثاني لاحق به في البيان و الجلاء ، و هو أن يكون القائل لما قال في جهته صلى الله عليه و سلم غير قاصد للسب و الإزراء ، و لا معتقد له ، و لكنه تكلم في جهته صلى الله عليه و سلم بكلمة الكفر ، من لعنه أو سبه أو تكذيبه أو إضافة ما لا يجوز عليه ، أو نفى ما يجب له مما هو في حقه صلى الله عليه و سلم نقيصة ، مثل أن ينسب إليه إتيان كبيرة ، أو مداهنة في تبليغ الرسالة ، أو في حكم بين الناس ، أو يغض من مرتبته ، أو شرف نسبه ، أو وفور علمه أو زهده ، أو يكذب بما اشتهر من أمور أخبر بها صلى الله عليه و سلم و تواتر الخبر بها عنه عن قصد لرد خبره ، أو يأتى بسفه من القول ، و قبيح من الكلام ، و نوع من السب في جهته ، و إن ظهر بدليل حاله أنه لم يعتمد ذمه ، و لم يقصد سبه ، إما لجهالة حملته على ما قاله ، أو لضجر أو سكر اضطره إليه ، أو قلة مراقبة و ضبط للسانه و عجرفة و تهور في كلامه ، فحكم هذا الوجه حكم الوجه الأول القتل دون تلعثم ، إذ لا يعذر أحد في ا لكفر بالجهالة ، و لا بدعوى زلل اللسان ، و لا بشيء مما ذكرناه ، إذ كان عقله في فطرته سليماً ، إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان .
و بهذا أفتى الأندلسيون على ابن حاتم في نفيه الزهد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي قدمناه .
و قال محمد بن سحنون ـ في المأسور يسب النبي صلى الله عليه و سلم في أيدي العدو : يقتل إلا أن يعلم تنصره أو إكراهه .
و عن [ 249 ] أبي محمد بن أبي زيد : لا يعذر بدعوى زلل اللسان في مثل هذا .
و أفتى أبو الحسن القابسي ـ فيمن شتم النبي صلى الله عليه و سلم في سكره : يقتل ، لأنه يظن به أنه يعتقد هذا و يفعل في صحوه .
و أيضاً فإنه حد لا يسقطه السكر ، كالقذف ، و القتل ، و سائر الحدود ، لأنه أدخله على نفسه ، لأن من شرب الخمر على علم من زوال عقله بها ، و إتيان ما ينكر منه ، فهو كالعامد لما بسببه .
و على هذا ألزمناه الطلاق و العتاق ، و القصاص و الحدود .
و لا يعترض على هذا بحديث حمزة و قوله للنبي صلى الله عليه و سلم : و هل أنتم إلا عبيد لأبي ! .
قال : فعرف النبي صلى الله عليه و سلم أنه ثمل فانصرف ، لأن الخمر كانت حنيئذ غير محرمة ، فلم يكن في جناياتها إثم ، و ك ان حكم ما يحدث عنها معفواً عنه كما يحدث من النوم و شرب الدواء المأمون .

 

فصل
الوجه الثالث ـ أن يقصد إلى تكذيبه فيما قاله و أتى به ..

 

الوجه الثالث أن يقصد إلى تكذيبه فيما قاله و أتى به ، أو ينفي نبوته أو رسالته ، أو وجوده ، أو يكفر به ، انتقل بقوله ذلك إلى دين آخر غير ملته أم لا ، فهذا كافر بإجماع ، يجب قتله ، ثم ينظر فإن كان مصرحاً بذلك كان حكمه أشبه بحكم المرتد ، و قوي الخلاف في استتابته .
و على القول الآخر لا يسقط عنه توبته لحق النبي صلى الله عليه و سلم ، إن كان ذكره بنقيصة فيما قاله من كذب أو غيره ، و إن كان مستسراً بذلك فحكمه حكم الزنديق لا تسقط قتله التوبة عندنا كما سنبينه .
قال أبو حنيفة و أصحابه : من بريء من محمد ، أو كذب به ، فهو مرتد حلال الدم إلا أن يرجع .
و قال ابن القاسم ـ في المسلم إذا قال : إن محمداً ليس بنبي ، أو لم يرسل ، أو لم ينزل عليه قرآن ، و إنما هو شيء تقوله : يقتل .
قال : و من كفر برسول الله صلى الله عليه و سلم و أنكره من المسلمين ، فهو بمنزلة المرتد ، و كذلك من أعلى بتكذيبه أنه كالمرتد يستتاب .
و كذلك قال فيمن تنبأ ، و زعم أنه يوحى إليه ، و قاله سحنون .
قال ابن القاسم : دعا إلى ذلك سراً و جهراً .
قال أصبغ : و هو كالمرتد ، لأنه قد كفر بكتاب الله مع الفرية على الله .
و قال أشهب ـ في يهودي تنبأ أو زعم أنه أرسل إلى الناس ، أو قال : بعد نبيكم نبي ـ أنه يستتاب إن كان معلنا بذلك ، فإن تاب و إلا قتل ، و ذلك لأنه مكذب للنبي صلى الله عليه و سلم في قوله ، لا نبي بعدي ، مفتر على الله في دعواه عليه الرسالة و النبوة .
و قال محمد بن سحنون : من شك في حرف مما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم عن الله فهو كافر جاحد .
و قال : من كذب النبي صلى الله عليه و سلم كان حكمه عند الأمة القتل .
و قال أحمد بن أبي سليمان صاحب سحنون : من قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم أسود ـ قتل ، لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم بأسود .
و قال نحوه أبو عثمان الحداد ، قال : لو قال : إنه مات قبل أن يلتحي ، أو إنه كان بتاهرت و لم يكن بتهامة قتل ، لأن هذا نفي .
قال حبيب بن ربيع تبديل صفته و مواضعه كفر ، و المظهر [ 250 ] له كافر ، و فيه الاستتابة و المسر له زنديق ، يقتعل دون استتابة .

 

فصل
الوجه الرابع ـ أن يأتي من الكلام بمجمل و يلفظ من القول بمشكل يمكن حمله على النبي أو غيره ..

 

الوجه الرابع أن يأتي من الكلام بمجمل ، و بلفظ من القول بمشكل يمكن حمله على النبي صلى الله عليه و سلم أو غيره ، أو يتردد في المراد به من سلامته من المكروه أو شره ، فها هنا متردد النظر و حيرة العبر ، و مظنة اختلاف المجتهدين ، و وقفة استبراء المقلدين ، ليهلك من هلك عن بينة ، و يحيى من حي عن بينة ، فمنهم من غلب حرمة النبي صلى الله عليه و سلم ، و حمى حمى عرضه ، فجسر على القتل ، و منهم من عظم حرمة الدم ، و درأ الحد بالشبهة لاحتمال القول .
و قد اختلف أئمتنا في رجل أغضبه غريمه ، فقال له : صل على النبي محمد ، فقال له الطالب : لا صلى الله على من صلى عليه ، فقيل لسحنون : هل هو كمن شتم النبي صلى الله عليه و سلم ، أو شتم الملائكة الذين يصلون عليه ، قال : لا ، إذا كان على ما وصفت من الغضب ، لأنه لم يكن مضمراً الشتم .
و قال أبو إسحاق البرقي ، و أصبغ بن الفرج : لا يقتل ، لأنه إنما شتم الناس ، و هذا نحو قول سحنون : لأنه لم يعذره بالغضب في شتم النبي صلى الله عليه و سلم ، و لكنه لما احتمل الكلام عنده ، و لم تكن معه قرينة على شتم النبي صلى الله عليه و سلم ، أو شتم الملائكة صلوات الله عليهم ، و لا مقدمة يحمل عليها كلامه ، بل القرينة تدل على أن مراده الناس غير هؤلاء ، لأجل قول الآخر له : صل على النبي ، فحمل قوله و سبه لمن يصلي عليه الأن لأجل أمر الآخر له بهذا عند غضبه .
هذا معنى قول سحنون ، و هو مطابق لعلة صاحبيه .
و ذهب الحارث بن مسكين القاضي و غيره في مثل هذا إلى القتل .
و توقف أبو الحسن القابسي في قتل رجل قال : كل صاحب فندق قرنان ، و لو كان نبياً مرسلاً ، فأمر بشده بالقيود و التضييق عليه حتى تستفهم البينة عن جملة ألفاظه ، و ما يدل على مقصده ، هل أراد أصحاب الفنادق الآن فمعلوم أنه ليس فيهم نبي مرسل ، فيكون أمره أخف .
قال : و لتكن ظاهر لفظه العموم لكل صاحب فندق من المتقدمين و المتأخرين . و قد كان فيمن تقدم من الأنبياء و الرسل من اكتسب المال .
قال : و دم المسلم لا يقدم عليه إلا بأمر بين . و ما ترد إليه التأويلات لا بد من إنعام النظر فيه . هذا معنى كلامه .
و حكي عن أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله ـ فيمن قال : لعن الله العرب ، و لعن الله بني إسرائيل ، و لعن الله بني آدم ، و ذكر أنه لم يرد الأنبياء ، و إنما أردت الظالمين منهم ـ إن عليه الأدب بقدر إجتهاد السلطان .
و كذلك أفتى ـ فيمن قال : لعن الله من حرم المسكر ، و قال : لم أعلم من حرمه .
و فيمن لعن حديث : لا يبع حاضر لباد . و لعن من جاء به ـ إنه إن كان يعذر بالجهل و عدم معرفة السنن فعليه الأدب الوجيع ، و ذلك أن هذا لم يقصد بظاهرة حاله سب الله و لا سب رسوله ، و إنما لعن من حرمه من الناس على نحو فتوى سحنون و أصحابه في المسألة المتقدمة .
و مثل هذا ما يجري في كلام سفهاء الناس [ 251 ] في قول بعضهم لبعض : يا بن ألف خنزير ، و ابن مائة كلب ، وشبهه من هجر القول .
و لا شك أنه يدخل في مثل هذا العدد من آبائه و أجداده جماعة من الأنبياء ، و لعل بعض هذا العدد منقطع إلى آدم عليه السلام ، فينبغي الزجر عنه ، و تبيين ما جهله قائله منه و شدة الأدب فيه .
و لو علم أنه قصد سب من في آبائه من الأنبياء على علم لقتل .
و قد يقيض القول في نحو هذا لو قال لرجل هاشمي : لعن الله بني هاشم ـ و قال : أردت الظالمين منهم ، أو قال لرجل من ذرية النبي صلى الله عليه و سلم قولاً قبيحاً في أبائه أو من نسله أو ولده على علم من ه أنه من ذرية النبي صلى الله عليه و سلم ، و لم تكن قرينة في المسألتين تقتضي تخصيص بعض أبائه ، و إخراج النبي صلى الله عليه و سلم ممن سبه منهم .
[ و قد رأيت لأبي موسى عيسى بن مناس ـ في من قال لرجل : لعنك الله إلى آدم عليه السلام ـ أنه إن ثبت عليه ذلك قتل ] .
و قد كان اختلف شيوخنا فيمن قال لشاهد شهد عليه بشيء ثم قال له : تتهمني ؟ قال له الآخر : الأنبياء يتهمون ، فكيف أنت ؟ فكان شيخنا أبو إسحاق بن جعفر يرى قتله ، لبشاعة ظاهر اللفظ .
و كان القاضي أبو محمد بن منصور يتوقف عن القتل لأحتمل اللفظ عنده أن يكون خبراً عمن أتهمهم من الكفار .
و أفتى فيها قاضي قرطبة أبو عبد الله ابن الحاج بنحو هذا .
و شدد القاضي أبو محمد تصفيده ، و أطال سجنه ، ثم استحلفه بعد على تكذيب ما شهد به عليه ، إذ دخل في شهادة بعض من شهد عليه وهن ، ثم أطلقه .
و شاهدت شيخنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى أيام قضائه أتى برجل هاتر رجلاً ، ثم قصد إلى كلب فضربه برجله و قال له : قم يا محمد ، فأنكر الرجل أن يكون قال ذلك ، و شهد عليه لفيف من الناس ، فأمر به إلى السجن ، و تقصى عن حاله ، و هل يصحب من يستر اب بدينه ؟ فلما لم يجد ما يقوي الريبة باعتقاده ضربه بالسوط و أطلقه .

 

فصل
الوجه الخامس ـ ألا يقصد نقصاً . .

 

الوجه الخامس ألا يقصد نقصاً ، و لا يذكر عيباً و لا سباً ، لكنه ينزع بذكر بعض أوصافه ، أو يستشهد ببعض أحواله صلى الله عليه و سلم الجائزة عليه في الدنيا على طريق ضرب المثل ، و الحجة لنفسه أو لغيره ، أو على التشبه به ، أو عند هضمية نالته ، أو غضاضة لحقته ، ليس على طريق التأسي و طريق التحقيق ، بل على مقصد الترفيع لنفسه أو لغيره ، أو على سبيل التمثيل و عدم التوقير لنبيه صلى الله عليه و سلم ، أو على قصد الهزل و التندير بقوله ، كقول القائل : إن قيل في السوء فقد قيل في النبي ، و إن كذبت فقد كذب الأنبياء ، أو إن أذنبت فقد أذنبوا ، أو أنا أسلم من ألسنة الناس و لم يسلم منهم أنبياء الله و رسوله ، أو قد صبرت كما صبر أولوا العزم ، أو كصبر أيوب ، أو قد صبر نبي الله عن عداه ، وحلم على أكثر مما صبرت ، و كقول المتنبي :
أنا في أمة تداركها       الله غريب كصالح في ثمود
و نحوه من أشعار المتعجرفين في القول ، المتساهلين في الكلام ، كقول المعري :
كنت موسى وافته بنت شعيب       غير أن ليس فيكما من فقير
على أن آخر البيت شديد ، و داخل في باب الإزراء و الت حقير بالنبي [ 252 ] صلى الله عليه و سلم ، و تفضيل حال غيره عليه .
و كذلك قوله :
لولا انقطاع الوحي بعد محمد       قلنا محمد من أبيه بديل
هو مثله في الفضل إلا أنه      لم يأته برسالة جبريل
فصدر البيت الثاني من هذا الفصل شديد ، لتشبيهه غير النبي في فضله بالنبي ، و العجز محتمل لوجهين : أحدهما أن هذا الفضيلة نقصت الممدوح ، و الآخر استغناؤه عنها . و هذا أشد .
و نحو منه قول الآخر :
و إذا ما رفعت راياته       صفقت بين جناحي جبرين
و قول الآخر من أهل العصر :
فر من الخلد و استجار بنا       فصبر الله قلب رضوان
و كقول حسان المصيصي من شعراء الأندلس في محمد بن عباد المعروف بالمعتمد و وزيره أبي بكر بن زيدون :
كأن أبا بكر أبو بكر الرضا       و حسان حسان و أنت محمد
و إنما أكثرنا شاهدنا مع استثقالنا حكايتها لتعريف أمثلتها و لتساهل كثير من الناس في ولوج هذا الباب الضنك ، و استخفافهم فادح هذا العبء و قلة علمهم بعظيم ما فيه من الوزر ، و كلامهم منه بما ليس لهم به علم ، و يحسبونه هيناً و هو عند الله عظيم ، لا سيما الشعراء . و أشدهم فيه تصريحاً ، و للسانه تسريحاً ، و ل لسانه تسريحاً ابن هانيءالأندلسي، و ابن سليمان المعري ، بل قد خرج كثير من كلامهما إلى حد الاستخفاف و النقص و صريح الكفر .
و قد أجبنا عنه ، و غرضنا الآن الكلام في الفصل الذي سقنا أمثلته ، فإن هذه كلها و إن لم تتضمن سباً ، و لا أضافت إلى الملائكة و الأنبياء نقصاً ، و لست أعني عجزى بيتي المعري ، و لا قصد قائلها إزراء و غضاً ، فما وقر النبوة ، و لا عظم الرسالة ، و لا عزز حرمة الاصطفاء ، و لا عزز حظوة الكرامة حتى شبه من شبه في كرامة نالها ، أو معرة قصد الانتقاء منها ، أو ضرب مثل لتطيب مجلسه ، أو إغلاء في وصف لتحسين كلامه بمن عظم الله خطره ، و شرف قدره ، و ألزم توقيره و بره ، و نهى عن جهر القول له ، و رفع الصوت عنده .
فحق هذا إن درئ عنه القتل الأدب و السجن و قوة تعزيزه بحسب شنعة مقاله ، و مقتضى قبح ما نطق به ، و مألوف عادته لمثله ، أو ندوره ، و قرينة كلامه ، أو ندمه على ما سبق منه ، و لم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء به ، و قد أنكر الرشيد على أبي نواس قوله :
فإن يك باقي سحر فرعون فيكم      فإن عصا موسى بكف خصيب
و قال له : يا بن اللخناء ، أنت المستهزئ بعصا موسى ! و أمر بإخ راجه عن عسكره من ليلته .
و ذكر القتبي أن مما أخذ عليه أيضاً ، و كفر فيه ، أو قارب ـ قوله في محمد الأمين و تشبيهه إياه بالنبي صلى الله عليه و سلم ، حيث قال :
تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها      خلقاً و خلقاً كما قد الشرا كان
[ 253 ] و قد أنكروا عليه أيضاً قوله :
كيف لا يدنيك من أمل      من رسول الله من نفره
لأن حق الرسول و موجب تعظيمه و إنافة منزلته أن يضاف إليه ، و لا يضاف .
فالحكم في أمثال هذا ما بسطناه في طريق الفتيا على هذا المنهج جاءت فتيا إمام مذهبنا مالك بن أنس رحمه الله و أصحابه :
ففي النوادر من رواية ابن أبي مريم عنه في رجل عير رجلاً بالفقر ، فقال : تعيرني بالفقر و قد رعى النبي صلى الله عليه و سلم الغنم ؟ فقال مالك : قد عرض بذكر النبي صلى الله عليه و سلم في غير موضعه ، أرى أن يؤدب ، قال : و لا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا أن يقولوا : قد أخطأت الأنبياء قبلنا .
و قال عمر بن عبد العزيز لرجل : انظر لنا كاتباً يكون أبوه عربياً . فقال كاتب له : قد كان أبو النبي كافراً ، فقال : جعلت هذا مثلاً ! فعزله ، و قال : لا تكتب لي أبداً .
و قد كره سحنون أن يصلى على النبي صلى الله عليه و سلم عند التعجب إلا على طريق الثواب و الاحتساب ، توقيراً له و تعظيماً ، كما أمرنا الله .
و سئل القابسي عن رجل قال لرجل قبيح كأنه وجه نكير ، و لرجل عبوس كأنه وجه مالك الغضبان ، فقال : أي شيء أراد بهذا ، و نكير أحد فتاني القبر ، و هما ملكان ، فما الذي أراد ! أروع دخل عليه حين رآه من وجهه ، أم عاف النظر إليه لدمامة خلقه ، فإن كان هذا فهو شديد ، لأنه جرى مجرى التحقير و التهوين ، فهو أشد عقوبة ، و ليس فيه تصريح بالسب للملك ، و إنما السب واقع على المخاطب . و في الأدب بالسوط و السجن نكال للسفهاء ، قال : و أما ذاكر مالك خازن النار فقد جفا الذي ذكره عندما أنكر حاله من عبوس الآخر إلا أن يكون المعبس له يد فيرهب بعبسته ، فيشبهه القائل على طريق الذم لهذا في فعله ، و لزومه في ظلمه صفة مالك الملك المطيع لربه في فعله ، فيقول كأنه لله يغضب غضب مالك ، فيكون أخف ، و ما كان ينبغي له التعرض لمثل هذا ، و لو كان أثنى على العبوس يعبسته ، و احتج بصفة مالك كان أشد ، و يعاقب المعاقبة الشديدة ، و ليس في هذا ذم للملك ، و لو قصد ذمه لقتل .
و قال أبو الحسن أيضاً في شاب معروف ب الخير قال لرجل شيئاً ، فقال الرجل :
اسكت ، فإنك أمي . فقال الشاب : أليس كان النبي صلى الله عليه و سلم أمياً ! فشنع عليه مقاله ، و كفره الناس ، و أشفق الشاب مما قال ، و أظهر الندم عليه ، فقال أبو الحسن : أما إطلاق الكفر عليه فخطأ في استشهاده بصفة النبي صلى الله عليه و سلم ، و كون النبي أمياً له ، و كون هذا أمياً نقيصة فيه و جهالة .
و من جهالته احتجاجه بصفة النبي صلى الله عليه و سلم ، لكنه إذا استغفر و تاب ، و اعترف و لجأ إلى الله فيترك ، لأن قوله لا ينتهي إلى حد القتل ، و ما طريقه الأدب فطوع فاعله بالندم عليه يوجب الكف عنه .
و نزلت أيضاً مسألة استفتى فيها بعض قضاة الأندلس شيخا القاضي أبا محمد ابن منصور رحمه الله في رجل تنقصه . [ 256 ] آخر بشيء ، فقال له : إنما تريد نقصي بقولك ، و أنا بشر ، و جميع البشر يلحقهم النقص حتى النبي صلى الله عليه و سلم ، فأفتاه بإطالة سجنه ، و إيجاع أدبه ، إذ لم يقصد السب ، و كان بعض فقهاء الأندلس أفتى بقتله .

 

فصل
 الوجه السادس ـ أن يقول ذلك حاكياً عن غيره

 

الوجه السادس أن يقول القائل ذلك حاكياً عن غيره ، و آثراً له عن سواه ، فهذا ينظر في صورة حكايته و قرينة مقالته ، و يختلف الحكم باختلاف ذلك على أربعة وجوه : الوجوب ، و الندب ، و الكراهة ، التحريم ، فإن كان أخبر به على وجه الشهادة و التعريف بقائله ، و الإنكار و الإعلام بقوله ، و التنفير منه ، و التجريح له ـ فهذا مما ينبغي امتثاله ، و يحمد فاعله ، و كذلك إن حكاه في كتاب أو في مجلس على طريق الرد له و النقض على قائله ، و للفتيا بما يلزمه .
و هذا منه ما يجب ، و منه ما يستحب بحسب حالات الحاكي لذلك و المحكي عنه ، فإن كان القائل لذلك ممن تصدى لأن يؤخذ عنه العلم أو رواية الحديث ، أو يقطع بحكمه أو شهادته ، أو فتياه في الحقوق ـ وجب على سامعه الإشادة بما سمع منه و التنفير للناس عنه ، و الشهادة عليه بما قاله ، و وجب على من بلغه ذلك من أئمة المسلمين إنكاره ، و بيان كفره ، و فساد قوله ، لقطع ضرره عن المسلمين ، و قياماً بحق سيد المرسلين ، و كذلك إن كان ممن يعظ العامة ، أو يؤدب الصبيان فإن من هذه سريرته لا يؤمن على إلقاء ذلك في قلوبهم ، فيتأكد في هؤلاء ا لإيجاب لحق النبي صلى الله عليه و سلم ، و لحق شريعته .
و إن لم يكن القائل بهذه السبيل فالقيام بحق النبي صلى الله عليه و سلم واجب ، و حماية عرضه متعين ، و نصرته عن الأذى حياً و ميتاً مستحق على كل مؤمن ، لكنه إذا قام بهذا من ظهر به الحق ، و فصلت به القضية ، و بان به الأمر سقط عن الباقي الفرض ، و بقي الاستحباب في تكثير الشهادة عليه ، و عضد التحذير منه .
و قد أجمع السلف على بيان حال المتهم في الحديث ، فكيف بمثل هذا ؟ .
و قد سئل أبو محمد بن أبي زيد عن الشاهد يسمع مثل هذا في حق الله تعالى : أيسعه ألا يؤدي شهادته ؟ قال : إن رجا نفاذ الحكم بشهادته فليشهد .
و كذلك إن علم أن الحاكم لا يرى القتل بما شهد به ، و يرى الاستتابة و الأدب فليشهد ، و يلزمه ذلك .
و أما الإباحة لحكاية قوله لغير هذين المقصدين ، فلا أرى لها مدخلاً في هذا الباب ، فليس التفكه بعرض رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و التمضمض بسوء ذكره لأحد ، لا ذاكراً و لا آثراً لغير غرض شرعي بمباح .
و أما للأغراض المتقدمة فمتردد بين الايجاب و الاستحباب .
و قد حكى الله تعالى مقالات المفترين عليه و على رسله في كتابه على وجه الإنكار لق ولهم ، و التحذير من كفرهم ، و الوعيد عليه ، و الرد عليهم بما تلاه الله علينا في محكم كتابه .
و كذلك وقع من أمثاله في أحاديث النبي الله صلى الله عليه و سلم الصحيحة على الوجوه المتقدمة ، و أجمع السلف و الخلف من أئمة الهدى على حكايات مقالات الكفرة و الملحدين في كتبهم مجالسهم ليبينوها للناس ، و ينقضوا شبهها عليهم [ 255 ] ، و إن كان ورد لأحمد بن حنبل إنكار لبعض هذا على الحارث ابن أسد ، فقد صنع أحمد مثله في رده على الجهمية و القائلين بالمخلوق .
هذه الوجوه السائغة الحكاية عنها ، فأما ذكرها على غير هذا من حكاية سبه و الإزراء بمنصبه على وجه الحكايات و الأسمار و الطرف و أحاديث الناس و مقالاتهم في الغث و السمين ، و مضاحك المجان ، و نوادر السخفاء ، و الخوض في قيل و قال ، و ما لا يعني ـ فكل هذا ممنوع ، و بعضه أشد في المنع و العقوبة من بعض ، فما كان من قائله الحاكي له على غير قصد أو معرفة بمقدار ما حكاه ، أو لم تكن عادته ، أو لم يكن الكلام من البشاعة حيث هو ، و لم يظهر على حاكيه استحسانه و استصوابه ـ زجر عن ذلك ، و نهي عن العودة إليه ، وإن قوم ببعض الأدب فهو مستوجب له ، و إ، كان لفظه من الب شاعة حيث هو كان الأدب أشد .
و قد حكي أن رجلاً سأل مالكاً عمن يقول : القرآن مخلوق . فقال مالك : كافر فاقتلوه . فقال : إنما حكيته عن غيري . فقال مالك : إنما سمعناه منك .
و هذا من مالك على طريق الزجر و التغليظ ، بدليل أنه لم ينفذ قتله .
و إن اتهم هذا الحاكي فيما حكاه أنه اختلقه ، و نسبه إلى غيره ، أو كانت تلك عادة له ، أو ظهر استحسانه لذلك ، أو كان مولعاً بمثله ، و الاستخفاف له ، أو التحفظ لمثله ، و طلبه ، و رواية أشعار هجوه صلى الله عليه و سلم و سبه ، فحكم هذا حكم الساب نفسه ، يؤاخذ بقوله ، و لا تنفعه نسبته إلى غيره ، فيبادر بقتله و يعجل إلى الهاوية أمه .
قال أبو عبيد القاسم بن سلام ـ فيمن حفظ شطر بيت مما هجي به النبي صلى الله عليه و سلم فهو كفر .
و قد ذكر بعض من ألف في الإجماع ـ إجماع المسلمين على تحريم رواية ما هجي به النبي صلى الله عليه و سلم ، و كتابته و قراءته ، و تركه متى وجد دون محو و رحم الله أسلافنا المتقين المتحرزين لدينهم ، فقد أسقطوا من أحاديث المغازي و السير ما كان هذا سبيله ، و تركوا روايته إلا أشياء ذكروها يسيرة و غير مستبشعة ، على نحو الوجوه الأول ، ليروا نقمة الله من قائلها ، و أخذه المفتري عليه بذنبه .
و هذا أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله قد تحرى فيما اضطر إلى الاستشهاد به من أهاجي أشعار العرب في كتبه ، فكنى عن اسم المهجو بوزن اسمه ، استبراء لدينه ، و تحفظاً من المشاركة في ذم أحد أو نشره ، فكيف بما يتطرق إلى عرض سيد البشر صلى الله عليه و سلم .

 

فصل
 الوجه السابع ـ أن يذكر ما يجوز على النبي ، أو يختلف في جوازه

 

الوجه السابع أن يذكر ما يجوز على النبي صلى الله عليه و سلم ، أو يختلف في جوازه عليه ، و ما يطرأ من الأمور البشرية به ، و تمكن إضافتها إليه ، أو يذكر ما امتحن به ، و صبر في ذات الله على شدته من مقاساة أعدائه ، و أذاهم له ، و معرفة ، ابتداء حاله و سيرته ، و ما لقيه من بؤس زمنه ، و مر عليه من معاناة عيشه ، كل ذلك على طريق الرواية ، و مذاكرة العلم ، و معرفة ما صحت منه العصمة للأنبياء ، و ما يجوز عليهم ـ فهذا فن خارج عن هذه الفنون الستة ، إذ ليس فيه غمص و لا نقص ، و لا إزراء و لا استخفاف ، لا في ظاهر اللفظ [ 256 ] و لا في مقصد اللافظ ، لكن يجب أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم و فهماء طلبة الدين ممن يفهم مقاصده . و يحققون فوائده ، و ينجب ذلك من عساه لا يفقه ، أو يخشى به فتنته ، فقدكره بعض السلف تعليم النساء سورة يوسف ، لما انطوت عليه من تلك القصص لضعف معرفتهن ، و نقص عقولهن و إدراكهن ، فقد قال صلى الله عليه و سلم الله ـ مخبراً عن نفسه باستيجار لرعاية الغنم في ابتداء حاله ، و قال : ما من نبي إلا و قد رعى الغنم .
و أخبرنا الل ه تعالى بذلك عن موسى عليه السلام ، و هذا لا غضاضة فيه جملة واحدة لمن ذكره على وجهه ، بخلاف من قصد به الغضاضة و التحقير ، بل كانت عادة جميع العرب .
نعم ، في ذلك للأنبياء حكمة بالغة ، و تدريج لله تعالى لهم إلى كرامته ، و تدريب برعايتها لسياسة أممهم من خليقته بما سبق لهم من الكرامة في الأزل ، و متقدم العلم .
و كذلك قد ذكر الله يتمه و عيلته على طريق المنة عليه ، و التعريف بكرامته له ، فذكر الذاكر لها على وجه تعريف حاله ، و الخبر عن مبتدئه ، و التعجب من منح الله قبله ، و عظيم منته عنده ليس فيه غضاضة ، بل فيه دلالة على نبوته و صحة دعوته ، إذ أظهره الله تعالى بعد هذا على صناديد العرب و من ناوأه من أشرافهم شيئاً فشيئاً ، و نمى أمره حتى قهرهم ، و تمكن من ملك مقاليدهم ، و استباحة ممالك كثير من الأمم غيرهم ، بإظهار الله تعالى له ، و تأييده بنصره و بالمؤمنين ، و ألف بين قلوبهم ، و إمداده بالملائكة المسومين ، و لو كان ابن ملك أو ذا أشيع متقدمين لحسب كثير من الجهال أن ذلك موجب ظهوره ، و مقتضى علوه ، و لهذا قال هرقل ـ حين سأل أبا سفيان عنه : هل في آبائه من ملك ؟ فقال : لا . ثم قال : و لو كان في آبائه ملك لقلنا : رجل يطلب ملك أبيه ، و إذا اليتيم من صفته و إحدى علاماته في الكتب المتقدمة و أخبار الأمم السالفة .
و كذا و قع ذكره في كتاب أرميا ، و بهذا وصفه ابن ذي يزن لعبد المطلب ، و بحيرا لأبي طالب .
و كذلك إذا وصف بأنه أمي كما وصفه الله به ـ فهي مدحه له و فضيلة ثابتة فيه ، و قاعدة معجزته ، إذ معجزته العظمى في القرآن العظيم إنما هي متعلقة بطريق المعارف و العلوم ، مع ما منح صلى الله عليه و سلم ، و فضل به من ذلك ، كما قدمناه في القسم الأول .
و وجود مثل ذلك من رجل لم يقرأ و لم يكتب و لم يدارس و لا لقن ـ مقتضى العجب ، و منتهى العبر ، و معجزة البشر .
و ليس في ذلك نقيصة ، إذ المطلوب من الكتابة و القراءة المعرفة ، و إنما هي آلة لها ، و واسطة موصلة إليها غير مرادة في نفسها ، فإذا حصلت الثمرة و المطلوب استغني عن الواسطة و السبب .
و الأمية في غيره نقيصة ، لأنها سبب الجهالة ، و عنوان الغباوة ، فسبحان من باين أمره من أمر غيره ، و جعل شرفه فيما فيه محطة سواه ، و جعل حياته فيما فيه هلاك من عداه ، هذا شق قلبه ، و إخراج حشوته ، كان تمام حياته ، و غاية قوة نفسه ، و ثبات روعه ، و هو فيمن سواه منتهى هلاكه و حتم موته و فنائه ، و هلم جراً إلى سائر ما روي من أخباره و سيره ، و تقلله من الدنيا [ 257 ] و من الملبس و المطعم و المركب ، و تواضعه و مهنته نفسه في أموره ، و خدمة بيته زهداً و رغبة عن الدنيا ، و تسوية بين حقيرها و خطيرها ، لسرعة فناء أمورها ، و تقلب أحوالها ، كل هذا من فضائله و مآثره و شرفه كما ذكرناه ، فمن أورد سيئاً منها موردة و قصد بها مقصدة كان حسناً ، و من أورد ذلك على غير وجهه ، و علم منه بذلك سوء قصده لحق بالفصول التي قدمناها .
و كذلك ما ورد من أخباره و أخبار سائر الأنبياء عليهم السلام في الأحاديث مما في ظاهره إشكال يقتضي أموراً لا تليق بهم بحال ، و يحتاج إلى تأويل و تردد احتمال ، فلا
يجب أن يتحدث منها إلا بالصحيح ، و لا يروى منها إلا المعلوم الثابت .
و رحم الله مالكاً ، فلقد كره التحدث بمثل ذلك من الأحاديث الموهمة للتشبيه و المشكلة المعنى ، و قال : ما يدعو إلى التحدث بمثل هذا ؟ فقيل له : إن ابن عجلان يحدث بها ، فقال : لم يكن من الفقهاء ، و ليت الناس وافقوه على ترك الحديث بها ، و ساعدوه على طيها ، فأكثرها ليس تحته عمل .
و قد حكي عن جماعة من السلف ، بل عنهم على الجملة ـ أنهم كانوا يكرهون الكلام فيما ليس تحته عمل ، و النبي صلى الله عليه و سلم أوردها على قوم عرب يفهمون كلام العرب على وجهه ، و تصرفاتهم في حقيقته و مجازه ، و استعارته ، و بليغه و إيجازه ، فلم تكن في حقهم مشكلةً ، ثم جاء من غلبت عليه العجمة ، داخلته الأمية ، فلا يكاد يفهم من مقاصد العرب إلا نصها و صريحها ، و لا يتحقق بإشاراتها إلى غرض الإيجاز ، و وحيها و تبليغها ، و تلويحها ، فتفرقوا من تأويلها [ و حملها على ظاهرها ] شذر مذر ، فمنهم من آمن به ، و منهم من كفر .
فأما ما لا يصح من هذه الأحاديث فواجب ألا يذكر منها شيء في حق الله و لا في حق أنبيائه ، و لا يتحدث بها ، و لا يتكلف الكلام على معانيها . و الصواب طرحها ، و ترك الشغل بها إلا أن تذكر على وجه التعريف بأنها ضعيفة المقاد واهية الإسناد .
و قد أنكر الأشياخ على أبي بكر بن فورك تكلفه في مشكلة الكلام على أحاديث ضعيفة موضوعة لا أصل لها ، أو منقولة عن أهل الكتاب الذين يلبسون الحق بالباطل كان يكفيه طرحها ، و يغنيه عن الكلام التنبيه على ضعفها ، إذ المقصود بالكلام على مشكل ما فيها إزالة اللبس ، و اجتثاثها من أصلها ، و طرحها أكشف للبس و أشفى للنفس .


فصل
الالتزام عند ذكر النبي بالواجب من توقيره و تعظيمه

 

و مما يجب على المتكلم فيما يجوز على النبي صلى الله عليه و سلم و ما لا يجوز ، و الذاكر من حالاته ما قدمناه في الفصل قبل هذا على طريق المذاكرة و التعليم ـ أن يلتزم في كلامه ـ عند ذكره صلى الله عليه و سلم ، و ذكر تلك الأحوال ـ الواجب من توقيره و تعظيمه ، و يراقب حال لسانه ، و لا يهمله ، و تظهر عليه علامات الأدب عند ذكره ، فإذا ذكر ما قاساه من الشدائد ظهر عليه الإشفاق و الإرتماض ، و الغيط على عدوه ، و مودة الفداء للنبي صلى الله عليه و سلم لو قدر عليه ، و النصرة له لو أمكنته .
و إذا أخذ في أبواب العصمة ، و تكلم على مجاري أعماله و أقواله صلى الله عليه و سلم تحرى أحسن [ 258 ] اللفظ و أدب العبارة ما أمكنه ، و اجتنب بشيع ذلك ، و هجر من العبارة ما يقبح ، كلفظة الجهل و الكذب و المعصية ، فإذا تكلم في الأقوال قال : هل يجوز عليه الخلف في القول و الإخبار بخلاف ما وقع سهواً أو غلطاً ، و نحوه من العبارة ، و يتجنب لفظة الكذب جملةً واحدةً .
و إذا تكلم على العلم قال : هل يجوز ألا يعلم إلا ما علم ؟ و هل يمكن ألا يكون عنده علم من بعض الأشياء حتى يوح ى إليه ، و لا يقول يجهل ، لقبح اللفظ و بشاعته .
و إذا تكلم في الأفعال قال : هل يجوز منه المخالفة في بعض الأوامر و النواهي و مواقعة بعض الصغائر ؟ فهو أولى و آدب من قوله : هل يجوز أن يعصي أو يذنب أو يفعل كذا و كذا ، من أنواع المعاصي ؟ فهذا من حق توقيره صلى الله عليه و سلم ، و ما يجب له من تعزيز و إعظام .
و قد رأيت بعض العلماء لم يتحفظ من هذا ، فقبح منه ، و لم أستصوب عبارته فيه .
و وجدت بعض الجائرين قوله لأجل ترك تحفظه في العبارة ما لم يقله ، و شنع عليه بما يأباه ، و يكفر قائله .
و إذا كان مثل هذا بين الناس مستعملاً في آدابهم و حسن معاشرتهم و خطابهم ، فاستعماله في حقه صلى الله عليه و سلم أوجب ، و التزامه آكد .
فجودة العبارة تقبح الشيء أو تحسنه ، و تحريرها و تهذيبها تعظم الأمر أو تهونه ، و لهذا قال صلى الله عليه و سلم : إن من البيان لسحراً .
فأما ما أورده على جهة النفي عنه و التنزيه فلا حرج في تسريح العبارة و تصريحها فيه ، كقوله : لا يجوز عليه الكذب جملةً ، و لا إتيان الكبائر بوجه ، و لا الجور في الحكم على حال ، و لكن مع هذا يجب ظهور توقيره و تعظيمه عند ذكره مجرداً ، فكيف عند ذك ر مثل هذا .
و قد كان السلف تظهر عليهم حالات شديدة عند مجرد ذكره ، كما قدمناه في القسم الثاني .
و قد كان بعضهم يلتزم مثل ذلك عند تلاوة آي من القرآن ، حكى الله تعالى فيها مقال عداه ، و من كفر بآياته ، و افترى عليه الكذب ، فكان يخفض بها صوته إعظاماً لربه ، و إجلالاً له ، و إشفاقاً من التشبه بمن كفر به .



الباب الثاني

 

في حكم سابه و شاتمه و متنقصه و مؤذيه و عقوبته

 

قد قدمنا ما هو سب و أذى في حقه صلى الله عليه و سلم ، و ذكرنا إجماع العلماء على قتل فاعل ذلك و قائله ، أو تخيير الإمام في قتله أو صلبه على ما ذكرناه ، و قررنا الحجج عليه .
و بعد فاعلم أن مشهور مذهب مالك و أصحابه ، و قول السلف و جمهور العلماء قتله حداً لا كفراً إن أظهر التوبة منه ، و لهذا لا تقبل عندهم توبته ، و لا تنفعه استقالته و لا فيئته كما قدمناه قبل ، و حكمه حكم الزنديق ، و مسر الكفر في هذا القول ، و سواء كانت توبته على هذا بعد القدرة عليه والشهادة على قوله ، أو جاء تائباً من قبل نفسه ، لأنه حد لا تسقطه التوبة كسائر الحدود .
قال الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله : إذا أقر بالسب ، و تاب منه ، و أظهر التوبة ـ قتل بالسب ، لأنه هو حده .
[ 259 ] و قال أبو محمد بن أبي زيد في مثله ، و أما ما بينه و بين الله فتوبته تنفعه .
و قال ابن سحنون : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم من الموحدين ، ثم تاب عن ذلك لم تزل توبته عنه القتل .
و كذلك قد اختلف في الزنديق إذا جاء تائباً ، فحكى القاضي أبو الحسن بن القصار في ذ لك قولين :
قال : من شيوخنا من قال : أقتله بإقراره ، لأنه كان يقدر على ستر نفسه ، فلما اعترف خفنا أنه خشي الظهور عليه فبادر لذلك .
و منهم من قال : أقبل توبته ، لأني أستبدل على صحتها بمجيئه ، فكأننا وقفنا على باطنه ، بخلاف من أسرته البينة .
قال القاضي أبو الفضل : و هذا قول أصبغ ، و مسألة ساب النبي صلى الله عليه و سلم أقوى ، لا يتصور فيها الخلاف على الأصل المتقدم ، لأنه حق متعلق للنبي صلى الله عليه و سلم و لأمته بسبه لا تسقطه التوبة كسائر حقوق الآدميين .
و الزنديق إذا تاب بعد القدرة عليه فعند مالك ، و الليث ، و إسحاق ، و أحمد ، لا تقبل توبته .
و عند الشافعي تقبل .
و اختلف فيه أبي حنيفة و أبي يوسف .
و حكى ابن المنذر ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : يستتاب .
قال محمد بن سحنون : و لم يزل القتل عن المسلم بالتوبة من سبه صلى الله عليه و سلم ، لأنه لم ينتقل من دين إلى غيره ، و إنما فعل شيئاً حده عندنا القتل لا عفو فيه لأحد ، كالزنديق ، لأنه لم ينتقل من ظاهر إلى ظاهر .
و قال القاضي أبو محمد بن نصر محتجاً لسقوط اعتبار توبته : و الفرق بينه و ب ين من سب الله تعالى على مشهور القول باستتابته ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم بشر ، و البشر جنس تلحقه المعرة إلا من أكرمه الله بنبوته ، و البارئ تعالى منزه عن جميع المعايب قطعاً ، و ليس من جنس تلحق المعرة بجنسه ، و ليس سبه صلى الله عليه و سلم كالارتداد المقبول فيه التوبة ، لأن الارتداد معنى ينفرد به المرتد ، لا حق فيه لغيره من الآدميين ، فقبلت توبته . و من سب النبي صلى الله عليه و سلم تعلق فيه حق لآدمي ، فكان كالمرتد يقتل حين ارتداده أو يقذف ، فإن توبته لا تسقط عند حد القتل و القذف .
و أيضاً فإن توبة المرتد إذا قبلت لا تسقط ذنوبه من زنا و سرقة و غيرها ، و لم يقتل ساب النبي صلى الله عليه و سلم لكفره ، لكن لمعنى يرجع إلى تعظيم حرمته و زوال المعرة به ، و ذلك لا تسقطه التوبة .
قال القاضي أبو الفضل : يريد ـ و الله أعلم : لأن سبه لم يكن بكلمة تقتضي الكفر ، و لكن بمعنى الإزراء و الإستخفاف ، أو لأن بتوبته و إظهار إنابته ارتفع عنه اسم الكفر ظاهراً ، و الله أعلم بسريرته ، و بقي حكم السب عليه .
[ و قال أبو عمران القابسي : من سب النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم ارتد عن الإسلام قتل و ل م يستتب ، لأن السب من حقوق الآدميين التي لا تسقط عن المرتد ] . و كلام شيوخنا هؤلاء مبني على القول بقتله ، حداً لا كفراً ، و هو يحتاج إلى تفصيل .
و أما على رواية الوليد بن مسلم عن مالك وافقه على ذلك ممن ذكرناه و قال به من أهل العلم ـ فقد صرحوا أنه ردة ، قالوا : و يستتاب منها ، فإن تاب نكل ، و إن أبى قتل ، فحكم له بحكم المرتد مطلقا في هذا الوجه .
و الوجه الأول أشهر و أظهر لما قدمناه ، و نحن نبسط الكلام فيه ، فنقول [ 260 ] :
من لم يره رده فهو يوجب القتل فيه حداً ، و إنما نقول ذلك مع فصلين : إما مع إنكاره ما شهد به عليه ، و إظهاره الإقلاع و التوبة عنه ، فنقتله حداً لثبات كلمة الكفر عليه في حق النبي صلى الله عليه و سلم ، و تحقيره ما عظم الله من حقه ، و أجرينا حكمه في ميرائه ، و غير ذلك حكم الزنديق إذا ظهر عليه و أنكر أو تاب .
فإن قيل : فكيف تثبتون عليه الكفر ، و يشهد عليه [ بكلمة الكفر ] و لا تحكمون عليه بحكمه من الاستتابة و توابعها !
قلنا : نحن و إن أثبتنا له حكم الكافر فلا نقطع عليه بذلك ، لإقراره بالتوحيد و النبوة ، و إنكاره ما شهد به عليه ، أو زعمه أن ذلك كان منه وهلاً و معص يةً ، و أنه مقلع عن ذلك نادم عليه ، و لا يمتنع إثبات بعض أحكام الكفر على بعض الأشخاص و إن لم تثبت له خصائصه ، كقتل الصلاة .
و أما من علم أنه سبه معتقداً استحلاله فلا شك في كفره بذلك .
و كذلك إن كان سبه في نفسه كفر ، كتكذيبه أو تكفيره و نحوه ، فهذا مما لا إشكال فيه ، و يقتل و إن تاب منه ، لأنا لا نقبل توبته ، و نقتله بعد التوبة حداً ، لقوله ، و متقدم كفره ، و أرمه بعد إلى الله المطلع على صحة إقلاعه ، العالم بسره .
و كذلك من لم يظهر التوبة ، و اعتراف بما شهد به عليه ، و صمم عليه ـ فهذا كافر بقوله و باستحلاله . هتك حرمة الله و حرمة نبيه صلى الله عليه و سلم يقتل كافراً بلا خلاف .
فعلى هذه التفصيلات خذ كلام العلماء ، و نزل مختلف عباراتهم في الاحتجاج عليها ، و أجر اختلافهم في الموارثة و غيرها على ترتيبها تتضح لك مقاصدهم إن شاء الله تعالى .

 

فصل
استتابة الساب و الشاتم كالاستتابة للمرتد

 

إذا قلنا بالاستتابة حيث تصح فالاختلاف فيها على الاختلاف في توبة المرتد ، إذ لا فرق .
و قد اختلف السلف في وجوبها و صورتها و مدتها ، فذهب جمهور أهل العلم إلى أن المرتد يستتاب .
و حكى ابن القصار أنه إجماع من الصحابة على تصويب قول عمر في الاستتابة ، و لم ينكره واحد منهم ، و هو قول عثمان ، و علي ، و ابن مسعود ، و به قال عطاء بن أبي رباح ، و النخعي ، و الثوري ، و مالك ، و أصحابه ، و الأوزاعي ، و الشافعي ، و أحمد ، و إسحاق ، و أصحاب الرأي .
و ذهب طاوس ، محمد بن الحسن ، و عبيد بن عمير ، و الحسن في إحدى الروايتين عنه ـ أنه لا يستتاب ، و قاله عبد العزيز بن أبي سلمة ، و ذكره عن معاذ ، و أنكره سحنون عن معاذ ، و حكاه الطحاوي عن أبي يوسف ، و هو قول أهل الظاهر ، قالوا : و تنفعه توبته عند الله ، و لكن لا ندرأ القتل عنه ، لقوله صلى الله عليه و سلم ، من بدل دينه فاقتلوه .
و حكي أيضاً عن عطاء : إن كان ممن ولد في الإسلام لم يستتب ، و يستتاب الإسلامي .
و جمهور العلماء على أن المرتد و المر تدة في ذلك سواء .
و روي عن علي رضي الله عنه : لا تقل المرتدة ، و تسترق ، و قاله عطاء ، و قتادة .
و روي عن ابن عباس : لا تقتل النساء في الردة ، و به قال أبو حنيفة .
قال مالك : و الحر و العبد و الذكر و الأنثى في ذلك سواء .
و أما مدتها فمذهب الجمهور ، و روي عن عمر ، أنه يستتاب ثلاثة أيام يحبس فيها ، و قد [ 261 ] اختلف فيه عن عمر ، و هو أحد قولي الشافعي ، و قول أحمد ، و إسحاق ، و استحسنه مالك ، و قال : لا يأتي الاستظهار إلا بخير ، و ليس عليه جماعة الناس ..
قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد : يريد في الاستثناء ثلاثاً .
و قال مالك أيضاً : أخذ به في المرتد قول عمر : يحبس ثلاثة أيام ، و يعرض عليه كل يوم ، فإن تاب و إلا قتل .
و قال أبو الحسن بن القصار في تأخيره ثلاثاً روايتان عن مالك : هل ذلك واجب أو مستحب ؟ و استحسن الاستتابة و الاستيناء ثلاثاً أصحاب الرأي .
و روي عن أبي بكر الصديق أنه استتاب امرأة فلم تتب فقتلها ، و قاله الشافعي مرة ، فقال : إن لم يتب قتل مكانه . و استحسنه المزني .
و قال الزهري : يدعى إلى الإسلام ثلاث مر ات ، فإن أبى قتل .
و روي عن علي رضي الله عنه : يستتاب شهرين . و قال النخعي : يستتاب أبداً ، و به أخذ الثوري ما رجيت توبته . و حكى ابن القصار عن أبي حنيفة ـ أنه يستتاب ثلاث مرات في ثلاثة أيام أو ثلاث جمع كل يوم أو جمعة مرة .
و في كتاب محمد ، عن القاسم : يدعى المرتد إلى الإسلام ثلاث مرات ، فإن أبى ضربت عنقه .
و اختلف على هذا هل يهدد أو يشدد عليه أيام الاستتابة ليتوب أم لا ؟ فقال مالك : ما علمت في الاستتابة تجويعاً و لا تعطشاً ، و يؤتى من الطعام بما لا يضره .
و قال أصبغ : يخوف أيام الاستتابة بالقتل ، و يعرض عليه الإسلام .
و في كتاب أبي الحسن الطابثي : يوعظ في تلك الأيام ، و يذكر بالجنة ، و يخوف بالنار .
قال أصبغ : و أي المواضع حبس فيها من السجون مع الناس أو وحده إذا استوثق منه سواء ، و يوقف ماله إذا خيف أن يتلفه على المسلمين ، و يطعم منه ، و يسقى .
و كذلك يستتاب كلما رجع و ارتد أبداً ، و قد استتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم نبهان الذي ارتد أربع مرات أو خمساً .
و قال ابن وهب ، عن مالك : يستتاب أبداً كلما رجع ، و هو قول الشافعي ، و أحمد ، و قاله ابن القاسم .
و قال إسحاق : يقتل في الرابعة .
و قال أصحاب الرأي : إن لم يتب في الرابعة قتل دون استتابة ، و إن تاب ضرب ضرباً وجيعاً ، و لم يخرج من السجن حتى يظهر عليه خشوع التوبة .
قال ابن المنذر : و لا نعلم أحداً أوجب على المرتد في المرة الأولى أدباً إذا رجع . و هو على مذهب مالك و الشافعي و الكوفي .

 

فصل
في حكم من لم تتم الشهادة عليه ..

 

هذا حكم من ثبت عليه ذلك بما يجب ثبوته من إقرار أو عدول لم يدفع فيهم ، فأما من لم تتم الشهادة عليه بما شهد عليه الواحد أو اللفيف من الناس ، أو ثبت قوله لكن احتمل و لم يكن صريحاً .
و كذلك إن تاب على القول بقبول توبته فهذا يدرأ عنه القتل ، و يتسلط عليه اجتهاد الإمام بقدر شهرة حاله ، و قوة الشهادة عليه ، و ضعفها ، و كثرة السماع عنه ، و صورة حاله من التهمة في الدين و النبر بالسفه و المجون ، فمن قوي أمره أذاقه من شديد النكال من التضيق في السجن ، و الشد في القيود إلى الغاية التي [ 262 ] هي منتهى طاقته لما لا يمنعه القيام لضرورته ، و لا يقعده عن صلاته ، و هو حكم كل من وجب عليه القتل ، لكن وقف عن قتله لمعنى أوجبه ، و تربص به لإشكال و عائق اقتضاه أمره ، و حالات الشدة في نكاله تختلف بحسب اختلاف حاله .
و قد روى الوليد عن مالك و الأوزاعي أنها ردة ، فإذا تاب نكل .
و لمالك في العتبية و كتاب محمد ، من رواية أشهب : إذا تاب المرتد فلا عقوبة عليه و قاله سحنون .
و أفتى أبو عبد الله بن عتاب فيمن سب النبي صلى الله عليه و سلم ، فشهد عليه شاهدان ع دل أحدهما ـ بالأدب الموجع و التنكيل و السجن الطويل حتى تظهر توبته .
و قال القابسي في مثل هذا : و من كان أقصى أمره القتل فعاق عائق أشكل في القتل لم ينبع أن يطلق من السجن ، و يستطال سجنه ، و لو كان فيه من المدة ما عسى أن يقيم ، و يحمل عليه من القيد ما يطيق .
و قال في مثله ممن أشكل أمره : يشد في القيود شداً ، ، و يضيق عليه في السجن حتى ينظر فيما يجب عليه .
و قال في مسألة أخرى مثلها : و لا تهراق الدماء إلا بالأمر الواضح ، و في الأدب بالسوط و السجن نكال للسفهاء ، و يعاقب عقوبة شديدة ، فأما إن لم يشهد عليه سوى شاهدين ، و أثبت من عداوتهما أو جرحتهما ما أسقطهما عنه ، و لم يسمع ذلك من غيرها فأمره أخف لسقوط الحكم عنه ، و كأنه لم يشهد عليه ، إلا أن يكون مما لا يليق به ذلك ، و يكون الشاهدان من أهل التبريز فأسقطهما بعداوة ، فهو و إن لم ينفذ الحكم عليه بشهادتهما فلا يدفع الظن صدقهما ، و للحاكم هنا في تنكيله موضع اجتهاد .
و الله ولي الإرشاد .

 

فصل
 حكم الذمي إذا صرح بسبه ، أو عرض ..

 

هذا حكم المسلم ، فأما الذمي إذا صرح بسبه أو عرض ، أو استخف بقدره ،
أو وصفه بغير الوجه الذي ، كفر به ـ فلا خلاف عندنا في قتله إن لم يسلم ، لأنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا ، و هو قول عامة الفقهاء ، إلا أبا حنيفة و الثوري و أتباعهما من أهل الكوفة ، فإنهم قالوا : لا يقتل ، ما هو عليه من الشرك أعظم ، و لكن يؤدب و يعزز .
و استدل بعض شيوخنا على قتله بقوله تعالى : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون [ سورة التوبة /9 ، الآية : 12] .
و يستدل عليه أيضاً بقتل النبي صلى الله عليه و سلم لا بن الأشرف و أشباهه ، و لأنا لم نعاهدهم ، و لم نعطهم الذمة على هذا ، و لا يجوز لنا أن نفعل ذلك معهم ، فإذا أتوا ما لم يعطوا عليه العهد و لا الذمة فقد نقضوا ذمتهم ، و صاروا كفاراً يقتلون لكفرهم .
و أيضاً فإن ذمتهم لا تسقط حدود الإسلام عنهم ، من القطع في سرقة أموالهم ، و القتل لمن قتلوه منهم ، و إن كان ذلك حلالاً عندهم فكذلك سبهم النبي صلى الله عليه و سلم يقتلون به .
و وردت لأصحابنا ظ واهر تقتضي الخلاف إذا ذكره الذمي بالوجه الذي كفر به ، ستقف عليها من كلام ابن القاسم و ابن سحنون بعد .
[ 263 ] و حكى أبو المعصب الخلاف فيها عن أصحابه المدنيين . و اختلفوا إذا سبه ثم أسلم ، فقيل : يسقط إسلامه قتله ، لأن الإسلام يجب ما قبله ، بخلاف المسلم إذا سبه ثم تاب ، لأن نعلم باطنه الكافر في بغضه له ، و تنقصه بقلبه ، لكنا منعناه من إظهاره ، فلم يزدنا ما أظهره إلا مخالفة للأمر ، و نقض للعهد ، فإذا رجع عن دينه الأول إلى الإسلام سقط ما قبله ، قال الله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ سورة الأنفال /8 ، الآية : 38 ] .
و المسلم بخلافه ، إذا كان ظننا يباطنه حكم ظاهره ، و خلاف ما بدا منه الأن ، فلم نقبل بعد رجوعه ، و لا استنمنا إلى باطنه ، إذ قد بدت سرائره ، و ما ثبت عليه من الأحكام باقية عليه لا يسقطها شيء .
و قيل : لا يسقط إسلام الذمي الساب قتله ، لأنه حق النبي صلى الله عليه و سلم وجب عليه ، لانتهاكه حرمته ، و قصده إلحاق النقيصة و المعرة به ، فلم يكن رجوعه إلى الإسلام بالذي يسقطه ، كما وجب عليه من حقوق المسلمين من قبل إسلامه منقتل و قذف ، و إذا كنا لا نقبل توبة المسلم فإنا لا نقبل توبة الكافر أولى .
و قال مالك في كتاب ابن حبيب و المبسوط ، و ابن القاسم ، و ابن الماجشون ، و ابن عبد الحكم ، و أصبغ ـ فيمن شتم نبيناً من أهل الذمة أو أحداً من الأنبياء عليهم السلام قتل إلا أن يسلم ، و قاله ابن القاسم في العتبية ، و عند محمد ، و ابن سحنون .
و قال سحنون و أصبغ : لا يقال له أسلم ، و لا لا تسلم ، و لكن إن أسلم فذلك له توبة .
و في كتاب محمد : أخبرنا أصحاب مالك أنه قال : منسب رسول الله صلى الله عليه و سلم أو غيره من الأنبياء من مسلم أو كافر قتل و لم يستتب .
و روي لنا عن مالك : إلا أن يسلم الكافر .
و قد روى ابن وهب ، عن ابن عمر ـ أن راهباً تناول النبي صلى الله عليه و سلم ! فقال ابن عمر : فهلاً قتلتموه ! .
و روى عيسى عن ابن القاسم في ذمي قال : إن محمداً لم يرسل إلينا ، إنما أرسل إليكم ، و إنما نبينا موسى أو عيسى ، و نحو هذا : لا شيء عليهم ، لأن الله تعالى أقرهم على مثله .
و أما إن سبه فقال : ليس بنبي ، أو لم يرسل ، أو لم ينزل عليه القرآن ، و إنما شيء تقوله أو نحو هذا فيق تل .
و قال ابن القاسم : و إذا قال النصراني : ديننا خير من دينكم ، و إنما دينكم دين الحمير ، و نحو هذا من القبيح أو سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمداً رسول الله ،
فقال : كذلك يعطيكم الله ، ففي هذا الأدب الموجع و السجن الطويل .
قال : و أما إن شتم النبي صلى الله عليه و سلم وسلم شتماً يعرف فإنه يقتل إلا أن يسلم ، قاله مالك غير مرة ، و لم يقل يستتاب .
قال ابن القاسم : و محمل قوله عندي إن أسلم طائعاً .
و قال ابن سحنون في سؤالات سليمان بن سالم في اليهودي يقول للمؤذن ، إذا تشهد : كذبت ـ يعاقب العقوبة الموجعة مع السجن الطويل .
و في النوادر من رواية سحنون عنه : من شتم الأنبياء من اليهود و النصارى بغير الوجه الذي به كفروا ضربت عنقه إلا أن يسلم .
قال محمد بن سحنون : فإن قيل : لم قتلته في سب النبي صلى الله عليه و سلم و من دينه سبه و تكذيبه ؟ قيل : لأنا لم نعطهم [264 ] العهد على ذلك ، و لا على قتلنا ، و أخذ أموالنا ، فإذا قتل واحد منا قتلناه ، و إن كان من دينه استحلاله ، فكذلك إظهاره لسب نبينا صلى الله عليه و سلم .
قال سحنون : كما لو بذل لنا أهل الحرب الجزية ع لى اقرارهم على سبه لم يجز لنا ذلك في قول قائل .
و كذلك ينتقص عهد من سب منهم ، و يحل لنا دمه فكما لم يحصن الإسلام من سبه من القتل كذلك لا تحصنه الذمة .
قال القاضي أبو الفضل : ما ذكره ابن سحنون عن نفسه و عن أبيه مخالف لقول ابن القاسم فيما خفف عقوبتهم فيه مما به كفروا ، فتأمله .
و يدل على أنه خلاف ما روي عن المدنيين في ذلك ، فحكى أبو المصعب الزهري ، قال : أتيت بنصراني قال : و الذي اصطفى عيسى على محمد ، فاختلف على فيه ، فضربته حتى قتلته ، أو عاش يوماً و ليلة ، و أمرت من جر برجله ، و طرح على مزبلة ، فأكلته الكلاب .
و سئل أبو المصعب عن نصراني قال : عيسى خلق محمداً . فقال : يقتل .
و قال ابن القاسم : سألنا مالكاً عن نصراني بمصر شهد عليه أنه قال : مسكين محمد ، يخبرك أنه في الجنة ، ماله لم ينفع نفسه ! إذ كانت الكلاب تأكل ساقيه ، لو قتلوه استراح منه الناس .
قال مالك : أرى أن تضرب عنقه .
قال و لقد كدت ألا أتكلم فيها بشيء ، ثم رأيت أنه لا يسعني الصمت .
قال ابن كنانة في المبسوطة : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم من اليهود و النصارى فأرى للإمام أ ن يحرقه بالنار ، و إن شاء قتله ثم حرق جثته ، و إن شاء أحرقه بالنار حياً إذا تهافتوا في سبه .
و قد كتب إلى مالك من مصر ـ مسألة ابن قاسم المتقدمة ، قال : فأمرني مالك ، فكتبت بأن يقتل ، و أن يضرب عنقه ، فكتبت ،ثم قلت : يا أبا عبد الله ، و أكتب : ثم يحرق بالنار ؟ فقال كان إنه لحقيق بذلك ، و ما أولاه به .
فكتبته بيدي بين يديه ، فما أنكره و لا عابه ، و نفذت الصحيفة بذلك فقتل و حرق .
و أفتى عبيد الله ابن يحيى و ابن لبابة في جماعة سلف أصحابنا الأندلسيين بقتل نصرانية استهلت بنفي الربوبية و بنوة عيسى الله ، و بتكذيب محمد في النبوة ، و بقبول إسلامها و درأ القتل عنها به .
و به قال غير واحد من المتأخرين منهم القابسي ، و ابن الكتاب .
و قال أبو القاسم بن الجلاب في كتابه : من سب الله ورسوله من مسلم أو كافر قتل و لا يستتاب .
و حكى القاضي أبو محمد في الذمي يسب ـ روايتين في درء القتل عنه بإسلامه .
و قال ابن سحنون : و حد القذف و شبهه من حقوق العباد لا يسقطه عن الذمي إسلامه ، و إنما يسقط عنه بإسلامه حدود الله .
فأما حد القذف فحق للعباد ، كان ذلك لنبي أو غيره ، فأوجب على الذمي إذا قذف النبي صلى الله عليه و سلم ثم أسلم حد القذف .
و لكن انظر ماذا يجب عليه ؟ هل حد القذف في حق النبي صلى الله عليه و سلم ، و هو القتل لزيادة حرمة النبي صلى الله عليه و سلم على غيره ، أم هل يسقط القتل بإسلامه ، و يحد ثمانين ؟ فتأمله . 

 

فصل
من ميراث من قتل بسبب النبي ، و غسله ، و الصلاة عليه

 

اختلف العلماء في ميراث من قتل بسبب النبي صلى الله عليه و سلم ، فذهب سحنون إلى أنه لجماعة المسلمين من قبل أن شتم النبي صلى الله عليه و سلم كفر يشبه كفر الزندقة .
و قال أصبغ : ميراثه لورثته من المسلمين إن كان مستسراً بذلك ، و إن كان مظهراً له مستهلاً به فميراثه للمسلمين ، و يقتل على كل حال و لا يستتاب .
و قال أبو الحسن القابسي : إن قتل و هو منكر للشهادة عليه فالحكم في ميراثه على ما أظهره من إقراره ـ يعني لورثته ، و القتل حد ثبت عليه ليس من الميراث في شيء .
و كذلك لو أقر بالسب و أظهر التوبة لقتل ، إذ هو حده . و حكمه في ميراثه ، و سائر أحكامه حكم الإسلام .
و لو أقر بالسب ، و تمادى عليه ، و أبى التوبة منه ، فقتل على ذلك كان كافراً ، و ميراثه للمسلمين ، و لا يغتسل و لا يصلى عليه ، و لا يكفن و تستر عورته ، و يوارى كما يفعل بالكفار .
و قول الشيخ أبي الحسن في المجاهرالمتمادي بين لا يمكن الخلاف فيه ، لأنه كافر مرتد غير تائب مقلع .
و هو مثل قول أصبغ ، و كذلك في كتاب ابن سحنون في الزنديق يتمادى على قوله .
و مثله لابن القاسم في العتبية و لجماعة من أصحاب مالك في كتاب ابن حبيب فيمن أعلن كفره مثله .
قال ابن القاسم : و حكمه حكم المرتد لا يرثه ورثته من المسلمين ، و لا من أهل الدين الذي ارتد إليه ، و لا تجوز وصاياه و لا عتقه ، و قاله أصبغ ، قتل على ذلك أو مات عليه .
و قال أبو محمد بن أبي زيد : و إنما يختلف في ميراث الزنديق الذي يستهل بالتوبة ، فلا تقبل منه ، فأما المتمادي فلا خلاف أنه لا يورث .
و قال أبو محمد فيمن سب الله تعالى ثم مات و لم تعدل عليه بينة ، أو لم تقبل : إنه يصلى عليه .
و روى أصبغ عن ابن القاسم في كتاب ابن حبيب فيمن كذب برسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أعلن ديناً مما يفارق به الإسلام ـ أن ميراثه للمسلمين .
و قال بقول مالك : إن ميراث المرتد للمسلمين ، و لا ترثه ورثته ـ ربيعة ، و الشافعي ، و أبو ثور ، و ابن أبي ليلى ، و اختلف فيه عن أحمد .
و قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، و ابن مسعود ، و ابن المسيب ، و الحسن ، و الشعبي ، و عمر بن عبد العزيز ، و الحكم ، و الأوزاعي ، و الليث ، و إسحاق ، و أبو حنيفة ـ ترثه ورثته من المسلمين .
و قيل ذلك فيما كسبه قبل ارتداده ، و ما يكسبه في الإرتداد فللمسلمين .
قال القاضي أبو الفضل : و تفصيل أبي الحسن في باقي جوابه حسن بين ، و هو على رأي أصبغ ، و خلاف قول سحنون ، و اختلافهما على قولي مالك في ميراث الزنديق ، فمرة ورثه ورثته من المسلمين قامت بذلك بينة فأنكرها ، أو اعترف بذلك و أظهر التوبة .
و قاله أصبغ ، و محمد بن مسلمة ، و غير واحد من أصحابه ، لأنه مظهر للإسلام بإنكاره أو توبته ، و حكمه حكم المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و روى ابن نافع عنه في العتبية ، و كتاب محمد ـ أن ميراثه لجماعة المسلمين ، لأن ماله تبع لدمه .
و قال به أيضاً جماعة من أصحابه ، و قاله أشهب ، و المغيرة ، و عبد الملك ، و محمد ، و سحنون .
و ذهب [ 266 ] ابن القاسم في العتبية إلى أنه إن اعترف بما شهد عليه به و تاب فقتل فلا يورث . و إن لم يقر حتى قتل أو مات ورث .
قال : و كذلك كل من أسر كفراً فإنهم يتوارثون بوراثة الإسلام .
و سئل أبو القاسم ابن الكا تب عن النصراني يسب النبي صلى الله عليه و سلم فيقتل ، هل يرثه أهل دينه أم المسلمون ؟
فأجاب بأنه للمسلمين ليس على جهة الميراث ، لأنه لا توارث بين أهل ملتين ، و لكن لأنه من فيئهم ، لنقضه العهد ، و هذا معنى قوله و اختصاره .


الباب الثالث

 

في حكم من سب الله تعالى و ملائكته و كتبه ، و أنبياءه ، و آل النبي و أزواجه وصحبه

 

لا خلاف أن ساب الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم . و اختلف في استتابته ، فقال ابن القاسم في المبسوط ، و في كتاب ابن سحنون ، و محمد ، و رواه ابن القاسم عن مالك في كتاب إسحاق بن يحيى : من سب الله تعالى من المسلمين قتل و لم يستتب إلا أن يكون افتراء على الله بارتداده إلى دين دان به و أظهره فيستتاب ، و إن لم يظهره لم يستتب .
و قال في المبسوطة مطرف و عبد الملك مثله .
و قال المخزومي ، و محمد بن سلمة ، و ابن أبي حازم : لا يقتل المسلم بالسب حتى يستتاب .
و كذلك اليهودي و النصراني ، فإن تابوا قبل منهم ، و إن لم يتوبوا قتلوا و لا بد من الاستتابة ، و ذلك كله كالردة ، و هو الذي حكاه القاضي بن نصر عن المذهب .
و أفتى أبو محمد بن أبي زيد فيما حكي عنه في رجل لعن رجلاً و لعن الله ، فقال : إنما أردت أن ألعن الشيطان فزل لساني ، فقال : يقتل بظاهر كفره ، و لا يقبل عذره .
و أما فيما بينه و بين الله تعالى فمعذور .
و اختلف فقهاء قرطبة في مسألة هارون بن حبيب أخي عبد الملك الفقيه ، و كان ضيق الصدر ، كثير التبرم ، و كان قد شهد عليه بشهادات ، منها أنه قال عند استقلاله من مرض : لقيت في مرضى هذا ما لو قتلت أبا بكر و عمر لم أستوجب هذا كله .
فأفتى إبراهيم بن حسين بن خالد بقتله ، و أن مضمن قوله تجوير لله تعالى و تظلم منه ، و التعريض فيه كالتصريح .
و أفتى أخوه عبد الملك بن حبيب ، و إبراهيم بن حسين بن عاصم ، و سعيد بن سليمان القاضي بطرح القتل عنه ، إلا أن القاضي رأى عليه التثقيل في الحبس ، و الشدة في الأدب ، لاحتمال كلامه ، و صرفه إلى التشكي ، فوجه من قال في ساب الله بالاستتابة ـ إنه كفر و ردة محضة لم يتعلق بها حق لغير الله ، فأشبه قصد الكفر بغير سب الله ، و إظهار الانتقال إلى دين آخر من الأديان المخالفة للإسلام .
و وجه ترك استتابته أنه لما ظهر منه ذلك بعد إظهار الإسلام قبل اتهمناه و ظننا أن لسانه لم ينطق به إلا و هو معتقد له ، إذ لا يتساهل في هذا أحد ، فحكم له بحكم الزنديق ، و لم تقبل توبته ، و إذا انتقل من دين إلى آخر ، و أظهر السب بمعنى الارتداد فهذا قد أعلم أنه خلع ربقة الإسلام من عنقه ، بخلاف الأول [ 267 ] المتمسك به ، و حكم هذا حكم ا لمرتد : يستتاب على مشهور مذاهب أكثر أهل العلم ، و هو مذهب مالك و أصحابه على ما بيناه قبل ، و ذكرنا الخلاف في فصوله .

 

فصل
حكم من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به

 

و أما من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به ليس على طريق السب و لا الردة و قصد الكفر ، و لكن على طريق التأويل و الاجتهاد و الخطأ المفضي إلى الهوى و البدعة ، من تشبيه أو نعت بجارحة أو نفي صفة كمال ، فهذا مما اختلف السلف ، و الخلف في تكفير قائله و معتقده .
و اختلف قول مالك و أصحابه في ذلك ، و لم يختلفوا في قتالهم إذا تحيزوا فئةً ، و أنهم يستتابون ، فإن تابوا و إلا قتلوا و إنما اختلفوا في المنفرد منهم ، و أكثر قول مالك و أصحابه ترك القول بتكفيرهم ، و ترك قتلهم ، و المبالغة في عقوبتهم ، و إطالة سجنهم ، حتى يظهر إقلاعهم ، و تستبين توبتهم ، كما فعل عمر رضي الله عنه بصبيغ .
و هذا قول محمد بن المواز في الخوارج و عبد الملك بن الماجشون ، و قول سحنون في جميع أهل الأهواء ، و به فسر قول مالك في الموطأ ، و ما رواه عن عمر بن عبد العزيز و جده و عمه ، من قولهم في القدرية يستتابون ، فإن تابوا و إلا قتلوا .
و قال عيسى عن ابن القاسم ـ في أهل الهواء من الإباضية و القدرية و شبههم ممن خالف الجماعة من أهل البدع و التحريف ، لتأويل كتاب الله : يستتابون أظهروا ذلك أو أسروه . فإن تابوا إلا قتلوا ، و ميراثهم لورثتهم .
و قال مثله أيضاً ابن القاسم في كتاب محمد في أهل القدر و غيرهم ، قال : و استتابتهم أن يقال لهم : اتركوا ما أنتم عليه .
و مثله له في المبسوط في الإباضية و القدرية و سائر أهل البدع ، قال : و هم مسلمون ، و إنما قتلوا لرأيهم السوء ، و بهذا عمل عمر بن عبد العزيز .
قال ابن القاسم : من قال : إن الله لم يكلم موس تكليماً استتيب ، فإن تاب و إلا قتل .
و ابن حبيب و غيره من أصحابنا يرى تكفيرهم و تكفير أمثالهم من الخوارج و القدرية و المرجئة .
و قد روي أيضاً عن سحنون مثله فيمن قال : ليس لله كلام ، إنه كافر .
و اختلفت الروايات عن مالك ، فاطلق في رواية الشاميين : أبي مسهر ، و مروان ابن محمد الطاطري الكفر عليهم ، و قد شوور في زواج القدري ، فقال : لا تزوجه ، قال الله تعالى : ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 221 ] .
و قال : من وصف شيئاً من ذات الله تعالى ، و أشار إلى شيء من جسده : يد ، أو سمع ، أو بصر ، قطع ذلك منه ، لأنه شبه الله بنفسه .
و قال فيمن قال : ا لقرآن مخلوق ـ كافر فاقتلوه .
و قال أيضاً ـ في رواية ابن نافع ـ يجلد ، و يوجع ، ضرباً ، و يحبس حتى يتوب .
و في رواية بشر بن بكر التنيسي عنه : يقتل و لا تقبل توبته .
قال القاضي أبو عبد الله البرنكاني ، و القاضي أبو عبد الله التستري من أئمة العراقيين : جوابه مختلف ، يقتل المستبصر الداعية .
و على هذا الخلاف اختلف قوله في إعادة الصلاة خلفهم .
و حكى ابن المنذر ، عن الشافعي : لا [ 268 ] يستتاب القدري .
و أكثر أقوال السلف تكفيرهم ، و ممن قال به الليث ، و ابن عيينة و ابن لهيعة ، و روي عنهم ذلك فيمن قال بخلق القرآن ، و قاله ابن المبارك ، و الأودي ، و وكيع ، و حفص بن غياث ، و أبو إسحاق الفزاري ، و هشيم ، و علي بن عاصم في آخرين ، و هو من قول أكثر المحدثين و الفقهاء و المتكلمين فيهم و في الخوارج و القدرية و أهل الأهواء المضلة و أصحاب البدع المتأولين ، و هو قول أحمد بن حنبل ، و كذلك قالوا في الواقفة و الشاكة في هذه الأصول .
و ممن روي عن معنى القول الآخر بترك تكفيرهم علي بن أبي طالب ، و ابن عمر ، و الحسن البصري ، و هو رأي جماعة من الفقهاء و النظار و المتكلمين ، و احتجوا بتو ريث الصحابة و التابعين ورثة أهل حروراء ، و من عرف بالقدر ممن مات منهم ، و دفنهم في مقابر المسلمين ، و جري أحكام الإسلام عليهم .
قال إسماعيل القاضي : و إنما قال مالك في القدرية و سائر أهل البدع : يستتابون ، فإن تابوا و إلا قتلوا ، لأنه من الفساد في الأرض ، كما قال في المحارب : إن رأى الإمام قتله ، و إن لم يقتل ، قتله ، و فساد المحارب إنما هو في الأموال و مصالح الدنيا ، و إن كان قد يدخل أيضاً في أمر الدين من سبيل الحج و الجهاد ، و فساد أهل البدع معظمه على الدين ، و قد يدخل في أمر الدنيا بما يلقون بين المسلمين من العداوة .


فصل
في تحقيق القول في إكفار المتأولين

 

قد ذكرنا مذاهب السلف في إكفار أهل البدع و الأهواء المتأولين ممن قال قولاً يؤديه مساقه إلى كفر ، و هو إذا وقف عليه لا يقول بما يؤديه قوله إليه .
و على اختلافهم اختلف الفقهاء و المتكلمون في ذلك ، فمنهم من صوب التكفير الذي قال به الجمهور من السلف ، و منهم من أباه و لم ير إخراجهم من سواد المؤمنين ، و هو قول أكثر الفقهاء و المتكلمين ، و قالوا : هم فساق عصاة ضلال ، و نوارثهم من المسلمين ، و نحكم لهم بأحكامهم ، و لهذا قال سحنون : لا إعادة على من صلى خلفهم ، قال : و هو قول جميع أصحاب مالك [ كلهم ] : المغيرة ، و ابن كنانة ، و أشهب ، قال : لأنه مسلم ، و ذنبه لم يخرجه من الإسلام .
و اضطرب آخرون في ذلك ، و وقفوا على القول بالتكفير وضده . و اختلاف قولي مالك في ذلك ، و توقفه عن إعادة الصلاة خلفهم منه و إلى نحو من هذا ذهب القاضي أبو بكر إمام أهل التحقيق و الحق ، و قال : إنها من المعوصات ، إذا القوم لم يصرحوا بالكفر ، و إنما قالوا قولاً يؤدي إليه .
و اضطرب قوله في المسألة على نحو اضطراب قول إمامه مالك بن أنس حتى قال في بعض كلامه : إن هم على رأي من كفرهم بالتأويل لا تحل مناكحتهم ، و لا أكل ذبائحهم ، و لا الصلاة على ميتهم .
و يختلف في موارثتهم على الخلاف في ميراث المرتد .
و قال أيضاً : نورث ميتهم ورثتهم من المسلمين ، و لا نورثهم هم من المسلمين ، و أكثر ميله إلى تركه التكفير بالمآل ، و كذلك اضطراب فيه قول شيخه أبي الحسن الأشعري ، و أكثر قوله ترك التكفير ، و أن الكفر خصلة واحدة ، و هو الجهل [ 269 ] بوجود الباري تعالى .
و قال مرةً : من اعتقد أن الله جسم ، أو المسيح ، أو بعض من يلقاه في الطرق ، فليس بعارف به و هو كافر .
و لمثل هذا ذهب أبو المعالي رحمه الله في أجوبته لأبي محمد عبد الحق ، و كان سأله عن المسالة ، و اعتذر له بأن الغلط فيها يصعب ، لأن إدخال كافر في الملة ، أو إخراج مسلم عنها عظيم في الدين .
و قال غيرهما من المحققين : الذي يجب الاحتراز من التكفير في أهل التأويل ، فإن استبحاة الموحدين خطأ ، و الخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد .
و قد قال صلى الله عليه و سلم : فإذا قالوها ـ يعني الشهادة ـ عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها ، و حسابهم على الله .
فالعصمة مقطوع بها من الش هادة ، و لا ترتفع و يستباح خلافها إلا بقاطع ، و لا قاطع من شرع و لا قياس عليه .
و ألفاظ الأحاديث الواردة في الباب معرضة للتأويل ، فما جاء منها في التصريح بكفر القدرية ، و قوله : لا سهم لهم في الإسلام ، و تسميته الرافضة بالشرك ، و إطلاق اللعنة عليهم ، و كذلك في الخوارج و غيرهم من أهل الأهواء ، فقد يحتج بها من يقول بالتفكير ، و قد يجيب الآخر عنها بأنه قد ورد في الحديث مثل هذه الألفاظ في غير الكفرة على طريق التغليط ، و كفر دون كفر ، و إشراك دون إشراك .
و قد ورد مثله في الرياء و عقوق الوالدين ، و الزوج ، و الزور ، و غير معصية .
و إذا كان محتملاً للأمرين فلا يقطع على أحدهما إلا بدليل قاطع .
و قوله في الخوارج : هم من شر البرية ، و هذه صفة الكفار .
و قال : شر قبيل تحت أديم السماء ، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه .
و قال : فإذا وجدتموهم فاقتلوهم قتل عاد .
فظاهر هذا الكفر لا سيما مع تشبيههم بعاد ، فيحتج به من يرى تكفيرهم ، فيقول له الآخر : إنما ذلك من قتلهم لخروجهم على المسلمين و بغيهم عليهم ، بدليل من الحديث نفسه : يقتلون أهل الإسلام ، فقتلهم ها هنا حد لا كفر .
و ذكر عاد تشبيه للقتل و حله لا للمقتول ، و ليس كل من حكم بقتله يحكم بكفره . و يعارضه بقول خالد في الحديث : دعني أضرب عنقه يا رسول الله . فقال : لعله يصلي .
فإن احتجوا بقوله صلى الله عليه و سلم : يقروؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم ـ فأخبر أن الإيمان لم يدخل قلوبهم .
و كذلك قوله : يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، ثم لا يعودون إليه حق يعود السهم على فوقه .
و بقوله : سبق الفرث و الدم يدل على أنه لم يتعلق من الإسلام بشيء .
أجابه الآخرون : إن معنى لا يجاوز حناجرهم : لا بفهمون معانيه بقلوبهم ، و لا تنشرح له صدورهم ، و لا تعمل به جوارحهم ، و عارضوهم بقوله ، و يتمارى في الفوق .
و هذا يقتضي التشكك في حاله .
و احتجوا بقول أبي سعيد الخدري في هذا الحديث : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يخرج في هذه الأمة ـ و لم يقل : من هذه [ 270 ] ، و تحرير أبي سعيد الرواية ، و إتقانه اللفظ .
أجابهم الآخرون بأن العبارة : في لا تقتضي تصريحاً بكونهم من غير الأمة ، بخلاف لفظة من التي هي للتبعيض . و كونهم من الأمة مع أنه قد روي عن أبي ذر ، و علي ، و أبي أمامة و غيرهم في هذا الحديث : يخرج من أمتي و سيكون من أمتي ، و حروف المعاني مشتركة ، فلا تعويل على إخراجهم من الأمة ب [ في ] ، و لا على إدخالهم فيها ب [ من ] ، لكن أبا سعيد رضي الله عنه أجاد ما شاء في التنبيه الذي نبه عليه . و هذا مما يدل على سعة فقه الصحابة و تحقيقهم للمعاني و استنباطها من الألفاظ ، و تحريرهم لها ، و توقيهم في الرواية هذه المذاهب المعروفة لأهل السنة .
و لغيرهم من الفرق فيها مقالات كثيرة مضطربة سخيفة ، أقر بها قول جهم و محمد بن شبيب : إن الكفر بالله الجهل به ، لا يكفر أحد بغير ذلك .
و قال أبو الهذيل : إن كل متأول كان تأويله تشبيهاً لله بخلقه ، و تجويراً له في فعله ، و تكذيباً لخبره فهو كافر .
و كل من أثبت شيئاً قديماً لا يقال له الله فهو كافر .
و قال بعض المتكلمين : إن كان ممن عرف الأصل و بنى عليه ، و كان فيما هو من أوصاف الله فهو كافر ، و إن لم يكن من هذا الباب ففاسق ، إلا أن يكون ممن لم يعرف الأصل فهو مخطئ غير كافر .
و ذهب عبيد الله بن الحسن العنبري إلى تصويب أقوال المجتهدين في أصول الدين فيما كان عرضه للتأويل ، و فارق في ذلك فرق الأمة ، إذ أجمعوا سواه على أن الحق في أصول الدين في واحد ، و المخطئ فيه آثم عاص فاسق . و إنما الخلاف في تكفيره .
و قد حكى القاضي أبو بكر الباقلاني مثل قول عبيد الله عن داود الأصبهاني ،
قال : و حكى قوم عنهما أنهما قالا ذلك في كل من علم الله سبحانه من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق من أهل ملتنا أو من غيرهم .
و قال نحو هذا القول الجاحظ ، و ثمامة ، في أن كثيراً من العامة و النساء و البله و مقلدة النصارى و اليهود و غيرهم لا حجة لله عليهم ، إذ لم تكن لهم طباع يمكن معها الاستدلال .
و قد نحا الغزالي من هذا المنحى في كتاب التفرقة .
و قائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من النصارى و اليهود و كل من فارق دين المسلمين ، أو وقف في تكفيرهم ، أو شك .
قال القاضي أبو بكر : لأن التوقيف و الإجماع على كفرهم ، فمن وقف في ذلك فقد كذب النص ، و التوقيف ، أو شك فيه . و التكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر .


فصل
في بيان ما هو من المقالات كفر ، و ما يتوقف أو يختلف فيه ، و ما ليس بكفر

 

اعلم أن تحقيق هذا الفصل و كشف اللبس فيه مورده الشرع ، و لا مجال للعقل فيه ، و الفصل البين في هذا أن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية أو الوحدانية أو عبادة أحد غير الله ، أو مع الله ـ فهو كفر ، كمقالة الدهرية ، و سائر فرق أصحاب الاثنين من الديصانية أو المانوية و أشباههم من الصائبين و النصارى و المجوس [ 271 ] ، و الذين أشركوا بعبادة الأوثان أو الملائكة ، أو الشياطين ، أو الشمس ، أو النجوم أو النار أو أحد غير الله من مشركي العرب ، و أهل الهند و الصين و السودان و غيرهم ممن لا يرجع إلى كتاب .
و كذلك القرامطة و أصحاب الحلول و التناسخ من الباطنية و الطيارة من الرافضة و الجناحية و البيانية و الغرابية .
و كذلك من اعترف بإلالهية الله و وحدانيته ، و لكنه اعتقد أنه غير حي أو غير قديم ، و أنه محدث أو مصور ، أو ادعى له ولداً أو صاحبة أو والداً ، أو أنه متولد من شيء أو كائن عنه ، أو أن معه في الأزل شيئاً قديماً غيره ، أو أن ثم صانعاً للعالم سواه ، أو مدبراً غيره ، فذلك كله كفر بإجماع المسلمين ، كقول الإلهيين من الفلاسفة و ا لمنجمين و الطبائعيين . و كذلك من ادعى مجالسة الله ، و العروج إليه ، و مكالمته ، أو حلوله في أحد الأشخاص ، كقول بعض المتصوفة و الباطنية ، و النصارى ، و القرامطة .
و كذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم ، أو بقائه ، أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة و الدهرية ، أو قال بتناسخ الأرواح و انتقالها أبد الآباد في الأشخاص ، و تعذيبها أو تنعيمها فيها بحسب زكائها و خبثها . و كذلك من اعترف بالإلهية و الوحدانية ، و لكنه جحد النبوة من أصلها عموماً ، أو نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم خصوصاً ، أو أحد من الأنبياء الذين نص الله عليهم بعد علمه بذلك ، فهو كافر بلا ريب ، كالبراهمة ، و معظم اليهود و الأروسية من النصارى ، و الغرابية من الروافض الزاعمين أن علياً كان المبعوث إليه جبريل ، و كالمعطلة و القرامطة و الإسماعيلية و العنبرية من الرافضة ، و إن كان بعض هؤلاء قد أشركوا في كفر آخر مع من قبلهم .
و كذلك من دان بالوحدانية و صحة النبوة ، و نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم ، و لكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به ، ادعى في ذلك المصلحة بزعمه أو لم يدعها فهو كافر بإجماع ، كالمتفلسفين ، و بعض الباطنية ، و ا لروافض ، و غلاة المتصوفة ، و أصحاب الإباحة ، فإن هؤلاء زعموا أن ظواهر الشرع ، و أكثر ما جاءت به الرسل من الأخبار عما كان و يكون من أمور الآخرة و الحشر و القيامة ، و الجنة و النار ، ليس منها شيء على مقتضى لفظها و مفهوم خطابها ، و إنما خاطبوا بها الخلق على جهة المصلحة لهم ، إذ لم يمكنهم التصريح لقصور أفهامهم ، فمضمن مقالاتهم إبطال الشرائع ، و تعطيل الأوامر و النواهي ، و تكذيب الرسل ، و الإرتياب فيما أتوا به .
و كذلك من أضاف إلى نبينا صلى الله عليه و سلم تعمد الكذب فيما بلغه و أخبر به ، أو شك في صدقه ، أو سبه ، أو قال : إنه لم يبلغ ، أواستخف به ، أو بأحد من الأنبياء ، أو أزرى عليهم ، أو آذاهم ، أو قتل نبياً ، أو حاربه ، فهو كافر بإجماع .
و كذلك نكفر من ذهب مذهب القدماء في أن في كل جنس من الحيوان نذيراً أو نبياً من القردة و الخنازير و الدواب و الدود . و يحتج بقوله تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . إذ ذلك يؤدي إلى أن يوصف أنبياء هذه الأجناس بصفاتهم المذمومة . و فيه من الإزراء على هذا المنصب [ 272 ] المنيف ما فيه ، مع إجماع المسلمين على خلافه ، وتكذيب قائله .
وكذلك نكفر من ا عترف من الأصول الصحيحة بما تقدم ، و بنبوة نبينا صلى الله عليه و سلم ، و لكن قال : كان أسود ، أو مات قبل أن يلتحي ، و ليس الذي كان بمكة و الحجاز ، أو ليس بقرشي ، لأن وصفه بغير صفاته المعلومة نفي له و تكذيب به .
وكذلك من ادعى نبوة أحد مع نبينا صلى الله عليه و سلم أو بعده ، كالعيسوية من اليهود القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب ، و كالخرمية القائلين بتواتر الرسل ، وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة علي في الرسالة للنبي صلى الله عليه و سلم و بعده ، وكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة و الحجة ، و كالبزيعية و البيانية منهم القائلين بنيوة بزيع و بيان و أشباه هؤلاء . أو من ادعى النبوة لنفسه ، أو جوز اكتسابها و البلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها ، كالفلاسفة و غلاة المتصوفة .
و كذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه و إن لم يدع النبوة ، أو أنه يصعد إلى السماء و يدخل إلى الجنة ، و يأكل من ثمارها ، و يعانق الحور العين ، فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي صلى الله عليه و سلم ، لأنه أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه خاتم النبيين ، لا نبي بعده . و أخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين ، و أنه أرسل كافة للناس .
و أجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره ، و أن مفهومه المراد منه دون تأويل و لا تخصيص ، فلا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعاً إجماعاً و سمعاً .
و كذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب ، أو خص حديثاً مجمعاً على نقله مقطوعاً به ، مجمعاً على حمله على ظاهره ، كتكفير الخوارج بإبطال الرجم ، و لهذا نكفر من دان بغيرملة المسلمين من الملل ، أو وقف فيهم ، أو شك ، أو صحح مذهبهم ، و إن أظهر مع ذلك الإسلام ، و اعتقده ، و اعتقد إبطال كل مذهب سواه ، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك .
و كذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة و تكفير جميع الصحابة ، كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه و سلم ، إذ لم تقدم علياً . و كفرت علياً ، إذ لم يتقدم و يطلب حقه في التقديم ، فهؤلاء قد كفروا من وجوه ، لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها ، إذ قد انقطع نقلها و نقل القرآن ، إذ ناقلوه كفرة على زعمهم ، و إلى هذا ـ و الله أعلم ـ أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة .
ثم كفروامن وجه آخر بسبهم النبي صلى الله عليه و سلم على مقتضى قولهم و زعمهم أنه عهد إلى علي رضي الله عنه و هو يعلم انه يكفر بعده على قولهم ، لعنة الله عليهم ، و صلى الله على رسوله و آله .
و كذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر من كافر و إن كان صاحبه مصرحاً بالإسلام مع فعله ذلك الفعل ، كالسجود للصنم ، و للشمس و القمر ، و الصليب و النار ، و السعي إلى الكنائس و البيع مع أهلها بزيهم : من شد الزنانير ، و فحص الرؤوس ، فقد أجمع المسلمون أن هذا [ الفعل ] لا يوجد [ 273 ] إلا من كافر ، و أن هذه الأفعال علامة على الكفر و إن صرح فاعلها بالإسلام .
و كذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه ، كأصحاب الإباحة من القرامطة و بعض غلاة المتصوفة .
و كذلك نقطع بتكفير كل من كذب و أنكر قاعدة من قواعد الشرع ، و ما عرف يقيناً بالنقل المتواتر من فعل الرسول ، و وقع الإجماع المتصل عليه ، كمن أنكر وجوب الخمس الصلوات أو عدد ركعاتها و سجداتها ، و يقول : إنما أوجب الله علينا في كتابه الصلاة على الجملة ، و كونها خمساً ، و على هذه الصفات و الشروط لا أعلمه ، إذ لم يرد فيه في القرآن نص جلي ، و الخبر به عن الرسول صلى الله عليه و سلم خبر و احد .
و كذلك أجمع المسلمون على تكفير من قال من الخوارج : إن الصلاة طرفي النهار ، و على تكفير الباطنية في قولهم : إن الفرائض أسماء رجال أمروا بولايتهم ، و الخبائث و المحارم أسماء رجال أمروا بالبراء منهم .
و قول بعض المتصوفة : إن العبادة و طول المجاهدة إذا صفت نفوسهم أفضت بهم إلى إسقاطها و إباحة كل شيء لهم ، و رفع عهد الشرائع عنهم .
و كذلك إن أنكر منكر مكة ، أو البيت ، أو المسجد الحرام ، أو صفة الحج ، أو قال : الحج واجب في القرآن ، و استقبال القبلة كذلك ، و لكن كونه على هذه الهيئة المتعارفة ، أن تلك البقعة هي مكة و البيت و المسجد الحرام ، لا أدري هي تلك أو غيرها ، و لعل الناقلين أن النبي صلى الله عليه و سلم فسرها بهذه التفاسير غلطوا و وهموا ، فهذا و مثله لا مرية في تكفيره إن كان ممن يظن به علم ذلك ، و ممن يخالط المسلمين ، [ و امتدت صحبته لهم، إلا أن يكون حديث عهد بإسلام ، فيقال له : سبيلك أن تسأل عن هذا الذي لم تعلمه بعد كافة المسلمين ] ، فلا تجد بينهم خلافاً ، كافة ًعن كافة ، إلى معاصري الرسول صلى الله عليه و سلم ـ أن هذه الأمور كما قيل لك ، و أن تلك البقعة هي مكة و البيت الذي فيها هو الكعبة ، و القبلة التي صلى لها الرسول صلى الله عليه و سلم و المسلمون ، و حجوا إليها ، و طافوا بها ، و ان تلك الأفعال هي صفة عبادة الحج ، و المراد به ، و هي التي فعلها النبي صلى الله عليه و سلم و المسلمون ، و أن صفات الصلاةالمذكورة هي التي فعل النبي صلى الله عليه و سلم ، و شرح مراد الله بذلك ، و أبان حدودها ، فيقع لك العلم كما وقع لهم ، و لا ترتاب بذلك بعد ، و المرتاب في ذلك ، أو المنكر بعد البحث و صحبة المسلمين كافر باتفاق ، لا يعذر بقوله : لا أدري ، و لا يصدق فيه ، بل ظاهره التستر عن التكذيب ، إذ لا يمكن أنه لا يدري .
و أيضاً فإنه إذا جوز على جميع الأمة الوهم و الغلط فيما نقلوه من ذلك ، و أجمعوا أنه قول الرسول و فعله و تفسير مراد الله به ـ أدخل الاسترابة في جميع الشريعة ، إذ هم الناقلون لها و للقرآن ، و انحلت عرا الدين كرةً ، و من قال هذا كافر .
و كذلك من أنكرالقرآن ، أو حرفاً منه ، او غيره شيئاً منه ، أو زاد فيه ، كفعل الباطنية و الإسماعيلي ، أو زعم أنه ليس بحجة للنبي صلى الله عليه و سلم [ 274 ] ، أو ليس فيه حجة و لا معجزة ، كقول هشام الفوطي ، و معمر الضمري : إنه لا يدل على الله ، و لا حجة فيه لرسوله ، و لا يدل على ثواب و لا عقاب ، و لا حكم ، و لا محالة في كفرهما بذلك القول .
و كذلك تكفيرهما بإنكارهما أن يكون في سائر معجزات النبي صلى الله عليه و سلم حجة له ، أو في خلق السموات و الأرض دليل على الله ، لمخالفتهم الإجماع و النقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم باحتجاجه بهذا كله و تصريح القرآن به .
و كذلك من أنكر شيئاً مما نص فيه القرآن ـ بعد علمه ـ أنه من القرآن الذي في أيدي الناس و مصاحف المسلمين ، و لم يكن جاهلاً به ، و لا قريب عهد بالإسلام ، و احتج لإنكاره إما بأنه لم يصح النقل عنده ، و لا بلغه العلم به ، أو لتجويزه الوهم على ناقليه ، فنكفره بالطريقين المتقدمين ، لأنه مكذب [ للقرآن ، مكذب ] للنبي صلى الله عليه و سلم ، لكنه تستر بدعواه .
و كذلك من أنكر الجنة أو النار ، أو البعث أو الحساب أو القيامة فهو كافر بإجماع للنص عليه ، و إجماع الأمة على صحة نقله متواتراً ، و كذلك من اعتراف بذلك ، و لكنه قال : إن المراد بالجنة و النار ، و الحشر و النشر ، و الثواب و العقاب ـ معنى غير ظاهره ، و إنها لذات روحانية، و معان باطنة ، كقول النصارى و الفلاسفة و الباطنية و بعض المتصوفة ، و زعمهم أن معنى القيامة الموت أو فناء محض ، و انتقاض هيئة الأفلاك ، و تحليل العالم ، كقول بعض الفلاسفة .
و كذلك نقطع بتكفير غلاة الرافضة في قولهم : إن الأئمة أفضل من الأنبياء .
فأما من أنكر ما عرف بالتواتر من الأخبار و السير و البلاد التي لا ترجع إلى إبطال شريعة ، و لا تفضي إلى إنكار قاعدة من الدين ، كإنكار غزوة تبوك أو مؤتة ، أو وجود أبي بكر و عمر ، أو قتل عثمان ، و خلافة علي ، مما علم بالنقل ضرورة ، و ليس في إنكاره جحد شريعة ، فلا سبيل إلى تكفيره بجحد ذلك ، و إنكاره وقوع العلم له ، إذ ليس في ذلك أكثر من المباهتة ، كإنكار هشام و عباد وقعة الجمل ، و محاربة علي من خالفه .
فأما إن ضعف ذلك من أجل تهمة الناقلين ، و وهم المسلمين أجمع ، فنكفره بذلك لسريانه إلى إبطال الشريعة .
فأما من أنكر الإجماع المجرد الذي ليس طريقه النقل المتواتر عن الشارع فأكثر المتكلمين من الفقهاء و النظار في هذا الباب قالوا بتكفيركل من خالف الإجماع الصحيح الجامع لشروط الإجماع المتفق عليه عموماً .
و حجتهم قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونص له جهنم وساءت مصيرا [ سورة النساء / 4 ، الآية : 115 ] .
و قوله صلى الله عليه و سلم : من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه . و حكوا الإجماع على تكفير من خالف الإجماع .
و ذهب آخرون إلى الوقوف عن القطع بتكفير من خالف الإجماع [ الذي يختص بنقله العلماء .
و ذهب آخرون إلى التوقف في تكفير من خالف الإجماع ] الكائن عن نظر ، كتكفير النظام بإنكاره الإجماع ، لأنه بقوله هذا مخالف إجماع السلف على احتجاجهم به ، خارق للإجماع .
قال القاضي أبو بكر : القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده ، و الإيمان بالله [ 275 ] هو العلم بوجوده ، و أنه لا يكفر أحد بقول و لا رأي إلا أن يكون هو الجهل بالله ، فإن عص بقول أو فعل نص الله و رسوله ، أو أجمع المسلمون ، أنه لا يوجد إلا من كافر ، أو يقوم دليل على ذلك ، فقد كفر ، ليس لأجل قوله أو فعله ، لكن لما يقارنه من الكفر ، فالكفر بالله لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور : أحدها الجهل بالله تعالى . و الثاني أن يأتي فعلاً أو يقول قولاً يخبر الله و رسوله ، أو يجمع المسلمون ، أن ذلك لا يكون إلا من كافر ، كالسجود للصنم ، و المشي إلى الكنائس بالتزام الزنار مع أصحابها في أعيادهم ، أو أن يكون ذلك القول أو الفعل لا يمكن معه العلم بالله تعالى .
قال : فهذان الضربان ، وإن لم يكونا جهلاً بالله فهما علم أن فاعلهما كافر منسلخ من الإيمان ، فأما من نفى صفة من صفات الله تعالى الذاتية ، أو جحدها مستبصراً في ذلك ، كقوله : ليس بعالم ولا قادر ولا مريد ولا متكلم ، وشبه ذلط من صفات الكمال الواجبة له تعالى ، فقد نص أئمتنا على الإجماع على كفر من نفى عنه تعالى الوصف بها ، وأعراه عنها .
وعلى هذا حمل قول سحنون : من قال : ليس لله كلام ، فهو كافر ، و هو لا يكفر المتأولين كما قدمناه .
فأما من جهل صفة من هذه الصفات فاختلف العلماء ها هنا ، فكفره بعضهم ، وحكي ذلك عن أبي جعفر الطبري و غيره ، و قال به أبو الحسن الأشعري مرة .
و ذهبت طائفة إلى أن هذا لا يخرجه عن اسم الإيمان ، و إليه رجع الأشعري ، قال : لأنه لم يعتقد ذلك اعتقاداً يقطع بصوابه ، ويراه ديناً وشرعاً وإنما نكفر من اعتقد أن مقاله حق .
واحتج هؤلاء بحديث السوداء ، وأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما طلب منها التوحيد لا غير ، وبحديث القائل : لئن قدر الله علي ـ وفي رواية فيه : لعلي أضل الله
. ثم قال : فغفر الله له .
قالوا : ولو بوحث أكثر الناس عن الصفات وكوشفوا عنها لما وجد من يعلمها إلا الأقل .
وقد أجاب الآخر عن هذا الحديث بوجوه ، منها أن قدر بمعنى قدر ، ولا يكون شكه في القدرة على إحيائه ، بل في نفس البعث الذي لا يعلم إلا بشرع ، و لعله ورد عندهم به شرع يقطع عليه ، فيكون الشك به حينئذ فيه كفراً .
فأما ما لم يرد شرع فهو من مجوزات العقول ، أو يكون قدر بمعنى ضيق ، و يكون ما فعله إزراء عليها و غضباً لعصيانها .
و قيل : قال ما قاله و هو غير عاقل لكلامه و لا ضابط للفظه مما استولى عليه من الجزع والخشية التي أذهبت لبه ، فلم يؤاخذ به .
[ و قيل : كان هذا في زمن الفترة ، و حيث ينفع مجرد التوحيد ] .
و قيل : بل هذا من مجاز كلام العرب الذي صورته الشك ، و معناه التحقيق ، و هو يسمى تجاهل العارف ، و له أمثلة في كلامهم ، كقوله تعالى : لعله يتذكر أو يخشى . و قوله : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ سورة سبأ / 34 ، الآية : 24 ] .
فأما من أثبت الوصف و نفى الصفة فقال : أقول عالم و لكن لا علم له ، و متكلم و لكن لا كلام له . و هكذا في سائر الصفات على مذهب المعتزل ة [ 276 ] : فمن قال بالمآل لما يؤديه إليه قوله ، و يسوقه إليه مذهبه ـ كفره ، لأنه إذا نفى العلم انتفى وصف عالم ، إذ لا يوصف بعالم إلا من له علم فكأنهم صرحوا عنده بما أدى إليه قوله لهم . و هكذا عند هذا سائر فرق أهل التأويل من المشبهة و القدرية و غيرهم .
و من لم ير أخذهم بمآل قولهم ، و لا ألزمهم موجب مذهبهم ، لم ير إكفارهم ، قال : لأنهم إذا وقفوا على هذا قالوا : لا نقول ليس بعالم ، و نحن ننتفي من القول بالمآل الذي ألزمتوه لنا ، و نعتقد نحن و أنتم أنه كفر ، بل نقول : إن قولنا لا يؤول إليه على ما أصلناه .
فعلى هذين المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل ، و إذا فهمته اتضح لك الموجب لاختلاف الناس في ذلك .
و الصواب ترك إكفارهم و الإعراض عن الحتم عليهم بالخسران و إجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم و وراثاتهم ، و مناكحاتهم ، و دياتهم ، و الصلاة عليهم ، و دفنهم في مقابر المسلمين ، و سائر معاملاتهم ، لكنهم يغلط عليهم بوجيع الأدب ، و شديد الزجر و الهجر ، حتى يرجعوا عن بدعتهم .
و هذه كانت سيرة الصدر الأول فيهم ، فقد كان نشأ على زمان الصحابة و بعدهم في التابعين من قال بهذه الأقوال من القد ر و رأى الخوارج و الاعتزال ، فما أزاحو لهم قبراً ، و لا قطعوا لأحد منهم ميراثاً ، لكنهم هجروهم و أدبوهم بالضرب و النفي و القتل على قدر أحوالهم ، لأنه فساق ضلال عصاة أصحاب كبائر عند المحققين و أهل السنة ممن لم يقل بكفرهم منهم خلافاً لمن رأى غير ذلك . و الله الموفق للصواب . قال القاضي أبو بكر و أما مسائل الوعد و الوعيد ، و الرؤية و المخلوق ، و خلق الأفعال ، و بقاء الأعراض ، و التولد و شبهها من الدقائق ـ فالمنع في إكفار المتأولين فيها أوضح ، إذ ليس في الجهل بشيء منها جهل بالله تعالى ، و لا أجمع المسلمون على إكفار من جهل شيئاً منها .
و قد قدمنا في الفصل قبله من الكلام و صورة الخلاف في هذا ما أغنى عن إعادته بحول الله تعالى .

 

فصل
في حكم الساب إذا كان ذميا

 

هذا حكم المسلم الساب لله تعالى . و أما الذمي فروي عن عبد الله بن عمر في ذمي تناول من حرمه الله تعالى غير ما هو عليه من دينه ، و حاج فيه ، فخرج ابن عمر عليه بالسيف فطلبه فهرب .
و قال مالك في كتاب ابن حبيب و المبسوطة و ابن القاسم في المبسوط ، و كتاب محمد و ابن سحنون : من شتم الله من اليهود و النصارى بغير الوجه الذي به كفروا قتل و لم يستتب .
قال ابن القاسم : إلا أن يسلم . قال في المبسوطة : طوعاً .
قال أصبغ : لأن الوجه الذي به كفروا هو دينهم ، و عليه عوهدوا من دعوى الصاحبة و الشريك و الولد .
و أما غير هذا من الفرية و الشتم فلم يعاهدوا عليه ، فهو نقض للعهد .
قال ابن القاسم في كتاب محمد : و من شتم من غير أهل الأديان الله تعالى بغير الوجه الذي ذكر في كتابه قتل إلا أن يسلم .
و قال المخزومي في المبسوطة ، و محمد بن سلمة ، و ابن أبي حازم : لا يقتل حتى يستتاب مسلماً كان أو كافراً ، فإن تاب و إلا قتل [ 277 ] .
و قال مطرف و عبد الملك مثل قول مالك .
و قال أبو محمد بن أبي زي د : من سب الله تعالى بغير الوجه الذي به كفر قتل إلا أن يسلم .
و قد ذكرنا قول ابن الجلاب قبل ، و ذكرنا قول عبيد الله ، و ابن لبابة ، و شيوخ الأندلسيين في النصرانية و فتياهم بقتلها لسبها ، بالوجه الذي كفرت به ، لله و للنبي ، و إجماعهم على ذلك ، و هو نحو القول الآخر فيمن سب النبي صلى الله عليه و سلم منهم بالوجه الذي كفر به ، و لا فرق في ذلك بين سب الله و سب نبيه ، لأنا عاهدناهم على ألا يظهروا لنا شيئاً من كفرهم ، و ألا يسمعونا شيئاً من ذلك ، فمتى فعلوا شيئاً منه فهو نقض لعهدهم .
و اختلف العلماء في الذمي إذا تزندق ، فقال مالك ، و مطرف ، وابن عبد الحكم ، و أصيغ : لا يقتل ، لأنه خرج من كفر إلى كفر .
و قال عبد الملأ بن الماجشون : يقتل لأنه دين لا يقر عليه أحد ، و لا تؤخذ عليه جزية .

 

فصل
في مفترى الكذب على الله تبارك و تعالى بادعاء الإلهية

 

هذا حكم من صرح بسبه و إضافة ما لا يليق بجلاله و إلاهيته ، فأما مفتري الكذب عليه تبارك و تعالى بادعاء الإلاهية أو الرسالة أو النافي أن يكون الله خالقه أو ربه ، أو قال : ليس رب ، أو المتكلم بما لا يعقل من ذلك في سكره أو غمرة جنونه فلا خلاف في كفر قائل ذلك و مدعيه مع سلامة عقله كما قدمنا ، لكنه تقبل توبته على المشهور ، و تنفعه إنابته ، و تنجيه من القتل فيئته ، لكنه لا يسلم من عظيم النكال ، و لا يرفه عن شديد العقاب ، ليكون ذلك زجراً لمثله عن قوله ، و له عن العودة لكفره أو جهله ، إلا من تكرر منه ذلك ، و عرف استهانته بما أتى به ، فهو دليل على سوء طويته ، و كذب توبته ، و صار كالزنديق الذي لا نأمن باطنه ، و لا نقبل رجوعه . و حكم السكران في ذلك حكم الصاحي .
و أما المجنون و المعتوه فما علم أنه قاله من ذلك في حال غمرته و ذهاب ميزه بالكلية فلا نظر فيه ، و ما فعله من ذلك في حال ميزه و إن لم يكن معه عقله و سقط تكليفه أدب على ذلك لينزجر عنه ، كما يؤدب على قبائح الأفعال ، و يوالى أدبه على ذلك حتى يكف عنه ، كما تؤدب البهيمة على سوء الخلق حتى تراض .
و قد حرق علي بن أبي طالب رضي الله عنه من ادعى له الإلهية ، و قد قتل عبد الملك بن مروان الحارث المتنبي و صلبه ، و فعل ذلك غير واحد من الخلفاء و الملوك بأشباههم .
و أجمع علماء و قتهم على صواب فعلهم ، و المخالف في ذلك من كفرهم كافر .
و أجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية و قاضي قضاتها أبو عمر المالكي على قتل الحلاج و صلبه ، لدعواه الإلهية ، و القول بالحلول ، و قوله : أن الحق ، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة ، و لم يقبلوا توبته .
و كذلك حكموا في ابن أبي الغراقيد ، و كان على نحو مذهب الحلاج بعد هذا أيام الراضي بالله ، و قاضي قضاة بغداد يومئذ أبو الحسين بن أبي عمر [ 278 ] المالكي .
و قال ابن عبد الحكم في المبسوط : من تنبأ قتل .
و قال أبو حنيفة و أصحابه : من حجد أن الله تعالى خالقه أو ربه ، أو قال : ليس لي رب ، فهو مرتد .
و قال ابن القاسم في كتاب ابن حبيب ، و محمد في العتيبة فيمن تنبأ يستتاب أسر ذلك أو أعلنه ، و هو كالمرتد .
و قال سحنون و غيره ، و قاله أشهب في يهودي تنبأ ، و ادعى أنه رسول إلينا إن كان معلناً بذلك استتيب ، فإن تاب و إل ا قتل .
و قال أبو محمد بن أبي زيد فيمن لعن بارئه ، و ادعى أن لسانه زل ، و إنما أراد لعن الشيطان ـ يقتل بكفره ، و لا يقبل عذره .
و هذا على القول الآخر من أنه لا تقبل توبته .
و قال أبو الحسن القابسي في سكران ، قال : أنا الله ، أنا الله ، إن تاب أدب ، فإن عاد إلى مثل قوله طولب مطالبة الزنديق ، لأن هذا كفر المتلاعبين .


فصل
فيمن تكلم بسقط القول و سخف اللفظ ، ممن لم يضبط كلامه

 

و أما من تكلم من سقط القول و سخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه و أهمل لسانه بما يقتضي الاستخاف بعظمة ربه و جلالة مولاه ، أو تمثل في بعض الأشياء ببعض ما عظم الله من ملكوته ، أو نزع من الكلام لمخلوق بما لا يليق إلا في حق خالقه غير قاصد للكفر و الاستخفاف ، و لا عامد للإلحاد ، فإن تكرر هذا منه ، وعرف به ، دل على تلاعبه بدينه ، و استخفافه بحرمة ربه ، و جهله بعظيم عزته و كبريائه ، و هذا كفر لا مرية فيه .
و كذلك إن كان ما أورده يوجب الاستخفاف و التنقص لربه .
و قد أفتى ابن حبيب و أصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بابن أخي عجب ، و كان خرج يوماً ، فأخذه المطر ، بدأ الخراز يرش جلوده .
و كان بعض الفقهاء بها : أبو زيد صاحب الثمانية ، و عبد الأعلى بن وهب ، و أبان بن عيسى ، قد توقفوا عن سفك دمه ، و أشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب .
و أفتى بمثله القاضي حينئذ موسى بن زياد ، فقال ابن حبيب : دمه في عنقي ، أيشتم رب عبدناه ، ثم لا ننتصر له ، إنا إذاً لعبيد سوء ، و ما نحن له بعابدين ، و بكى و رفع المجلس إلى الأمير بها عبد الرح من بن الحكم الأموي .
و كان عجب عمة هذا المطلوب من حظاياه ، و أعلم باختلاف الفقهاء ، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول ابن حبيب و صاحبه ، و أمر بقتله ، فقتل و صلب بحضرة الفقهين ، و عزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة ، و وبخ بقية الفقهاء و سبهم .
و أما من صدرت عنه من ذلك الهنة الواحدة و الفلتة الشاردة ، ما لم تكن تنقصاً و إزراء ـ فيعاقب عليها و يؤدب بقدر مقتضاها و شنعة معناها ، و صورة حال قائلها ، و شرح سببها و مقارنها .
و قد سئل ابن القاسم رحمه الله عن رجل نادى رجلاً باسمه ، فأجابه : لبيك ، اللهم لبيك .
قال : إن كان جاهلاً ، أو قاله على وجه سفه فلا شيء عليه .
قال : القاضي أبو الفضل : و شرح قوله أنه لا قتل عليه ، و الجاهل يزجر و يعلم ، و السفيه يؤدب ، و لو قالها على اعتقاد إنزاله منزلة ربه لكفر [ 279 ] .
هذا مقتضى قوله .
و قد أسرف كثير من سخفاء الشعراء و متهميهم في هذا الباب ، و استخفوا عظيم هذه الحرمة ، فأتوا من ذلك بما ننزه كتابنا و لساننا و أقلامنا عن ذكره ، و لولا أنا قصدنا نص مسائل حكيناها ما ذكرنا شيئاً مما يثقل ذكره علينا مما حكيناه في هذه الفصول .
فأما ما ورد في هذا من أهل الجهالة و أغاليط اللسان ، كقوله بعض الأعراب :
رب العباد ما لنا و مالكا      قد كنت تسقينا فما بدا لكا
أنزل علينا الغيث لا أبا لكا
في أشباه لهذا من كلام الجهال .
و من لم يقومه ثقاف تأديب الشريعة و العلم في هذا الباب ، فقل ما يصدر إلا من جاهل يجب تعليمه و زجره و الإغلاط له عن العودة إلى مثله .
قال أبو سليمان الخطابي : و هذا تهور من القول ، ، و الله منزه عن هذه الأمور .
و قد روينا عن بن عبد الله أنه قال : ليعظم أحدكم ربه أن يذكر اسمه في كل شيء حتى يقول : أخزي الله الكلب ، و فعل به كذا و كذا .
قال : و كان بعض من أدركنا من مشايخنا قل ما يذكر اسم الله تعالى إلا فيما يتصل بطاعته . و كان يقول للإنسان : جزيت خيراً . و قل ما يقول : جزاك الله خيراً ، إعظاماً لاسمه تعالى أن يمتهن في غيره قربة .
و حدثنا الثقة أن الإمام أبا بكر الشاشي كان يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم فيه تعالى و في ذكر صفاته ، إجلالاً لاسمه تعالى و يقول : هؤلاء يتمندلون بالله عز و جل .
و ينزل الكلام في هذا الباب تنزيله في باب ساب النبي صلى الله عليه و سلم على الوجوه التي فصلناها . و الله الموفق .

 

فصل
في حكم من سب سائر أنبياء الله تعالى و ملائكته و استخف بهم أو كذبهم

 

و حكم من سب سائر أنبياء الله تعالى و ملائكته ، و استخف بهم أو كذبهم فيما أتوا به ، أو أنكرهم و جحدهم ، و حكم نبينا صلى الله عليه و سلم على مساق ما قدمناه ، قال الله تعالى : إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا [ سورة النساء / 4 ، الآيتان : 150 ، 151 ] .
و قال تعالى : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 136 ] .
و قال : كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 285 ] .
قال مالك في كتاب ابن حبيب و محمد ، و قال ابن القاسم ، و ابن الماجشون و ابن عبد الحكم و أصبغ و سحنون فيمن شتم الأنبياء أو أحداً منهم أو تنقصه قتل و لم يستتب . و من سبهم من أهل الذمة قتل إلا أن يسلم .
و روى سحنون عن ابن القاسم : من سب الأنبياء من اليهود أو النصارى بغير الوجه الذي بي كفر ضرب عنقه إلا أن يسلم .
و قد تقدم الخلاف في هذا الأصل .
و قال القاضي بقرطبة سعيد ابن سليمان في بعض أجوبته : من سب الله و ملائكته قتل .
و قال سحنون : من شتم ملكاً من الملائكة فعليه القتل .
و في النوادر عن مالك فيمن قال : إن جبريل أخطأ بالوحي ، و إنما كان النبي علي بن أبي طالب استتيب ، فإن تاب و إلا قتل .
و نحوه عن سحنون [ 280 ] . و هذا قول الغرابية من الروافض ، سموا بذلك لقولهم : كان النبي صلى الله عليه و سلم أشبه بعلي من الغراب بالغراب .
و قال أبو حنيفة و أصحابه على أصلهم : من كذب بأحد من الأنبياء ، أو تنقص أحداً منهم ، أو برىء منه فهو مرتد .
و قال أبو الحسن القابسي في الذي قال لآخر ، كأنه وجه مالك القضبان ، لو عرف أنه قصد ذم الملك قتل .
قال القاضي أبو الفضل : و هذا كله فيمن تكلم فيهم بما قلناه علىجملة الملائكة و النبيين ، أو على معين ممن حققنا كونه من الملائكة و النبيين ممن نص الله عليه في كتابه ،أو حققنا علمه بالخبر المتواتر ، و ال مشتهر المتفق عليه بالإجماع القاطع ، كجبريل ، و ميكائيل ، و مالك ، و خزنة الجنة ، و جهنم و الزبانيه ، و حملةالعرش المذكورين في القرآن من الملائكة ، و من سمي فيه من الأنبياء ، و كعزرائيل ، و إسرافيل ، و رضوان ، و الحفظة ، و منكر و نكير من الملائكة المتفق على قبول الخبر بهما ، فأما من لم تثبت الأخبار بتعينه ، و لا وقع الإجماع على كونه من الملائكة أو الأنبياء ، كهاروت و ماروت في الملائكة و الخضر ، و لقمان ، و ذي القرنين ، و مريم ، و آسية ، و خالد ابن سنان المذكور أنه نبي أهل الرس ، و زرادشت الذي يدعي المجوس المؤرخون نبوته ، فليس الحكم في سابهم و الكافر بهم كالحكم فيمن قدمناه إذ لم تثبت لهم تلك الحرمة ، و لكن يزجر من تنقصهم وآذاهم ، و يؤدب بقدر حال المقول فيهم ، لا سيما من عرفت صديقيته و فضله منهم ، و إن لم تثبت نبوته .
و أما إنكار نبوتهم أو كون الآخر من الملائكة فإن كان المتكلم في ذلك من أهل العلم فلا حرج لا ختلاف العلماء في ذلك ، و إن كان من عوام الناس زجر عن الخوض في مثل هذا ، فإن عاد أدب ، إذ ليس لهم الكلام في مثل هذا .
و قد كره السلف الكلام في مثل هذا مما ليس تحته عمل لأهل العل م ، فكيف للعامة .

 

فصل
في حكم من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء فيه ، أو سبهما

 

اعلم أن من استخف بالقرآن أو الصحف أو بشيء منه ، أو سبهما ،أو جحده ، أو حرفاً منه أو آية أو كذب به أو بشيء منه ،أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر ، أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك ، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع ، قال الله تعالى : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ سورة فصلت /41 ، الآية : 42 ] .
حدثنا الفقيه أبو الوليد هشام بن أحمد رحمه الله ، حدثنا أبو علي ، حدثنا ابن عبد البر ، حدثنا ابن عبد المؤمن ، حدثنا ابن داسة ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : المراء في القرآن كفر ، تؤول بمعنى الشك و بمعنى الجدال و عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه و سلم من جحد آية من كتاب الله من المسلمين فقد حل ضرب عنقه و كذلك إن جحد التوراة و الإنجيل و كتب الله المنزلة ،أو كفر بها ، أو لعنها ، أو سبها ،أو استخف بها فهو كافر .
و قد [281 ] أجمع المس لمون أن القرآن المتلو في جمبع أقطار الأرض المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين ، مما جمعه الدفتان من أول الحمد لله رب العالمين إلى آخر : قل أعوذ برب الناس أنه كلام الله و وحيه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه و سلم ، و أن جميع ما فيه حق ، و أن من نقص منه حرفاً قاصداً لذلك ،أو بدله بحرف آخر مكانه ، أو زاد فيه حرفاً مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه ، و أجمع على انه ليس من القرآن عامداً لكل هذا ـ أنه كافر .
و لهذا رأى مالك قتل من سب عائشة رضي الله عنها بالفرية ، لأنه خالف القرآن ، و من خالف القرآن قتل ، لأنه كذب بما فيه .
و قال ابن القاسم كان منا إن الله تعالى لم يكلم موسى تكليماً يقتل ، و قاله عبد الرحمن بن مهدي .
و قال محمد بن سحنون فيمن قال : المعوذتان ليستا من كتاب الله يضرب عتقه إلا أن يتوب .
و كذلك كل من كذب بحرف منه . قال : و كذلك إن شهد شاهد على من قال : إن الله لم يكلم موسى تكليماً ، و شهد آخر عليه أنه قال : إن الله ما اتخذ إبراهيم خليلاً ، لأنهما اجتمعا علىأنه كذب النبي صلى الله عليه و سلم .
و قال أبو عثمان بن الحداد : جميع من ينت حل التوحيد متفقون أن الجحد لحرف من التنزيل كفر .
و كان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل له ليس كما فرأت ، و يقول : أما أنا فأقرأ كذا ، فبلغ ذلك إبراهيم ، فقال : أراه سمع أنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله .
و قال أصبغ بن الفرج كان من كذب ببعض القرآن فقد كذب به كله ، و من كذب به فقد كفر به و من كفر به فقد كفر با الله .
و قد سئل القابسي عمن خاصم يهودياً فحلف له بالتوراة ، فقال الآخر لعن الله التوراة ، فشهد عليه بذلك شاهد ، ثم شهد آخر أنه سأله عن القضية فقال : إنما لعنت توراة اليهود ، فقال أبو الحسن : الشاهد الواحد لا يوجب القتل ، و الثاني علق الأمر بصفة تحتمل التأويل ، إذ لعله لا يرى اليهود متمسكين بشيء من عند الله لتبديلهم و تحريفهم .
و لو اتفق الشاهدان على لعن التوراة مجرداً لضاق التأويل .
و قد اتفق فقهاء بغداد على استتابه ابن شنبوذ المقريءأحد أئمة المقرئين المتصدرين بها مع ابن مجاهد ، لقراءته و إقرائه بشواذ من الحروف مما ليس في المصحف ، و عقدوا عليه بالرجوع عنه و التوبة عنه سجلا أشهد فيه بذلك على نفسه في مجلس الوزير أبي علي بن مقلة سنة ثلاث و عشرين و ثلاثمائة ، و ك ان فيمن أفتى عليه بذلك أبو بكر الأبهري و غيره .
و أفتى أبو محمد بن أبي زيد بالأدب فيمن قال لصبي : لعن الله معلمك و ما علمك . قال : أردت سوء الأدب ، و لم أرد القرآن .
قال أبو محمد : و أما من لعن المصحف فإنه يقتل .


فصل
في حكم ساب آل بيت النبي

 

و سب آل بيته و أزواجه و أصحابه صلى الله عليه و سلم و تنقصهم حرام ملعون فاعله .
حدثنا القاضي الشهيدأبو علي رحمه الله ، حدثنا أبو الحسين [ 282 ] الصيرفي و أبو الفضل العدل ، حدثنا أبو يعلى ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا ابن محبوب ، حدثنا الترمذي ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا عبيدة بن أبي رابطة ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن عبد الله بن مغفل ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله ، الله في أصحابي ، قيل لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، و من أبغضهم فببغضي أبغضهم ، و من آذاهم فقد آذاني ، و من آذاني فقد آذى الله ، و من آذى الله يوشك أن يأخذه .
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تسبوا أصحابي ، فمن سبهم فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً و لا عدلاً .
و قال صلى الله عليه و سلم : لا تسبوا أصحابي ، فإنه يجيء قوم في آخر الزمان يسبون أصحابي فلا تصلوا عليهم ، و لا تصلوا معهم ، و لا تناكحوهم ، و لا تجالسوهم ، وإن مرضوا فلا تعودوهم .
وعنه صلى الله عليه و سلم : من سب أصحابي فاضربوه .
وقد أعلم النبي صلى الله عليه و سلم أن سبهم وأذاهم يؤذيه ، وأذى النبي صلى الله عليه و سلم حرام ، فقال : لا تؤذوني في أصحابي ، و من آذاهم فقد آذاني .
و قال : لا تؤذوني في عائشة .
و قال ـ في فاطمة : بضعة مني يؤذيني ما آذاها .
و قد اختلف العلماء في هذا ، فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع ؟ قال مالك رحمه الله : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم قتل ، ومن شتم أصحابه أدب .
و قال أيضاً : من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : أبا بكر ، أو عمر ، أو عثمان ، أو معاوية ، أو عمرو بن العاص ، فإن قال : كانوا على ضلال وكفر قتل ، و إن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً .
و قال ابن حبيب : من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان و البراءة منه أدب أدباً شديداً ، و من زاد إلى بعض أبي بكر و عمر فالعقوبة عليه أشد ، و يكرر ضربه ، و يطال سجنه حتى يموت ، و لا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه و سلم .
و قال سحنون : من كفر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : علياً ، أو عثمان ، أو غيرهما ـ يوجع ضربا ً .
وحكى أبو محمد بن أبي يزيد ، عن سحنون : من قال في أبي بكر و عمر و عثمان و علي : إنهم كانوا على ضلالة و كفر قتل . و من شتم غيرهم من الصحابة بمثل ذلك نكل النكال الشديد .
وروي عن مالك : من سب أبا بكر جلد ، و من سب عائشة قتل . قيل له : لم ؟ قال : من رماها فقد خالف القرآن .
و قال ابن شعبان عنه : لأن الله يقول : يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ، فمن عاد لمثله فقد كفر .
وحكى أبو الحسن الصقلي أن القاضي أبا بكر بن الطيب قال : إن الله تعالى إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه ، كقوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه ... في آي كثيرة .
و ذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال : ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ـ سبح نفسه في تبرئتها من السوء ، كما سبح نفسه في تبرئته من السوء .
[283 ] و هذا يشهد لقول مالك في قتل من سب عائشة .
و معنى هذا ، و الله أعلم ، أن الله ، لما عظم سبها كما عظم سبه ، و كن سبها سباً لنبيه ، و قرن سب نبيه و أذاه بأذاه تعالى ، و كان حكم مؤذيه تعالى القت ل كان مؤذي نبيه كذلك كما قدمناه .
و شتم رجل عائشة بالكوفة ، فقدم إلى موسى بن عيسى العباسي ، فقال : من حضر هذا ؟ فقال ابن أبي ليلى : أنا ، فجلده ثمانين ، وحلق رأسه ، وأسلمه إلى الحجامين .
[ وروي عن عمر بن الخطاب أنه نذر قطع لسان عبيد الله بن عمر ، إذ شتم المقداد بن الأسود ، فكلم في ذلك ، فقال : دعوني أقطع لسانه حتى لا يشتم أحد بعد أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ] .
وروى أبو ذر الهروي أن عمر بن الخطاب أتي بأعرابي يهجو الأنصار ، فقال : لولا أن له صحبة لكفيتموه .
قال مالك : من انتقص أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فليس له في هذا الفيء حق ، قد قسم الله الفيء في ثلاثة أنصاف ، فقال : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [ سورة الحشر/ 59 ، الآية : 8 ] .
ثم قال : والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ سورة الحشر / 59 ، الآية : 9 ] .
و هؤلاء هم الأنصار .
ثم قال : والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [ سورة الحشر / 59 ، الآية : 10 ] .
فمن تنقصهم فلا حق له في فيء المسلمين .
و في كتاب ابن شعبان : من قال في واحد منهم إنه ابن زانية وأمه مسلمة حد عند بعض أصحابنا حدين : حداً له ، و حداً لأمه ، و لا أجعله كقاذف الجماعة في كلمة لفضل هذا على غيره ، و لقوله صلى الله عليه و سلم : من سب أصحابي فاجلدوه ، قال : و من قذف أم أحدهم و هي كافرة حد حد الفرية ، لأنه سب له ، فإن كان أحد من ولد هذا الصحابي حياً قام بما يجب له ، و إلا فمن قام به من المسلمين كان على الإمام قبول قيامه ، قال : و ليس هذا كحقوق غير الصحابة لحرمة هؤلاء بنبيهم صلى الله عليه و سلم ، و لو سمعه الإمام ، و أشهد عليه ، كان ولي القيام به ، قال : و من سب غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم ففيها قولان :
أحدهما : يقتل ، لأنه سب النبي صلى الله عليه و سلم بسب حليلته .
و الآخر : أنها كسائر الصحابة ، يجلد حد المفتري ، ، قال : و بالأول أقول .
و روى أبو مصعب ، عن مالك ـ فيمن انتسب إلى بيت النبي صلى الله عليه و سلم يضرب ضرباً وجيعاً ، ويشهر ، ويحبس طويلاً حتى تظهر توبته ، لأنه استخفاف بحق الرسول صلى الله عليه و سلم .
و أفتى أبو المطرف الشعبي فقيه مالقة في رجل أنكر تلحيف امرأة بالليل ، و قال : لو كانت بنت أبي بكر الصديق ما حلفت إلا بالنهار ، و صوب قوله بعض المتسمين بالفقه ، فقال أبو المطرف : ذكر هذا لابنة أبي بكر في مثل هذا يوجب عليه الضرب الشديد و السجن الطويل .
و الفقيه الذي صوب قوله أحق باسم الفسق من اسم الفقه ، فيتقدم له في ذلك ، و يزجر ، و لا تقبل فتواه ولا شهادته ، و هي جرحة ثابتة فيه ، و يبغض في الله .
[ و قال أبو عمران في رجل قال : لو شهد علي أبو بكر الصديق : أنه إن كان في مثل هذا لا يجوز فيه الشاهد الوحد ، فلا شيء عليه ، و إن كان أراد غير هذا فيضرب ضرباً يبلغ به حد الموت ] ، و ذكروها رواية .
قال القاضي أبو الفضل : هنا انتهى القول بنا فيما حررناه [ 284 ] ، و انتجز الغرض الذي انتحيناه ، و استوفى الشرط الذي شرطناه ، مما أرجو أن يكون في كل قسم منه للمريد مقنع ، و في كل باب منهج إلى بغيته و منزع .
و قد سفرت فيه عن نكت تستغرب و تستبدع ، و كرعت في مشارب من التحقيق لم يورد لها قبل في أكثر التصانيف مشرع ، و أودعته غير ما فصل ، وددت لو وجدت من بسط قبلي الكلام فيه ، أو مقتدى يفيدنيه عن كتاب أو فيه ، لأكتفي بما أرويه عما أرويه .
و إلى الله تعالى جزيل الضراعة في المنة بقبول ما منه لوجهه ، و العفو عما تخلله من تزين و تصنع لغيره ، و أن يهب لنا ذلك بجميل كرمه و عفوه لما أو دعناه من شرف مصطفاه ، و أمين وحيه ، و أسهرنا به جفوننا لتتبع فضائله ، و أعملنا فيه خواطرنا من إبراز خصائصه و وسائله ، و يحمي أعراضنا عن ناره الموقدة لحمايتنا كريم عرضه ، و يجعلنا
ممن لا يذاد إذا ذيد المبدل عن حوضه ، و يجعله لنا و لمن تهمم باكتتابه و اكتسابه سبباً يصلنا بأسببابه ، و ذخيرة نجدها يوم تجد كل نفس ما عملت من خير و حضراً نحوز بها رضاه ، و جزيل ثوابه ، و يخصنا بخصيصي زمرة نبينا وجماعته ، و يحشرنا في الرعيل الأول و أهل الباب الأيمن من أهل شفاعته ، و نحمده تعالى على ما هدى إليه من جمعه و ألهم ، و فتح البصيرة لدرك حقائق ما أودعناه و فهم ، و نستعيذه جل اسمه من دعاء لا يسمع ، و علم لا ينفع ، و عمل لا يرفع ، فهم الجواد الذي لا يخيب من أمله ، ولا ينتصر من خذله ، و لا يرد دعوة القاصدين ، و لا يصلح عمل المفسدين ، و هو حسبنا و نعم الوكيل ، و صلاته على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ، وسلم تسليماً كثيراً .

 

 

 

تم بحول من الله وقوة

 

   الفراغ من تنسيق الملف واعداده اليوم الثلاثاء 13 مايو الموافق 12 ربيع الاول محمود بن عبد الوهاب السالمي غفر الله له ولوالديه وللمسلمين اجمعين 

 

 

Publicité
Publicité
Commentaires
Publicité